من ذكريات النشأة الثقافية في مدينة قنا (1)
د. أمجد ريان | شاعر وناقد مصري
الشاعر حمدي منصور
في إحدى ندوات قصر الثقافة بمدينة “قنا” في أواخر عام 1976، أحب الحاج عبد النبى مدير القصر أن يقدم صوتاً قنائياً مختلفاً ، صوتاً شاباً يمثل مستقبل الشعر فى قنا، فقدم الشاعر “حمدى منصور” وبخاصة أنه كان الأخ الأصغر للشاعر عبد الرحيم منصور الذى اشتهر فى القاهرة شهرة كبيرة كشاعر وكاتب الأغاني المسموعة في الإذاعة، وبعد أن أنهى الشعراء الكبار إلقاء قصائدهم، نودى على الشاعر “حمدى منصور” وكنت أراه للمرة الأولى، فاخترق الصفوف نحو المنصة، لأنه كان يجلس فى المقاعد الخلفية فكان هذا مثار تعجبى بداية لأننى كنت أتصور أنه يجب أن يكون على المنصة أو فى الصف الأول علاوة على اسمه الشعبى “حمدى”، وهناك سبب آخر للعجب، هو مظهره شديد البساطة ونحافته ورقته ووداعة شخصيته، وإن كان يمتلك عينين ناريتين، متوقدتين بالذكاء والموهبة.
أمسك بالميكرفون وأخذ يصدح، ليرين على القاعة صمت كامل على عكس ماكان بإزاء إلقاء الشعراء الكبار ـ قال ببساطة وثقة:
ناسى فقرا
فقرا
فقرا
يرضعوا بالليل بز القمره
يطلعوا بنهار
يبقوا شعرا
ناسى فقرا
فقرا
وهنا دوت القاعة بالتصفيق الذى لم ينله واحد من الشعراء الكبار وتوالت قصائده، وأنا أستمع بإنصات وتلهف، وقد أعلنت فى قرارة نفسى، أنه لابد أن أقترب من هذا الشاعر شديد الإثارة والاختلاف، وفى اليوم التالى، وكنت قد ضربت معه موعداً ، وكان يوم جمعة ، التقينا على كازينو الجبلاوى، وظللنا من بعد صلاة الجمعة حتى صلاة المغرب، وشعرت فى اللحظة التى تركته فيها أن الكلام لم ينته بعد .. واستمرت العلاقة الحميمة التى تعلمت منها الكثير ، واستفدت من هذا الشاعر استفادات جذرية غيرت مجرى حياتى، وغيرت طبيعة ثقافتى وطبيعة توجههى، ولا أنسى على سبيل المثال يوم أن عبر لى عن رفضه لما يكتبه الشعراء التقليديون، وأنا ساعتها فى إطار ثقافتى الرومانسية البسيطة، وفى إطار ما تعلمته من والدى، وما تلقنته من المدرسة، ومن وسائل الإعلام، كنت أعد كامل الشناوى علماً كبيراً من أعلام الشعر المصرى، وشيئاً فشيئاً عرفنى الشاعر “حمدى منصور” معنى الشعر الثورى، وأنا مددت الخط على استقامته بعد ذلك، وعرفت من خلال سعيى الثقافى الشخصى شعراء من مثل “ناظم حكمت”، و”بابلو نيرودا”، وكنت أقضى معظم وقتى فى مكتبة قصر الثقافة، وكان أمينها وقتئذ الأستاذ “جابر” القنائى طيب القلب يستقبلنا بترحاب صادق، كأمين مكتبة محترف، فتعرفت بين رفوف الكتب على أعمال الشاعر الأسبانى “لوركا”، والشاعر الفرنسى “أراجون”، والشاعر الألمانى “برتولد بريخت” من خلال كتاب فى غاية الأهمية أتمنى أن يكون لايزال فى مكتبة قصر ثقافة قنا حتى تستفيد منه الأجيال، هو كتاب (قصائد من برتولد بريخت) ترجمة المفكر والشاعر الكبير : “عبد الغفار مكاوى”.
ربطتنى بالشاعر حمدى منصور صداقة قوية، وأنا كنت دائم الزيارة له فى بيته، وتعرفت على والده ووالدته رحمهما الله، وصرت كأننى من أهل البيت، وكان أبوه متحدثاً حكاء، كان يجلس على المقعد الصعيدى الخشبى الطويل المرتفع، ويظل يحكى عن عمله، وعن خبرته فى الحياة، ويواصل الحكايات بشكل شديد الجاذبية، ولكنه ظل، وبخاصة فى آخر عمره يعانى من نوبات الربو الشديدة، وأعتقد أن خبرة أبيه تلك والتى تشكل ثقافة شعبية عريضة، كانت السبب من وراء شاعرية الأخوين “عبد الرحيم”، و”حمدى”، وإن كان “حمدى” قد أخبرنى أن أمه حكاءة من الدرجة الأولى، وكان لها محفوظ كبير من الشعر الشعبى والأدوار والمواويل، وأنها بالفعل كانت صاحبة تأثير كبير على أخيه وعليه بامتداد حياتها.
وفى أثناء صداقتى مع الشاعر “حمدى منصور” تصادف أن جاء أخوه الشاعر الكبير ومؤلف الأغانى “عبد الرحيم منصور” فى عدد من الزيارات إلى مدينة “قنا” التقيت به فى اثنتين من هذه الزيارات ، مرة فى بيت الشاعر حمدى ، ومرة فى النادى البحرى المطل على النيل، كان بسيطاً للغاية، ويمتلك مشاعر حساسة رهيفة وكان يتعمد أن يسمعنا قصائده الشعرية وليس أغانيه ، لأنه برغم ذيوع صيته ككاتب أغانى وقد كتب بالفعل أغنيات لمعظم المغنيين الكبار فى هذا التوقيت، إلا أنه كان يحن للشاعر الأصيل فى داخله، فيحضر ندوات الشعر، ويصادق الشعراء، وقد أقمنا له بالفعل ندوة شعرية فى قصر ثقافة “قنا” حضرها بالطبع الشاعر “حمدى منصور”، وحضرها الشاعر المرحوم “عطية أحمد”، والشاعر المرحوم “محمد عبده القرافى الأبنودى” والفنان والشاعر الصديق المرحوم “محمد نصر ياسين” وكل أصدقائنا الشعراء فى المحافظة، وحضرها بالفعل جمهور كبير جداً ، وكانت من أنجح الندوات التى أقمناها فى هذه المرحلة، كما قمت فى هذا التوقيت بزيارة القاهرة بصحبة حمدى وتعرفنا بالشاعر “سيد حجاب” فى ندوته الأسبوعية التى كان يقيمها فى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى فى كورنيش النيل بجوار الهيلتون، كما قمنا بزيارة أخيه الشاعر عبد الرحيم منصور فى بيته بالمهندسين ، وقد أهدانى وقتها شريط تسجيل عنوانه “بنتولد” وهو البوم أصدرته الشركة المتعاقدة معه حاوياً مجموعة أغانى لـ”محمد منير”.
وفى هذا التوقيت جاءنا من القاهرة أخصائى ثقافى للعمل بقصر ثقافة قنا هو الفنان التشكيلى والشاعر البورسعيدى “ممدوح بدران” وكان واسع الثقافة بشكل مبهر، التففنا حوله مكونين ما يشبه جماعة شعرية مصغرة، أعضاؤها (بدران، وعطية وحمدى والقرافى وأنا) وكنا نلتقى بشكل أسبوعى فى حجرة “بدران” بالقصر وفى كل لقاء يكون معنا شعراء ومسرحيون وتشكيليون من عموم محافظة قنا، فكان هناك جماعة ثابتة وأعضاء متغيرون فى كل مرة نجتمع فيها فى حجرة “بدران” التى هى مرسم ملىء بالألوان والباليتات واللوحات المشدودة على حوامل رسم وهى قاعة للقاء الشعراء ليلقوا قصائدهم ويتناقشون، كان “بدران” عريض الثقافة جداً وقد استنرنا بثقافته وتعرفنا على قضايا وأفكار على قدر كبير من الأهمية كزاد ثقافى ضرورى لتنشئة كتاب جدد فشرح لنا على سبيل المثال الكثير من أعمال الفنان العالمى “بيكاسو” وقرأ لنا معظم قصائد الشاعر السورى المتلبنن “أدونيس”، وكان “بدران” مشبعاً بالسريالية ولكنه كان متجاوزاً لها ويمتلك حساً جمالياً تركيبياً يستفيد من عدة تيارات حداثية فى الوقت نفسه، فكانت أعماله التشكيلية مجسدة لنزوعات سريالية وتجريدية وتأثيرية فى الوقت نفسه، والخلاصة أنه دفع بنا فى اتجاه الحداثة أشواطاً كبيرة، استمر معنا فى قنا لعام واحد، رحل بعدها ليضعنا أمام مسئولية التعرف على طبيعة الثقافة والكتابة الجديدة فى مجتمعاتنا ذات الطبيعة الخاصة التى لا تتوقف عن أن تنهل من أعماق التراث من ناحية ، ومن أحدث التوجهات الثقافية فى العالم كله من ناحية أخرى.