اعترافات امرأة عربية غاضبة في كتاب ( هكذا قتلت شهرزاد ) للكاتبة جمانة حداد
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
يبدو أن هناك علاقة عميقة لا مفر منها بين مخطط حياة الكاتبة كحكاية من ناحية, وبين شكل الرواية نوعا أدبيا من ناحية ثانية لكننا يجب أن نلقي مزيدا من الضوء على هذه العلاقة الإشكالية المتزايدة في القص العربي المعاصر; ذلك أنها أضحت سمة مهيمنة على هذا القص ,لقد أصبح من دأب الكتاب أن يستخدموا موادا من حياتهم الشخصية الفعلية, وأن يعلنوا عن ذلك في متن النص الروائي نفسه, ولم يكن من قبيل المصادفة أن أشهر النصوص القصصية في السنوات الأخيرة كانت نصوصا ,سيرا ذاتية, أو شبه سير ذاتية, ومما يجدر ملاحظته هنا أيضا أن هيمنة الصيغة للسير الذاتية جاءت مواكبة لاتجاهات طليعية وتجريبية في الكتابة, لا في الأدب العربي وحده, بل في كل آداب العالم, لقد جاءت هذه الصيغة وكأنها إعادة اكتشاف للعلاقة الخصبة المربكة بين الذات والواقع, بين عالم الداخل ,وعالم الخارج [1]. ورواية السيرة الذاتية فن أدبي يتكفّل فيه الراوي برواية أحداث حياته، ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصيته الحيوية، كأن يكون المجال الفني ,أو الاجتماعي ,أو السياسي ,أو العسكري ,كلّما كان ذلك ضرورياً وممكناً، ويسعى في ذلك لانتخاب حلقات معيّنة مركّزة من سيرة هذه الحياة، وحشدها بأسلوبية خاصّة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير ومسلٍّ، ويحاول الراوي الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّه, ودعمه ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة، على ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الراوي الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد يتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي لا تتحوّل إلى سيرة غيريّة، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين الكاتبة, والمتلقي قائماً ,وواضحاً، كما ترتكز رواية السيرة الذاتية على آلية السرد ألاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة ,وساخنة للعمل في حقل السيرة الذاتية , وفي كتاب ( هكذا قتلت شهرزاد), للكاتبة جمانة حداد تستخدم تقنية حداثوية جديدة هي طريقة اعتراف الكاتبة بطريقة سيرية متميزة تعبر عن تجربة حقيقية مرت بها في حياتها الشخصية فروتها لنا على شكل رواية سيرة ذاتية , فنراها تقول : فمذ كنت طفلة في الشهر التاسع من عمري وأنا ارفض بشدة أن أتي عملا رغما عني سواء تعلق الأمر بارتداء معطفي الأحمر السميك الذي يضيق علي حركتي أو شرب الحليب في وقت لم أكن اشعر فيه بالجوع أو العطش [2], والروايةُ كما وصفها عدد من الروائيين، هي الفنُّ الذي يُوفِّقُ ما بين شغف الإنسان بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال، ولعل هذا الوصف ينطبق على الفن بصفة عامة وعلى الرواية ,ورواية السيرة الذاتية بصفة خاصة، حتى لو ادعى الكُتَّابُ أنْفُسُهُمْ غيرَ ذلك إلاَّ أنَّ روايةَ السيرة الذاتية تبقى إلى جانب ذلك عملاً أدبياً، أي لا بد للخيال من أن يكون له دور فيه، فالنص الأدبي لا يكتسب صفته الأدبية إلا بالانتقال من الواقع إلى التخْييل وبقدر نجاحه في ذلك يكون نجاح العمل بصفة عامة, وإذا أقررنا بنجاح عملٍ أدبيٍّ ما، فإن البحث عن أسباب النجاح هو بحث في قدرة الكاتبة جمانة حداد على رسم الواقع بصورة جمالية تلامس صورتها الأصلية مع مسحة فنية للخيال[3], ونجد ذلك واضحا في كتابها ( هكذا قتلت شهرزاد) , فنراها تقول : فمن أكثر الذكريات الراسخة في ذهني صورة تلك الطفلة ذات الفضول الذي لا يهدا تنتظر على أحر من الجمر خروج أهلها من المنزل كي يتسنى لها جر كرسي إلى مكتبة أبيها الضخمة تسلقه فالقبض على كل ما اخفي بعناية فوق الرفوف العليا , في الواقع خلال المراحل المبكرة من حياتي كنت أخال أن أمرين اثنين فقط يستحقان الاستحواذ على وقتي كلما سنحت لي فرصة البقاء بمفردي القراءة وممارسة العادة السرية , فكلاهما يتطلبان مقدارا من العزلة كي يتمكن المرء من التلذذ بهما [4], هنا عمل فني ينهض على أحداث, ووقائع من حياة الكاتبة جمان حداد مهما كان مغمورا, ولذلك يحدث أن تكتبها أستاذة جامعية لبنانية شابة كما في حالتنا هذه, أو يكتبها كاتب شهير كما في حالات كثيرة لكن هذا الاختلاف بين السيرة الذاتية, ورواية السيرة الذاتية لا ينفي أن بينهما تشابها بديهيا, مردّه أنهما كلاهما يستندان إلى تذكّر خاص لوقائع وشخوص من حياة الكاتبة, وتلك هي المشكلة: أنهما معا يقعان في المنطقة التي تفصل بين الخيال والحقيقة[5], إن صلة الإبداع الأدبي بِمُحِيطِهِ الاجتماعي والتاريخي هي من القضايا الفكرية المستعصية على التدقيق، وقد نتجت عنها استعمالات نظرية ومنهجية ذات مفاهيم تنتمي إلى عدة حقول معرفية: اجتماعية ونفسية وفلسفية، ولذلك فإن ما تقتضيه تلك الصلة حين يتعلق الأمر بالخطاب الحكائي هو الانتباه إلى حالة من التخييل المركب: ظاهر ومضمر، متحقق ومحتمل، محايد ومباشر، لولاها لظل أي تصوّر للتخييل الحكائي بعيداً عن امتلاك قيم ثقافية نوعية ودالَّة ,ولعل من أهم القضايا النقدية التي تناولتها الكاتبة جمانة حداد قضية التمايز بين المجتمع ألذكوري ,الأنثوي , فنراها تقول : ركيزة جدارنا العربي الثانية هي أنظمتنا المجتمعية البطريركية أنظمة تسهم في الترويج لها من جهة ذكورية استعراضية تافهة ما هي إلا قناع لانعدام الثقة بالنفس ولا تساعد على التصدي لها من جهة ثانية إيديولوجيا نسويه مأزومة وضيقة الرؤية أنظمة مهيمنة تعتبر المرأة كائنا بشريا من الدرجة الثانية وجد ليخدم او ليسلي أو ليمتع أو ليطيع أنظمة قامعة غيورة على أخلاقياتنا وأدبياتنا ومفاهيم العفة والحشمة والطهارة أنظمة تمييزية ترى في المساواة بين الرجل والمرأة هرطقة , أو مزحة ثقيلة الدم [6], من خلال اعترافات جمانة حداد في كتابها ( هكذا قتلت شهرزاد) تناولت قضايا حساسة في المجتمع العربي من خلال الثالوث المقدس / الدين / المرأة / الجنس و نقدها الفني الجميل وبأسلوبها السلس وجهت انتقادات إلى رجال الدين بكل الطوائف , و تناولت قضية الإلحاد في المجتمع وأسبابه لدى الشباب في الوقت الحالي , والجنس بكل انواعة وصوره المختلفة , وهو ينم عن ثقافتها العربية والأجنبية الواسعة , وامتلكها لجرأة الطرح عن قضاياها الشخصية دون عفة أو حشمة في الطرح , وهي تمتلك القدرة على الكتابة السيرية إذ تضفي سحرا خاصا يجعلها تنفرد بين أنواع السرود الأخرى بامتلاكها خاصيتي الذاتي ,والموضوعي بكفين متوازتين , الذاتي حين تتطابق هوية الكاتبة مع السارد , والموضوعي حين تفترق أنا الكاتبة , وتحتجب خلفها الشخصية وتستتر بظلها لتبرز هوية السارد واضحة الشخصية , والهوية الأولى الذاتية هي التي تميز السيرة الذاتية والسير بنحو عام , والمذكرات , عن الرواية طبقا لتقسيم تودوروف وتصنيفه [7], ونلحظ ثمة اقترابا في نص ما بعد الحداثة من نمط الكتابة السيرية, تجانسا مع الألفة الاجناسية المتحققة فيه , التي تندغم فيها الكثير من الخطوط النوعية إلى الحد الذي صارت فيه قضية نقاء النوع أسطورة كلاسيكية بالية أو قناعا متهرئا لا يصلح نقابا للنصوص الحداثية المشعة ببريق الحداثة المتنوع , والمضاد لكل مألوف ومسكون [8] ,فنراها تقول : كثر هم الذين يحبون طفولتهم ويستعيدونها بحنين أنا احتقر طفولتي وبودي لو أنساها برمتها باستثناء القراءات الملهمة التي رافقتني خلال هذه المرحلة وجعلتها اخف وطأة لن احتفظ ولو بتفصيل واحد عنها , في طبيعة الحال لا يمكني أن القي باللوم كله على الحرب اللبنانية فقط فلم تكن هذه الحرب إلا احد العناصر المدمرة الكثيرة التي أحاطت بي آنذاك من كل جانب ,[9] وفي المقطع الآتي من الكتاب تنتقد الكاتبة المجتمع وأمراضه النفسية, والجسدية التي تكون ضحيته المرأة المسكينة على لسان الساردة وهي واحدة من الذين فاضت كتاباتهم بتلك الألفة , ونزفت شرايين إبداعها بدماء ذات ألوان متباينة تمتزج , كما تمتزج خطوط اللوحة ألوانها , وهي حين تكتب سيرتها كثيرا ما يشير إلى أن أوراقا كثيرة قد نفذت منها إلى أشعارها , وكتبها الأخرى , ونصوص الحياة لا تماثل نصوص الكتابة , وتأبى أن تنخرط ضمن تراتبية المقولات الاجناسية , ولابد لها من الدخول في عمليتي التقطيع ,والمونتاج الفنيتين ليعيد الفن أنتاج الحياة ,فينفلت النص عن عالم الكاتبة , ومهما كان نص التأليف غرائبيا فنجد ثمة مسافة , تقترب أو تبتعد من الحياة, تفصل بين نص المؤلفة ,ونص الحياة , ليضع المؤلفة حدا فاصلا بين ما تروي, وما حدث , بين من يروي عنها وبين ذواتها , ويتخفى الراوي وراء صنوف الحكايات, والأخبار المتنوعة [10],لكنها تروي لنا سيرتها الجنسية الفاضحة ,وشعرها الايروتيكي الفاضح بكل جرأة ووقاحة , فنراها تقول :أول مرة أوردت كلمة قضيب في قصيدة كنت على الأرجح في الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين من عمري يومها قراها والدي ولا عجب فهو ووالدتي كانا ولا يزالان من ابرز قرائي والمعجبين بي فلم يملك نفسه من هول الصدمة علا صوته وراح يعترض ويحتج كيف تتجرئين على كتابة مثل هذه الترهات الشنيعة ثم نشرها بتوقيعك ؟ كانت نبرته تتردد ما بين الإنكار والسخط وهو يقول أما كان في أمكانك الاستعاضة عنها بكلمة عمود مثلا فأجبته في الحقيقة يا أبي لقد ضقت ذرعا بسلسلة الاستعارات التي لا تنتهي وبشتى الكنايات والألقاب المستخدمة لوصف العضو الذكري أنني اكتب قصيدة نثرية في وصف القضيب لتنشر في مجلة شعرية وأود أن اسميه باسمه كان الأمر بهذه البساطة وهذا التعقيد في آن واحد [11],ويشكل التماس بين الرواية والسيرة رافداً من روافد الرواية، باجتزاء جزء من السيرة يوظف في صلب الرواية على هيأة لقطات ذهنية، بعيدة عن التصوير الفوتوغرافي، مثل اللقطة التاريخية، فيما يتعلق بالزمن، أو الجغرافية، فيما يتعلق بالمكان، أو الرمز الأسطوري العارض ضمن السياق الروائي؛ أما أن توظف السيرة بكاملها لتكون رواية فهذا هو المستحيل، لأن السيرة ليست موضوعاً صغيراً يمكن أن ترفد به الرواية، لكنها موضوع له حدوده ومقوماته، لا يمكن أن يكون رواية، كما أن الرواية لا يمكن أن تكون سيرة، مهما كان الأمر , كتب رولان بارت في خطاب العاشق ما أخفيه بلساني ينطقه جسدي , أما أنا فكنت أريد أن انطق بلساني ما طلب من جسدي إخفاؤه ولأجل ذلك لم تزرع في ردود الفعل العدائية التي أحاطت بــ (جسد )أي دهشة فهذا بالضبط نوع الاستجابة التي كنت أتوقعها مع نبا صدور مجلة ورقية تعنى بـ (آداب الجسد وعلومه وفنونه) وهي لزيادة الطين بله مجلة باللغة العربية كما أنها فوق هذا كله مجلة ترأس تحريرها امرأة لها سوابق في تحدي المعايير. [12]
لقد اعترفت المرأة العربية الكاتبة والصحفية والأستاذة الجامعية اللبنانية بعدد من الاعترافات الجريئة التي وجهت فيها النقد الذاتي للدين ورجاله , وللمجتمع الذكوري , والى المرأة الخاضعة ,والخانعة للرجل الشرقي , فضلا عن قضايا الجنس الخطيرة والتي يترفع الكاتب عن ذكرها لما فيها من خدش للحياء وللعفة والحشمة العربية.
[1] ينظر مجلة نزوى : 13 .
[2] هكذا قتلت شهرزاد : جمانة حداد 66 .
[3] رواية السيرة الذاتية بين الواقع والمتخيل : 12 .
[4] هكذا قتلت شهرزاد : 65 .
[5] ينظر مجلة نزوى :14 .
[6] هذا قتلت شهرزاد : 13 .
[7] أصل الأجناس :تزفيتان تودوروف :118 .
[8] لعبة المتاهة في التأويل : د. بشرى صالح :127 .
[9] هكذا قتلت شهرزاد : 84 .
[10] لعبة المتاهة في التأويل : 128 .
[11] هكذا قتلت شهرزاد : 100 .
[12] م0ن : 121 .