خط أريحا.. الكونتينر.. وادي النار.. وبالعكس
نبيل عمرو | فلسطين
هنالك كلمات ما أن تلامس آذان الفلسطيني، حتى يقشعر بدنه من العذاب الذي كابده.. وسوف يكابده إذا ما احتاج إلى قطع مسافة كيلومترات قليلة من مركز عمله في “العاصمة المؤقتة” رام الله حيث الفصائل، الى جنوب الضفة. عبر الكونتينر ووادي النار أو من ثغر الضفة أريحا.
يقع حاجز “الكونتينر” على منتصف المسافة الواصلة بين شمال ووسط الضفة مع جنوبها، وفيه نقطة عسكرية، وغالبا ما تشاهد على الرصيف المقابل شبانا فلسطينيين أُمروا بالركوع على ركبهم، وأيديهم فوق رؤوسهم، دون أن يعرف أحد لماذا؟ وإلى متى؟ وقبالتهم يشاهد جنود جيش الدفاع أو حرس الحدود الذي آلت قيادته للوزير “الظاهرة” بن غفير، وهم يتضاحكون ويتمازحون، سعداء بالمشهد الذي ينتهي غالبا بجملة من كلمتين.. “يلله روخ” أو كلمة “ساع”.
هنالك أيام لا يؤمر فيه شبان بالركوع على ركبهم ولكن حين يقرر ضباط وجنود الحاجز تفتيش سيارة أو عدة سيارات، فسوف تجد نفسك ضمن طابور سيارات طوله عدة كيلومترات، يقل الافا مؤلفة من الادميين من مختلف الاعمار، وفي الانتظار مجهول المدى لا غرابة في أن يموت مريض، أو يولد طفل، وإذا ما اضطر سائق سيارة أجرة أو خصوصية إلى أن ينبه رجال الحاجز بإطلاق “زامور السيارة” حتى يعاقب الجميع، لإزعاجهم الجنود. فتتضاعف مدة الانتظار، ويطول طابور السيارات لكيلومترات إضافية، “فالزامور” شكل من أشكال الاحتجاج – هكذا يعتبره الجنود-!، وذلك لا يحدث كل الأيام ولكن حين لا يحدث تفتيش أو إنزال لشبان كي يؤدوا واجب الركوع، ووجوههم إلى الحائط تحدث طقوس تبديل الحرس، ما يؤدي إلى شلل في المرور، ذهابا وإيابا، ذلك يبدأ بإشارة من يد الجندي وينتهي بكلمة “ساع” فيعم الارتياح نفوس السائقين والركاب، لمجرد سماع الكلمة السحرية التي تساوي تنفس الصعداء.
وإذا كان حظ المسافرين جيدا أي في وقت لا تفتيش فيه، ولا تبديل للحرس ، ما يجعلهم يتوقعون مرورا سلسلا حتى يتفاجئوا ، وهذا ما يتم بعد مغادرة “الكونتينر” للمسافرين الى باقي أجزاء الوطن، وكذلك قبل بلوغه للمقادمين، بزحام أدهى وأمّر وأطول تعذيبا من كل الازدحامات المألوفة، ذلك حين تشارك مستوطنة “معاليه أدوميم” في احتفالات الدولة وأحزاب الحريديم، وحسب الرزنامة فلا يخلو شهر من احتفال، ومن أجل أن لا يضايق المحتفلين صخب المسافرين الفلسطينيين “المخربين” تغلق الطرق، ويصبح عبور بلدة أبو ديس التي عينها ترمب عاصمة لفلسطين بحاجة لطابور سيارات يبلغ كيلو مترات، ولوقت يحتاج فيه كل متر الى نصف ساعة كي يقطع، أما حين تتقاطر الاف للصلاة في الأقصى كل جمعة وعيد، فحدّث ولا حرج!
ودعونا نفترض أن حاجز الكونتينر سئم من التنكيل بالمارين ومنح نفسه إجازة للراحة ولبعض الوقت، فهنالك حواجز تمتلك قدرة سحرية على جعل الصف الاخر من الفلسطينيين في حالة اختناق قبل الكونتينر وبعده، إنها حواجز أريحا.. وما أدراك ما أريحا.. حين يقرر “جيش الدفاع” اغلاقها، فهي ومع أول دقيقة لوجود الحاجز وإلى أجل غير معلوم، تصاب بشلل تام، وتصاب رئة الضفة الوحيدة للتنفس مع الرئة الثانية “الأردن” باختناق مميت، فلا حياة في أقدم مدن التاريخ، ولا حركة فيما قبلها وبعدها، وهذا يشبه فروع نهر تتجمع في مصب الكونتينر، ليمارس جنود الحاجز هوايتهم في التفرج على الاف السيارات، وعشرات الاف المسافرين، فالجنود يشعرون بالراحة لأن “زميلهم” حاجز أريحا قام بالواجب وأكثر.
“الكونتينر” أكثر كلمة مأساوية يرددها الفلسطينيون الذين لابد من قطعه كي ينتقلوا من شمال ووسط الضفة الى جنوبها، بعضهم يسافر يوميا من العاصمة المؤقتة التي يعمل فيها، وبعضهم يبيت في سيارته من شدة التعب والملل، وبرد الشتاء وحر الصيف، والظاهرة التي لا حل لها هي أنه في هذا النوع من العذاب لا مجال لأن يغادر المحتجز في السيارة الى أي مكان، ولا مجال للسائقين للعودة من حيث أتوا!
ليس هذا كل شيء على صعيد عذاب الانتقال من مكان الى آخر، ففي غزة أجيال لا تعرف شيئا عن ما هو واقع خلف إيريز ورفح، وفي شمال الضفة لا يعرف أهل نابلس وجنين وطولكرم وغيرها ما يجري وراء حوارة، وفي كل الوطن يعيش كل الناس كما لو أنهم داخل كونتينر فولاذي بلا أبواب ولا نوافذ، يشبه خزان غسان كنفاني، ولكن هذه المرة بحجم بلد وشعب، خزّان مساحته ستة الاف كيلو متر مربع، وساكنوه ملايين المحتجزين.
هل الذي أطلق تسمية وادي النار على ما قبل الكونتينر وما بعده كان يتنبأ أو بمحض الصدفة. في كل الأحوال فالتسمية على مسمى.
هل يعرف العالم بكل هذا أو حتى ببعض منه، لنسأل سياسيينا الغارقين في أجنداتهم الخاصة وإذا بقي متسع فلنسأل عشرات سفاراتنا المنتشرة على كل مكان في العالم!! تحت عنوان “من أجل القضية”!