هارب من الكورونا

نزهة أبو غوش | فلسطين 

أصوات الصّافرات كادت أن تثقب أذنيّ، مكبّرات الصّوت لم تتوقّف عن المناداة: أيّها المواطنون، الحذر…الحذر! هناك مريض يحمل فيروس الكورونا يتجوّل في المدينة. أرجو ممّن يشاهده أن يبلّغ عنه في الحال. أيّها المواطنون، عليكم الإلتزام في بيوتكم.
المريض شابّ، أبيض البشرة، شعره أجعد، يحمل حقيبة كحليّة اللون، ويلبس حذاء رياضيّا(أديداس) لون أبيض.
شعرت بأنّ قلبي يتحرّك في حلبة مصارعة، إِما قاتل، أو مقتول، لكن… يا الهي أين أذهب، سيقبضون عليّ ويزجّونني بالحجر الصّحيّ ..لا… لا سيسلّمونني في المشفى لقسم الطوارئ، ومؤكّد سأنتقل بعد أيّام معدودة إِلى رحمته تعالى. باختصار سيلحقني الموت.
رحت أركض دون وعي، قفزت الدّرجات بجنون، قطعت طرقات، وجبت شوارع خالية، وما زالت الأصوات تلاحقني، الأضواء لا تتوقّف، يبدو أنّها متواطئة مع الأصوات هي الأُخرى. ألا يوجد مكان في هذا البلد؛ كي أختبئ فيه؟ الحوانيت مغلقة، المتنزّهات، العمارات. ماذا أفعل؟ أشعر بأنّ دمي قد تجمّد في عروقي، لكن لماذا أنا؟ لماذا أنا بالذّات يصيبني هذا الفيروس اللعين.
الصّوت يتردّد في الأجواء” بشرة بيضاء، حذاء أبيض، حقيبة كحليّة “.
ليس أمامي إلا أن أخلع حذائي وأرميه بعيدا. مشيت حافي القدمين، حقيبتي الّتي تحمل كلّ خصوصيّاتي لا أقدر أن أرميها ..لا.. لا، لكنّ كلّ العالم سيتعرّف عليّ. اللّهمّ ارشدني إِلى الصّواب. سأرميها وأتوكّل على الله. فضّلت أن أرمي الحقيبة على أن أموت مثل الفطيس، لا كفن ولا وداع ولا تلاوة قرآن، ولا معّزّون؛ بل ربّما يحرقون جثّتي خوفا من العدوى، أو يدفنوني تحت سابع أرض؛ بصراحة أُفضّل الثانية، التّراب أحنّ علينا. خلقنا من التّراب وإليه سنعود. نعم سنعود! لكنّي لا أُريد أن أعود. بالذّات في هذا الوقت.
ما زالت الأصوات والأضواء تلاحقني، دست الشّوارع والطرقات دون حذاء ودون حقيبة، لكن ماذا أفعل بشعري الأجعد؟ حتما سيتعرّفون عليّ، شعري أجعد ..يا الله هذا ما أورثني إِيّاه والدي، لو كان شعري مثل شعر أُمّي!
قالوا “بشرة بيضاء” …نعم لون بشرتي أبيض. ألا من فحمة أصبغ بها وجهي؟ فحمة يا ناس.. فحمة يا بشر. ألا يوجد فحمة بهذا البلد؟ سأختبئ هناك في المدرسة بوابتها مفتوحة، الحمد للله رب العالمين. ركضت إِلى غرفة الصّف. من ؟ المعلّمة نيروز؟ ابتسمت وقالت لي ” آه تعال اجلس في مقعدك يا أحمد، واكتب الإملاء”
أمسكت القلم مرتجفا، أخذت المعلّمة تملي عليّ الكلمات:
اكتب هنا: ” إِنّ الانسان خلق هلوعا، اذا مسّه الشّر جزوعا”
اكمل: الانسان لوّث البيئة ودمّرها على مدار آلاف الأعوام. – لا تنس الشّدّة-
وهو يحاول أن يعقّمها الآن بمستحضراته الكيميائيّة، ههههه، لكنّه عبثا يحاول! – ضع علامة تعجّب يا أحمد-
اكتب بخطّ واضح: الإنسان مخلوق ضعيف، بل هشّ أمام عظمة الله – تاء مربوطة يا حبيبي-
اكتب عندك: أمريكا ضعيفة، وليست كما تتوهّمون يا سكّان هذا الكون الخنوعين.
أرجوك، سأكتب كلّ شيء، لكن أمريكا؟ لا أريد. قلت لك لا أُريد.
ركبني العناد، بحثت عن المعلّمة، فلم أجدها أين المعلّمة نيروز؟ لقد اختفت تماما. هل غضبت منّي؛ بسبب ضعف شخصيّتي، وعدم قدرتي على المواجهة؟ ولماذا تغضب، ما علاقة الوباء بالسّياسة أصلا؟….الأصداء تملا الفضاء، ” كلّها سياسة في سياسة، يا غشيم” أصوات ديوك أُمّ عامر في الحارة البعيدة: كو كو كوروووووونا!
ارتفعت عاليا فوق السّحاب. سبحت في الفضاء وغصت بين تيّارات الهواء، وتسلّقت الجبال الّتي في السّماء، فوجئت بشخص كنت أعرفه في طفولتي، رجل ذو هيبة ووقار…من؟ جدّي عبد الكريم؟ هو هو لم يتغيّر. نفس عباءته المذهّبة العريضة، ونفس لحيته الكثّة، وشنبه الأبيض الّذي يغطي شفته العليا، يبدو أنّ جدّي مشغول جدا، فقاعات الصّابون تتطاير من حوله، الرّغوة ملأت النّهر الّذي يجري في الجنّة. لم أُشاهد أنهار العسل، كلّ ما يجري رغوة بيضاء، لا تنتهي.
هتف من بعيد: ” ابتعد عنّي ألف متر، يا ولد، ألم تسمع بمرض الكورونا؟ ”
يا إلهي كيف وصلهم الخبر؟
– جدّي أنا حفيدك الصّغير أحمد، ألا تتذكر الحلوى الّتي كنت تهرّبها لي من خلف ظهر أُمّي؟ لقد كبرت يا جدّي، وأصبحت فردا مهمّا في مجتمعي، لكن…
– لكن ماذا؟
– أنا حامل مرض الكورونا.
– هذا اللي قدرتوا عليه يا ولد، تحملوا مرض الكورونا! جيل فاشل يعيش تحت سلطة زعماء فاشلين، كلّ همهم السّيطرة والهيمنة على البشريّة وثرواتها.
رحت أصرخ وأُنادي: ” جدّي أرجوك لا تتركني لوحدي، لا تذهب”
ما زالت الأصوات تلاحقني، يد قويّة تمسك بكتفي، وتهزّني بعنف:
– بابا صار لي ساعة بصحّي فيك، ماما بتحكيلك، هات لنا معك اليوم كوم كمّامات، وكوم قفّازات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى