أدب

الاتجاهات الحكائية في شعر أبي عرب

الباحث: عمر عبد الرحمن نمر

تستهدف هذه الورقة أشكال توصيل الرسائل عند الشاعر أبي عرب، من خلال الأغنية الوطنية التي كتبها ، ولحّنها ، وغنّاها ، لذا تتوخى هذه الورقة أن تجيب عن الأسئلة :
ما الرسائل التي حملتها أغاني أبي عرب؟
كيف تشكّلت هذه الرسائل؟
وبالتالي تتقاطع الورقة في الإجابة عن السؤال المركزي : كيف بنى أبو عرب أغنيته ؟ ما عناصرها؟ وكيف ترتّبت هذه العناصر؟ وعند الشروع بكتابة البحث ، لم أجد في المكتبة العربية أي أبحاث أو دراسات حول فنانٍ فلسطينيٍّ قضى عمره مناضلاً ، ولم أجد مرجعًا يشير إليه العنوان … كل الذي وجدته هو ما اعتدنا قراءته من كتبٍ لنمر سرحان، والبرغوثي، وكناعنة ، وكأنّ البحث التراثي العام قد توقف، وتوقف معه البحث في الأغنية الشعبية ، وآليّة بنائها … وأمام هذا المعيق في قلة المراجع والأبحاث حول شعر أبي عرب وقصائده، عدت لما توفر من إبداعات الشاعر، القصائد والأغاني التي سمعتها ، وتأملتها ، وحاولتُ تصنيفها تبعًا لمعمارية بنائها، وخصائصها ، وطبيعة رسائلها .
من هو الفنان أبو عرب؟
أبو عرب ، إبراهيم محمد صالح ، شاعر ومنشد الثورة الفلسطينية ، ولد في قرية الشجرة ( بين مدينتي الناصرة وطبريا ) عام 1931.
اكتسب أبو عرب موهبته الشعرية من جده لأمه ” الشيخ علي الأحمد ” أحد وجهاء قرية الشجرة .
بعد نكبة 1948 لجأ أبو عرب إلى قرية كفر كنّا، ونتيجةً لشراسة المحتلين غادر أبو عرب كفر كنّا إلى قرية عرابة البطوف، ومكث فيها شهرين، ليتوجه بعدها إلى لبنان، ثم إلى سوريا، وتونس ومخيمات الشتات .
سنة 1948 استشهد والد أبي عرب خلال اجتياح الميليشيات الصهيونية لفلسطين، في حين استشهد ابنه ( معن ) سنة 1982 خلال اجتياح الصهاينة للبنان .
شهد أبو عرب في طفولته انطلاق ثورة 1936 ضد بريطانيا والصهيونية ، والتي كرّس لها جلّ أشعاره ، وأشاد بها وبمقاتليها وشهدائها .
أسس أبو عرب فرقته الأولى في الأردن سنة 1980، وسميت ” فرقة فلسطين للتراث الشعبي ” ، وتألفت من أربعة عشر فنانًا ، وبعد استشهاد ناجي العلي سنة 1987 – وهو أحد أقارب أبي عرب – تم تغيير اسم الفرقة إلى ” فرقة ناجي العلي ” .
ألّف أبو عرب ، ولحّن ، وغنّى أكثر من 400أغنية وقصيدة ، محورها : الأرض، واللجوء، والشتات، والحرمان، وحق العودة، وتصوير النضال الفلسطيني ، والاحتفاء بالبطولة والشهادة . (1)

ولعلّ في أغاني أبي عرب ما أسهم في الكشف عن صورة بناء المجتمع الشعبي، لأنها نبعت من صميم الشعب صورةً وممارسةً، ولفظًا ولحنًا فهي أغنية حية ” الأغنية الشعبية الحية ، تلك الأغنية التي نبعت من صميم الشعب لفظًا ولحنًا ، وتوارثها الشعب … وأسهمت مع غيرها من أشكال التعبير الشفوي في الكشف عن صورة بناء المجتمع الشعبي ” (2 )
نعم، إن المتأمل في أغنية أبي عرب يستطيع الكشف بسهولة عن صور بناء المجتمع ، المجتمع الفلسطيني الذي واجه قوى الظلم والظلام من احتلالٍ انجليزيّ، إلى هجمةٍ صهيونية ، قتلت العباد، واغتصبت البلاد، وشردت أبناءها إلى المنافي والمهاجر، نعم ، لقد ترجمت هذه الأغاني : أحوال الفقر والتشريد والحرمان ، واللجوء ، ثم النضال ضد المحتل من أجل تحرير الأرض، والعودة إليها .

عنوانٌ رئيس :
العنوان الذي لا تخطئه عينٌ في قصيد أبي عرب وأغانيه هو الأم، فلا تكاد مقطوعةٌ من مقطوعاته تخلو من ذكر الأم، فهي صديقة أبي عرب الأولى، وهي محاورته، وملهمته، يحكي معها أبو عرب ويحدثها ، يسألها فتجيب، وربما كان لهذه المركزية في النص ما يبررها، فقد استشهد أبو الشاعر وهو شابٌّ يافع ، فكانت الأم تمثل الوالدين له، ولعلّ في معاني الحرمان والفقر ما يتلاءم مع الأم، فهي التي تحاول أن تدبر أمور البيت من غوائل الزمن، ولعلّ في الغياب والهجر والنفي والتشريد، ما يتلاءم مع الأم أيضًا، فهي التي كانت تعيش مع ابنها في غيابه، وتنتظر سلاماته ورسائله، كما تنتظر أن تلتقيه جسديًا .
” إن الصورة الطبيعية للأم في التراث الشعبي، وفي الحياة الواقعية هي صورة الأم الحنون، ذلك إن هذه الصورة تشمل الغالبية العظمى للأمهات، فالأم هي الحارس الأمين، والمربية النشيطة الدؤوب لأولادها، حتى إذا ما كبر الأولاد ظلّت الأم تحرص على مصالحهم، وتزودهم بالنصيحة والمساعدة المادية والمعنوية ما وسعها ذلك ” .(3)
وفي هذا السياق التأويلي التحليلي نجد أبا عرب يتحدث مع والدته ، يحكي لها الحكاية ، يسألها، ويحاورها، فهي الأقرب له معنويًا على الأقل :
يا يمّه في دقّة ع بابنا
يا يمّه هاي دقّة حبابنا
يا يمّه هذول النشاما
يا يمّه طلاب الكرامة
يا يمّه ما بنربى يتامى
يا يمّه هي دقة فدائية (4)

يناديها نداء القريب (يا)، ولك أن تتخيل الشاعر، وقد سمع دقاتٍ على باب بيته في الليالي المظلمة ، تفزع الأم عند سماعها الدقات، وتخاف من المجهول، لكن أبا عرب وبأسلوبٍ إخباريٍّ بسيط، يكشف لها السؤال المحيّر، ويطمئنها بأنّ هذه دقة فدائيين.
ومن هذه الأغنية (يا يمّه في دقّة ع بابنا) التي غناها أبو عرب، يقول: حدثت في سبعينيات القرن الماضي لشابٍ اسمه بلال ، حيث هجر بلال بلدته في بيت لحم ، إلى لبنان، وهناك التحق بالعمل الفدائي، تسلل بلال مع مجموعته ( 777 ) إلى فلسطين لتنفيذ عملياتٍ ضد الغزاة، بعد أن أنهى مهمته فكر بلال أن يزور قريته في بيت لحم، ويرى أمه ويتفقدها قبل أن يغادر، دقّ الباب بعد منتصف الليل ، ردّت الأم : مين ؟ – أجاب : ابنك بلال … لم تصدقه ، وكان قد أشيع عنه أنه استشهد، وأقام له الأهل بيت عزاء ، لم تصدق الأم، واعتقدت أن الاحتلال ينصب لها كمينًا، ليكتشف المحتل من يتعاون مع الفدائيين … لم تفلح دقاتُ بلال في فتح الباب، فذهب إلى الجارة، وأخبرها بالحال، ذهبت الجارة وبلال إلى بيت الأم وأقنعاها أنّ هذا بلالًا … اقتنعت الأم، فتحت الباب، بدأت تقبله، وتقبله، وتقبل بارودته … وبعد عودة بلال إلى لبنان التقى أبا عرب، وحكى له القصة ، فكتبها أبو عرب بروح الفنان وغنّاها. (5)ويحدث أمه، ويحكي لها، كيف تحول الفرح إلى حزن، والوطن إلى منفى، والحياة إلى فقرٍ مدقع، والعيد حتى العيد إلى ذكرى حزينة :
يا يمّه لو جاني العيد يمّه … قلت العيد لصحابو
شو بنفع العيد … للي مفارق حبابو ؟
يمّه .. يمّه .. يمّه .. آآآخ يمّااا
يحكي أبو عرب لأمه عن مفاهيمٍ تغيرت من حالة الفرح والسرور إلى حالة البؤس والشقاء … من حالة لمّ الشمل، إلى حالة التشرد والنفي… ويتابع أبو عرب :
العيد يا يمّا لما بلادنا بتعود … وأرجع ع أرض الوطن وأبوس ترابو
ويسائلها ، بطريقةٍ مفجعة :
كيف يكون العيد ، وأولادي قسم منهم تحت الردم، والآخرون في البرد، ثم يقرر رغم الحزن والجراح :
عيدي يا يمّا ع حدودي … الناس تعيّد إيد بإيد يا يمّااا … وأنا بمسح بارودي…(6)
هدّي يا بحر هدّي:
ما من شعبٍ تشرد أكثر من الشعب الفلسطيني، فقد كنت ترى العائلة الواحدة قد قسّمت بين أرضٍ احتلها الصهاينة في 1948، وأخرى احتلت في 1967، وقسم منها في الأردن، وآخر في الخليج العربي، أو في دول أوروبا شرقيّها وغربيّها، وأمام هذا الغياب الدائم، وظّف الفلسطيني الرسالة ( المكتوب )، وربما كان – مع بطئه – هو الوسيلة الوحيدة للاتصال، وقد قالوا: المكتوب ثلثا المشاهدة … وقد راقت لشاعرنا هذه الوسيلة للتعبير عن شوقه، وحرمانه من زيارة وطنه، بل والسكن فيه، وهذه الوسيلة ( الرسالة ) تحدث فيها أبو عرب عن الوطن بحالاته كافة، وعلاقته بهذا الوطن في الحالات كافة أيضًا … وملأ رسالته سلاماته وتحياته للأهل ، وللتراب ، وللطير ، وللشجر .. فهو يمزج هذه السلامات بعناصر أخرى موجودة في المحيط ( شجر، وطير، وبيادر، وكروم، وفراشات … إلخ ) لينتج من هذا المزيج صورًا تزخر بالعواطف، وتتزين بالمشاعر والأحاسيس، مما يتيح للمتلقّي أن يعيش هذه الصور في ترحالية حالمة شجية، ملفوفة بالحزن والبؤس والشقاء …
يغني أبو عرب :
يا توتة الدار صبرك ع الزمان إن جار
لا بد منعود مهما طوّل المشوار
هدّي يا بحر هدّي
طولنا في غيبتنا
ودّي سلامي ودّي
للأرض اللي ربتنا
سلملي ع الزيتونة
وعلى أهلي اللي ربّوني
بعدا إمي الحنونة
بتشمشم بمخدّتنا
سلّم سلّم ع بلادي
تربة بيي وجدادي
وبعده العصفور الشادي
بغرّد لعودتنا
ودّي سلامي يا نجوم
ع البيادر والكروم
وبعدا الفراشة بتحوم
عم تستنظر عودتنا
واحمل لبلادي سلام
لخوالي وكل العمام
وبعده زغلول الحمام
عشّو على توتتنا (7)
عند التأمل في هذا النص، نجد:
1. أخذ النص طابع الرسالة، رسالة مرسلة من محب غائب لأهله وأرضه ، بما تتضمن هذه الأرض من عناصر … لذا نجدها مكتظةً بالسلامات المرسلة والتحيات من مشرد مشتاقٍ إلى وطنه .
2. من بداية النص يقرر الشاعر أن الغياب قد طال، وظهر جور الزمان وغدره، وهنا وظّف الشاعر شجرة التوت المزروعة في الدار كي يخبرها بذلك .
3. يطلب أبو عرب من البحر أن يهدأ، وأن يبطئ أمواجه، وذلك إما كي يحمّله أكبر كمية من السلامات للأهل والوطن، وإما يطلب من البحر أن يهدأ ويستمع إليه ، ويصغي لمعاناته ، ولم يأتِ الشاعر بلفظة البحر صدفة، فالبحر هو أحد شهود المأساة، فهو الذي حمل اللاجئين من مساكنهم الآمنة إلى أماكن التشرد والنفي في أشتات الدنيا …
4. يكرر الشاعر لفظة (سلملي)، وهذا إن دل على شيء فإنه يشي باشتياقه، وحنينه لوطنه ، ومحبته له.
5. يمزج الشاعر في سلامه العناصر بعضها مع بعض، ليكوّن مزيجًا يتأتى عنه صورة مبتكرة غير مستهلكة ، من هذه الصور، فهو يسلم على:
• شجرة الزيتون؛ بما تمثله من امتدادٍ وأصالة، وعلى الأهل الذين ربّوه، ونلاحظ ظهور صورة الأم الملوعة ، المنتظرة ، التي تعيش ببؤس وقلق ” بعدا إمي الحنونة .. بتشمشم بمخدتنا ” صورة الأم التي تحمل وسادة أبنائها، وتتلمسّها، وتحسس عليها ، ثم تبدأ بشمّها من كل جوانبها ، وهذا يقتضي هطول دموع الأم، التي بلا شك تبلل المخدة. إنها صورة عاطفية حدّية ، تأتت من الطاقة التي استثمرها الشاعر في فعل الشمّ، والزيادة عليه ” بتشمشم ” .
• بلاده ، وتربة آبائه وأجداده .
• على العصافير والطيور التي تنتظر عودة الغياب .
• على الفراشات الطائرة التي تنتظر عودة الغياب .
• على البلاد ، والأخوال والأعمام .
• على الزغلول، صغير الحمام، الذي بنى عشه على التوتة .
• للبيادر والكروم : يطلب من النجوم أن تحمل سلاماته وأشواقه للبيادر والكروم ، والبيادر تحمل في معناها : الخير والعطاء، والسهر، والتعاليل، والحفلات الصيفية التي كانت تقام عليها،
والكروم أيضًا تحمل معاني الخير والكرم والعطاء …
وكأنّ الشاعر هنا يقارن بين حالٍ مضى، فيه السعادة والرخاء والفرح، وحالٍ قائمٍ فيه البؤس والشقاء والتعاسة .
6. نكاد نلحظ التماهي في سلامات الشاعر في رسالته، ولندقق بين كل صدر بيتٍ وعجزه:
الزيتونة  أمي الحنونة ( وتتماهى الأم أيضًا مع الأرض والوطن ) .
بلاد  تربة الأهل والأجداد .
النجوم  البيادر والكروم .
البلاد الأهل، والطيور، والفراشات .
7. الملاحظ هنا أيضًا كيفية جمع الشاعر للقوى في معسكرين اثنين : معسكر أعلن عنه، يتمثل في: الأهل، والأرض، والزيتونة، والأم، والبلاد، والنجوم، والكروم، والبيادر، والطيور والفراشات ، كل هذا التجمع الوديع، ضد معسكرٍ أخفاه، وهو معسكر الاحتلال والاستعمار، معسكر يغتصب أرض الإنسان ومقدراته … ولا شك أن النصر سيكون في جانب المعسكر الأول ، طال الزمن أم قصر …
8. في نهاية رسالته، يلخصّ الشاعر حال الوضع الماضي والحالي ، ويتخذ القرار :

وعهد الله وعهد الثوار
ما بنسى حقك يا دار
ومهما طولنا المشوار
راجعلك يا ديرتنا
إذن ، لا بد من العودة … وهذا ما افتتح به الشاعر نصّه، وكأنّ الرسالة دائرية … إن هذا النوع من الرسائل الطربية يتيح للشاعر الاستطراد في التعبير، فهو يتسع لما شاء الشاعر من المعاني ، ولما أراد من الرسائل، ولمن أراد من المرسل إليهم … والعنوان الرئيس هو ( التحدي ) .. في أجواء الطبيعة ، والرومانسية بشكلٍ عام .
وكما توسل أبو عرب البحر لحمل رسالته وسلاماته للوطن والأهل، فهو يتوسل الطير أيضًا لحمل هذه السلامات، لما تمثل من محبة وحنين، ولكنه في هذه المرة لا يتوقف عند بيته ، وشجرة التوت، وبيئته الصغيرة، بل يكبر هذا المحيط، ليشكل خارطةً لمدن الوطن وقراه في مناطقه المختلفة، فمن خلال (لسان الطير)، المعبر عنه،استطاع أبو عرب أن ينتج الصورة السلبية التي تلائم بُعد المشتاق، ولوعة الغائب، وعدم قدرته على العودة إلى أرضه نتيجة قوانين المحتل : ففي زفرات الشاعر وآهاته، نرى الطير غير القادر على حمل الغائب إلى أرضه، ورغم هذا العجز فإن باستطاعته حمل السلامات والاشتياق ، أوووف ….أوووف… أوووف…

أنا لأبعث سلامي لطرف مِرسال ..
ودمعي ع فراق الوطن مُرسال ..
يا طير ال بالسما ع الوطن مرسال .. بعدها الدار تبكي ع الغياب
يا طير يا طارش ع حمانا .. روح مرسال .. بعدها الدار تبكي ع الحباب…
وتكتب الرسالة بالدموع الحارة، والآهات، وتكون ممهورة بالتحايا والأشواق والسلامات …
سلمّ ع عكا والجليل الغالي
بير زيت وحيفا وعين غزال
ع القدس ويافا مع غزة وجبالي
ع نابلس ورام الله مع جنين
ع خانيونس رفح قلقيلي
ع اللد ع طوباس ع الخليلي
ع بير السبع لاقيني لاقيني
ع طولكرم السيلة مع برقيني
ع طبريا أم الفحم بيسان
دبورية مع لوبية وطرعان
ع الناصرة وصفد كنعان
ع الشجرة ع البيرة مع حطّين (8)

ويرسم الشاعر في رسالته خريطة فلسطين التاريخية من خلال سلاماته، فيظهر في النص ذكر: عكا، والجليل، وبير زيت، وحيفا، وعين غزال، والقدس، ويافا، وغزة … إلخ .
وهنا، وبواسطة الرسالة التي يتحدث أبو عرب من خلالها، نؤكد مرةً أخرى، إمكانية اتساع الدائرة، والاستطراد في الحديث، والمزج بين المدن والقرى في مناطقها كافة ( حتى القرى المهجرة : عين غزال، ولوبية والشجرة … ) .

أبو عرب يرثي:

لم يترك أبو عرب شاردةً أو واردة تمتّ للقضية بصلة إلا وتحدث عنها، تحدث عن الاحتلال، وطرد الناس من بيوتهم، وتحدث عن المنافي والمخيمات، وحياة الشقاء والفقر والبؤس التي عاشها أبو عرب كما عاشها الفلسطينيون، ورغم كل هذه المعاناة تحدث أبو عرب عن حتميّة العودة إلى الوطن، وهو حقٌ شرعي لكل منفيٍ عنه مشرّد .
تحدث أبو عرب عن كل هذا بنثريّة بسيطة واضحة العبارة، يفهمها القاصي والداني ( وهذا كان في مقابلاته الشخصية مع الإعلام، وأحيانًا في مقدمة أغانيه وقصائده ) كما تحدث عن هذا، وعبّر عنه في قصائده وأغانيه وأشعاره، بلغةٍ تبُثّ حزنًا، وبصوت شجيّ يزيدها حزنًا ، ولوعة … حتى ليحزن المتلقّي في طربه ، وبذا أصبح أبو عرب شاعر الثورة الفلسطينية ، ومنشدها …
ويبلغ الحزن مدىً بعيدًا، حتى تحس الشاعر يندب وينوح، والمتلقّي يكاد قلبه ينفط، والدمع يسيل عندما يتحدث أبو عرب عن الشهادة في سبيل الوطن، وعندما يتحدث عنالشهداء، وسنعرض في هذا الجزء من الدراسة نماذج عن الرثاء عند أبي عرب، وسنتطرق إلى رثائه لابنه الشهيد، ورثائه للقائد الرمز ياسر عرفات، وللشهيد ناجي العلي، علاوةً على رثائه لوالدته …

أ‌- في رثاء ابنه معن:

استشهد ابن الشاعر معن في اجتياح الصهاينة لبيروت 1982، وقد تحدث الشاعر عن صدمته عند تلقي الخبر ( مقابلة تلفزيونية مع الشاعر )، وعن معاناته وسيره بالسيارة أثناء القصف ليرى قبر ابنه ، الذي اشترك في معركة شرسة ضد الغزو الصهيوني، استشهد فيها ، كما استشهد معه سبعة من رفاقه …
بجملة تقريرية ، وبضمير (أنا) المتكلم يتحدث عن الشهيد، ويقرر بفخر أنه استشهد، ويظل مرتبطًاً بسلاحه حتى بعد استشهاده ، ويطلب من رفاقه أن يحملوه ويسندوه على خشب بارودته :

أنا استشهدت يا رفاقي احملوني
وعلى خشاب البارودة اسندوني

ويطلب منهم أن يتركوه في حفرته(قبره)، ليقبل الثرى، إذا لم يستطيعوا حمله ، ونقله إلى أهله :

اتركوني بحفرتي قبّل ثراها
إذا ما فيكو لأهلي تشيلوني

ثم تنتقل أنا الشهيد لتطلب وصايا عدة :

لأصحابه : أن يدفنوه تبعًا لقبلة الوطن، وهذا ينمّ عن مدى ارتباطه بالوطن حيًا وشهيدًا …

أمانة تحققوا لنفسي مناها
وعلى قبلة وطنّا مدّدوني

وبعد هذه المقدمة ، التي خبّرت عن تجهيزه ودفنه ، ينتقل للأم ويوصيها :

وخلّي الوالدة تزيد برضاها
وعني قبّلوا ايدها الحنونة
حلم الليل لو طيفي نداها
ندتني وين انت يا عيوني ؟

ويجيبها صوت من السماء :

جاوبها صوت من عالي سماها
أنا استشهدت تا أوفي ديوني

وللأخت :

وخلّي الأخت تخفف بكاها
دموعها فوق جرحي يجرحوني

ويتساءل الشهيد عن عدم ظهور دموع الوالد عند سماعه خبر استشهاده :

وأبوي كيف دمعاتو خفاها
لما رفاق معركتي نعوني ؟

وتتماهى الأم في الوطن تبعًا لرؤية الشهيد ، وتكون هي المعادل الموضوعي للوطن :

يا أمي بلادنا بعشق سماها
مثل عشقي لعطفك يا حنوني (9)

أما الأب فيجيب عن تساؤل ابنه الشهيد في مقطوعة رثائية أخرى، ويصف مشهد سماع الخبر، والصدمة الأولى ، ثم يعلن موقفه من الشهادة :

لما رجعوا يابا ربعك
وباللي صابك بلّغوني
ما سألتهم كيف موتك
في بطولتهم نعوني
حينها نشفت دموعي
ووقفت الرعشة بظلوعي
قالوا مات البطل صامد
ينتخي بعزة ربوعي
عندها رفعت راسي
وراحت بصدري المآسي
يا ابني لأقسم في حرمة ترابك
ودمك هاللي عطّر ثيابك
فرحت يابا بنجاحك
يوم حصلت الشهادة

إنه الفقدان المطلق، الموت، الذي يبعث على الحزن المتواصل، والبكاء والدموع، لكن ، وكما يقول أبو عرب ، إن الشهادة ضريبة يدفعها الفلسطيني تجاه تحرر وطنه، وبالتالي فهي شهادة فخرٍ وعز للشهيد وذويه :
ياللي فيك رفعت راسي
وقدمت عني الضريبي
اسمع امك عم تزغرد
وتصيح حيّك يا حبيبي (10)

ب‌- أبو عرب يرثي أمه:

ذكرنا فيما سبق علاقة الشاعر بوالدته، ومركزية هذه العلاقة في إبداع الشاعر، لذا يتحدث الشاعر عن مأساة الوحدة، إثر فراق والدته، والسهر والبكاء والدموع لفقدانها، وهو كما أسلفنا يعبر عن ذلك بعباراتٍ بسيطة مشحونة بالحزن، مبللة بالدموع، فهو ينادي دموعه ويستحثّها على الهطول، كي يشفي غليله ، وكأن الدموع يمكنها غسل أحزانه :

يا دمعة تحدّري بخدّي وسيلي
دعيني بالبكا أشفي غليلي
دعيني ساهر النجمات وحدي
وبكّي الليل ليلة بعد ليلي
على فرقتك يما انفطر كبدي
وبعد فراقها تايه دليلي

بعد هذه المقدمة الدمعية، يصور الشاعر مشهد الموت الحقيقي، حركة بعد حركة، وسكنة بعد سكنة :

ع فراش الموت نَهدي بعد نَهدي
ونفسها تنم عن روحها العليلي

ورغم موقف الموت ، يُظهر الشاعر التحدي والأمل، حتى في روح الوالدة المفارقة :

قبّلت يدها رفعتها بتحدّي
وصارت فوق أوطاني توميلي

ويدور حوار ، وكأنّ الجسدين عصيّان على الفراق، وتتأتّى صورة الشجرة ( بلد الشاعر ) :

قالت لي : شايفة هالوطن حدّي
الشجرة يافا مع أرض الجليلي
قلت لها : الأمل يمّا ما عاد يجدي
سراج الموت ع آخر فتيلي

وتلتقي العيون الحزينة، وتلتقي الدموع :

والتقوا دموعي ودموعها ع المخدة
كأنها عارفة الفرقة طويلي

ويظهر العنفوان والتحدي وكأنهما سلاحان يقطّعان الظلام واليأس :

قلت : يمّي اسمعي يا أمي عهدي
ما عدت أعيش في غربة ذليلي
خلقنا للرجولة والتح
أبواب الموت دقّي وافتحيلي
يافا يافتي واللد لدّي
ما برضى تعيش في حكم اسرائيلي
لأرجع ع أرض بيّي وجدّي
وما عدنا نعيش بغربة ذليلي (11)
إن المتأمل في هذا النص الجنائزي، يلحظ المعمارية الحزينة التي اتكأ عليها الشاعر، تلك البنية التي خففت من لوعة الفراق والفقد المطلق، فقد انبنت المقطوعة على مقدمة، ثم تصوير لحالة الرحيل التدريجي ، ثم جاء الحوار بين الشخصيتين ، والذي أظهر نماذج من قوى الوطن ومدنه، وانتهى النص بالعهد المعتاد للشاعر، في حتميّة الانتصار والعودة إلى الوطن الذي غادره … وخلاصة القول ، فقد استطاع شاعرنا تصوير وفاة حبيب قريب على قلبه في أرض الشتات والمنافي، وهنا يكون الموت مركّبًا .

ج‌- يرثي القائد الرمز ياسر عرفات:

يبدأ أبو عرب نصه بالندب والنواح، فينادي الدنيا يناجيها، كما ينادي نسر السما، ويطلب منه البكاء … ثم ينتقل في النصف الثاني من العتابا الحزينة إلى الحكمة، كل هذا بتوظيف ضمير المتكلم ( أنا ) ، وعلى لسان الشهيد :
يا دنيا قرّبي صوبي وناحي
بكّي نسر السما عليّ وناحي
والله وليفي اللي ما بييجيلي وأنا حيّ
شو لي فيه عند هيل التراب ؟..
ومن الوليف الذي قاطع أبا عمار ولم يزره، وهو حي، وتذكره فقط عند دفنه، يشتق الشاعر علاقة المرثي ببعض الناس … والحكومات ، وهنا نشهد الاختلاف والتنوع في جو بناء المرثية، فالرجل قائد سياسي ورمز، فجع استشهاده الشعب كله، ونتيجة وضع الرجل، تتسع عناصر الرثاء لتحاكم بعض الناس :
ما بدري ليش خِلّاني عادوني
أتوني ع زيارتي حتى يعيدوني
وبعض الناس في الماضي عدوني
أتوني ع زيارتي حتى يعيدوني
وتسافر المرثية إلى باريس ، حيث كان يتعالج القائد الذي أدرك أن طب فرنسا وقف عاجزًا عن علاجه ، لذا طلب من أصحابه أن يعيدوه للوطن، فتراب الوطن هو علاجه وشفاؤه :
من باريس لبلادي عيدوني
أنا بشفى إذا شمّيت التراب
ما لي طب بفرنسا عيدوني
أنا بشفى إذا بشمّ التراب
ثم يرسم الشاعر لوحتين متضادتين، واحدة لأطفال الوطن الذين يمثلون الانعتاق،والحرية والأمل ، والثانية للأعداء الذين غدروه وسمّموه :
أطفال الوطن بتغاوى باسمهم
نشامى ترى ويشفيني بسمهم
إذا الأعداء غدروني بسمّهم
لومي على أهلي والقراب
إذا الأعداء غدروني بسمّهم
لومي على بعض حكام العراب

ويلوم أقرب المقربين :
أنا لومي لومي ع الوليف ال هجر ودّو
جرحي بالقلب انزاد ودّو
ويوصي بأن ترسل تعازيه لثوار العرب جميعهم في حال موته :
أماني أماني أماني إن متت ودّوا
تعازي لكل ثائر بالعراب
ثم يتغير ضمير الخطاب من ( أنا ) إلى ( هو )، ويعمم الشاعر المأساة على بيوت الشعب كلها، ويطلب من الشعب أن يكونوا أوفياءً للقائد، فهو لم يتخلّ يومًا عن الحقوق، وبقي صلبًا، محافظًا على الثوابت …
فلسطين الحزينة مات خِلّا
ياسر عن حقوقها ما تخلّى
يا شعب بعهد ياسر ما تخلّى
أمانة توفوا عهدو بالتراب
وتلخص العتابا الختامية مشهد طائرة تحمل جنازة القائد، بعلمها الأسود، ويظهر في المشهد اللوم الأخير على العروبة وأنظمتها، تلك الأنظمة العاجزة عن حماية الرئيس، وهو محاصر في المقاطعة، ويموت ببطء أمام ناظريهم :
لفّت طيارتك أسود عَلمها
ولفلسطين ما أعطت عِلمها
يا ويلي قدس مجروحة بتنادي على أمها
على أمها العروبة وما حدا لبّى الجواب (12)
نعم، لقد كانت الفاجعة كبيرة، وكان النص استثنائيًا، مزيجًا من النواح، ولوم الأصدقاء، والحكام العرب وفيه إقرار بأن فرنسا عجزت عن علاج مرض الرئيس… وأخيرًا هبطت الطائرة المفجوعة في أرض المقاطعة في رام الله، ونزلت الروح تعانق أرض فلسطين .

د- يرثي الشهيد ناجي العلي:
الشهيد ناجي العلي، الفنان، رسام الكاريكاتير الشهير، استشهد غدرًا في لندن سنة 1987 ، وهو من بلدة الشجرة المهجرة ( بلدة الشاعر ) ومن معارفه القريبين … صدمه خبر استشهاده، وأسمى فرقته باسم ( فرقة ناجي العلي للتراث الشعبي ) تخليدًا للشهيد …
اعتمد الشاعر في رثائه للشهيد على مقطوعة تراثية للشهيد، تأسست على اللازمة ( طلت البارودة والسبع ما طل .. يا بوز البارودة من الندى مبتل ) حيث حوّرها الشاعر لتصبح : ( طلت البارودة والبطل ما طل .. يا بوز البارودة من دمّو مبتل ) …
وتأتي هذه المرثية على لسان الشهيد ( أنا الشهيد )، ويحمّلنا الشهيد أمانة، أن نرسل قطرات من دمه لتروي عشب فلسطين … فالمناضل مرتبط بالوطن حيًا وشهيدًا ..
أماني .. أماني .. أماني .. أماني بصدركم ياهلنا
لو متت ودّوا قطرة من دمي تروي العشاب ..
ثم تدور اللازمة : طلت البارودة … وكأنها تعزز البكاء والنواح … وتستدعي استمراره…
ثم يتحدث الشاعر عن حادث استشهاد ناجي العلي ، واغتياله غدرًا، ويأتي الحديث هنا على لسان بارودة الشهيد :
صاحت البارودة تبكي على الفنان
وهو عم يشكي من غدر الخوّان
ثم تدور اللازمة : طلت البارودة …
ويتماهى الشهيد بالأرض، يتماهى بمخيمه ( عين الحلوة ) ، ويكون الدمع ..
ويظهر في المشهد الحزين خالد ابن الشاعر، ليكون الأمل، وهو الذي يكمل مشوار والده :
عين الحلوة ناجي دمعة عم تبكي
إذا بتعديها والقدس تنادي
جودي يا حنوني بدمعك جودي
خالد نور عيوني ع قطع خدودي (13)
وتنتهي المقطوعة باللازمة : طلت البارودة والبطل ما طل …
لوحات تعبيرية :
في هذه اللوحات يتحدث أبو عرب عن مشاهد متعددة، يظنهاالمتلقي بادئ الأمر أن لا علاقة بينها، وأنها مشتتة، ولكن المدقق فيها يرى أنها صدرت من رحم المعاناة، وترعرعت في بيئة اللجوء والبؤس والشقاء، وهذا ما يجمعها، كما تجمعها الألفاظ البسيطة التي تصف المشهد، وتقطر حزنًا ودمعًا ودمًا .. لوحات تُعجز ريشة الرسام … بعد ودما ودموع عيشتنا ، لنتأمل كيف صور الشاعر بكاء الليل فوق الخيمة، والأطفال تحت البرد، والجد المريض، والأخت الحائرة، والأيام تنقضي والبؤس يتفاقم :
شهر وسنة عم تمرق الأيام
والليل باكي فوق خيمتنا
وأطفال تحت البرد عم بتنام
خيمة وريحة الظلم عصفتنا
ولعلّ الصور هنا ليست مجازية أو خيالية، بل يمتح أبو عرب من الواقع، وينسج الصور التي تقرر الواقع، وتوثقه :
وجدّي مريظ بتوكله الأسقام
أختي وأنا بنلوك دمعتنا
وتظهر الأم ، بحزنها ودموعها ، تحكي عن القدس، وعن خذلان الحكام العرب للفلسطينيين، ولذا فإنها تزيد الألم آلامًا :

أمي حزينة دموعها أرقام
أرقام تحكي بعد نكبتنا
تحكي عن المعراج يا إسلام
عن مهد عيسى وعن كنيستنا
وكأنه يحاور الأم ، ويقول إنه يرفض الذل ، وينادي بالثورة :
نحنا يا أمي بذلّ ما بننام
وردّ الردى والفدا عادتنا
لازم نفجر حمم من الخيام
ونسمع التاريخ صرختنا
وكأنه يهوّن على الوالدة، ويرحل الشاعر إلى رومنسية يصف فيها وطنه، وطن السعادة والفرح :
ويا أمي أنا دمعة من الأيتام
ونوح الحمامة فوق تينتنا
وشبّابة الراعي ورا الأغنا
وعنّت عتابا فراق ديرتنا
وتنهيدة الحصاد تالي العام
وموال من رجاد حقلتنا
وبفيّ زيتونة معبعببين
ريحة خبز طابون حارتنا
ومن الرومنسية إلى الثورة والتحدي مرةً أخرى، فهو يتذكر عملية دلال المغربي ( 1978 )، وفدائي يفجر الألغام في المحتل في عملية السافوي :
يا أمي أنا صرخة دلال تصارع الإجرام
ع أرض حيفا وحَد ديرتنا
وزهرة فدائي فجّر الألغام
بسافوي حتى الناس سمعتنا
ويتحدث عن رجولة الفلسطيني وبسالته في تصديه للغزاة الصهاينة، فهو يذكر المتلقي بمعارك العرقوب ، والخيام ، وتبنين في لبنان ، كما أنه يذكره بمعركة الكرامة، التي خاضها الفدائيون بمساندة الجيش الأردني، وانتصروا فيها، ويذكره بمعارك الأغوار :
قوموا اسألوا العرقوب والخيام
تبنين تتغنّى برجولتنا
فينا الكرامة تزايدت إكرام
الأغوار عم تبكي ع سيرتنا
وفي نهاية النص ، وبناءً على معطيات الواقع ، يستخلص الشاعر النتائج، والتي أوردها على شكل نصائح لأمه :
يا أمي كفانا نعيش بالأوهام
كذب ودجل ووعود حاجتنا
حاجتنا نشكي الظلم للظلام
ونبوس إيد اللي ذبحتنا
يا أمي كفانا نعيش بالأحلام
ما عاد بدها شرح حالتنا
بدها رجولة وتضحية وإقدام
بدها عروبة تصون ثورتنا (14)
إنه يرفض الوهم ، والكذب، والوعود الزائفة، وهذا الرفض تأتّى من تجربة هذا الشعب، نعم، كفى شكوى الظلم للظلّام، كفى … كفى … وكل ما يلزمنا من أجل التحرير والعودة هو الرجولة والتضحية والفداء ، كما أننا بحاجةٍ إلى حاضنة العروبة التي ننتمي إليها وتحمي ثورتنا ….

خاتمة:
يشكل أبو عرب مدرسةً موسيقيةً متفردةً، بما تتضمنه هذه المدرسة من رسائل شعرية هدفها كل عربي بشكل عام، وكل فلسطيني بشكل خاص، حيث استطاعت مدرسة أبي عرب أن ترصد حال الفلسطيني المُهجّر من أرضه، وحال الفقر والحرمان الذي يعيشه، ومن ثم وثّق الشاعر هذه الصور، في نصوص موسيقية تطرب لها الأذن، رغم الحزن الذي تبثه، والبؤس الذي يشع منها…
لم يترك أبو عرب شاردةً ولا واردةً من عناصر القضية الفلسطينية إلا تحدث عنها، وذكّر بها، فقد تحدث عن الوطن الضائع، والمنفى البائس، وحتمية حق العودة، وقضى الرجل حياته ينتظر لحظة العودة للأهل والوطن والثرى…
لقد غنّى الشاعر، واتّخذ من المناضلين والشهداء والأسرى والمحرومين أبطالاً لقصائده، ونوّع في طريقة إبداعه رسائله، فقد اتكأ على الأم، وسما بها، حتى تماهت معانيها مع الأرض، وجاء بقصص إخبارية حملت الواقع، ونهضت به نحو المستقبل، فكانت قصص التأمل التي تضمنت معاني المقاومة والتحدي، والثبات على الثوابت، وفي مقدمتها حق عودة اللاجىء إلى وطنه… كما تحدث الشاعر عن سيرة الشهداء وتاريخهم، ووصف عمليات مواجهتهم مع المحتل واستشهادهم…
ومن الوسائل الأخرى التي نقل بها الشاعر رسائله، إبداعه للّوحات التعبيرية، تلك اللوحات التي تبدو للوهلة الأولى أنها مشتتة، لكن – في الحقيقة- يجمعها الحنين للوطن، وحياة الفقر والحرمان، وحياة البؤس التي يحياها اللاجىء…
نحن أمام قامة شعرية وطنية مميزة، وربما فريدة، وحالة إبداعية تمتلك طاقة هائلة في الوصف والتعبير، والإخبار والتقرير، أنتجت أكثر من 400 أغنية وقصيدة، كتبها الشاعر، ولحّنها، حتى إذا ما استوت على سوقها، أخرجها قطعاً موسيقيةً تشنّف الآذان، ومن المؤسف – وفي حدود اطلاعي – أن لا تجد بحثاً واحداً جدّياً عن أعمال الرجل؛ لذا فإن هذه الورقة المتواضعة التي بحثت في شعر أبي عرب، لتستحث الباحثينللعمل في إنتاج أعمال أبي عرب، جمعاً وتوثيقاً وتحليلاً، ليكون أبو عرب أنموذجاً رائعاً، كتب قضيته الفلسطينية بالكلمة الشعرية، والنوتة الموسيقية، وذلك في إطار من التفاعل بين الفكر النيّر والرؤية الفلسطينية الثاقبة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى