أدب

قراءة في ديوان (تحت الظل الكثرة) للشاعر أحمد عيسى العسم

عندما تكون القصيدة بصيغة الحياة

بقلم: ناظم ناصر القريشي

الشاعر كالقادم من أرض النجوم يتكئ على الريح ويلقي قصيدة، البحر بين يديه موجة وهو موجة بين يدي البحر، وكلماته نوارس، تحيي العائدين إلى أحلامهم، وإلى الحياة؛ هذا ماجسده الشاعر أحمد العسم في ديوانه (تحت الظل الكثرة) الصادر عن اتحاد الكتاب والأدباء في الإمارات وبالتعاون مع مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون. والذي يتكون من 35 نصاً شعرياً موزعاً على 120 صفحة من القطع المتوسط.


فللشاعر العسم مكانته الكبيرة في المشهد الثقافي الإماراتي والعربي، يستمدها من كونه شاعر أبدع مفاهيمه وابتكاراته ومحاولاته الجادة في تأصيل قصيدة نثر بمذاق عربي لذا أصبحت القصيدة لديه كالحياة معبرة عن ذاتها بشكل جميل، فهو فكر بشكل مختلف، وعبر عن هذا التفكير، سواء من حيث الموضوع والشكل، فأصبحت الكتابة لديه منارا مضيئا، ولحظة تأمل تجمع، بين الحس الجمالي الرفيع وبين الرؤية الفكرية العميقة عابر بخياله الوضاء كل هذه التخوم، فنرى الغرائزة التي تنمو في الانتظار تستنبت حياةً أخرى يصاحبها الأمل مع العابرون في القصيدة الذاهبون إلى الأقصى المعاني التي تصلها أحلامهم,فالشاعر يرسم اللحظة كما يرسم ادوارد هوبر لوحاته و الذي يخبرنا أن “الإنسان هو عمله , لاشئ يولد من العدم ” ,فنقرأ في قصيدة (1115) التي افتتح الشاعر بها مجموعته و أظن أن العنوان هو رقم الغرفة التي كان يرقد فيها الشاعر وهي عبارة عن اختزال لفكرة البقاء وحوار تنازلي مع المستشفى و حوار داخلي مع الذات و حوار مفتوح مع المتلقي
يا صندوق المستشفى الكبير
أتابع مرحي
مع المرضى
والعامل
أغني للعصافير
خلف النافذة
أنظر الى اخضرار العشب
في الصباح
أتأمل شرود عامل بناء
أرفع يدي لمريض
في الجهة الأخرى
من المستشفى
لا أعرفه لكننا نتشارك بياض السرير
بدأ الشاعر قصيدته بمخاطبة المكان الذي هو المستشفى معتبر أيها صندوق كبير وهو رمز له دلالته و إيحاءاته على اعتبار أن كل شي في الصندوق هو متوقف عن الحياة لكن الشاعر يفاجئنا بالعبارة التالية فيقول أتابعمرحي، فتتدفق الصور و الأفكار عبر القصيدة؛ بومضات صافية متتابعة مشحونة بالمشاعر المتدفقة يلقي بها الشاعر الى خيال المتلقي،الذي سيكتشف معالم اللوحة الكاملة و التي ارتكز عليها بناء (القصيدة) فعندما تكون العبارة واسعة كالماء ترى مالا يراه الدم , فهي كيمياء الإحساس وفيزياء الشعور والشاعر العسم جعل من اللحظة الشعرية بانوراما للحياة , فيقول في قصيدة (أشياء لم يرها دمي)
لن يسير بقربك القلب
لا تأملي بالانفراد والكثرة
حتى لو كنت “تمازحيه”
في موعد ماكر
المهم لا تمسكي
بإحساسه
لن تضطري أن تقرئي بين السطور
أو ما ينقله العصفور
بين شجرة وأخرى.
وددت أن أرى خطواتك
آمل بأن تسرعي
حتى يتسنى لي وبشكل جيد
تحديد القلق الذي تعانين
وأنت تخوضين
المعركة على السرير
أحييك على تماسكك
دون أن تعقدي حاجبا
انحناؤك أمام المد ليس طمعا.


إنه ديوان للتأمل بعنوانه ذات الامتلاء الدلالي، والشاعرية الناصعة، سيقدم نفسه بنضجِ جمالي و معرفي و هذا يدل على قدرة الشاعر العسم على الإمساك المتمكّن من عالمه الشعري وأسلوب كهذا يبدو ملائماً لروح القصيدة الضاجة بدهشتها وبساطتها، والتي هي هنا تأملات مفتوحة حررت نفسها من كل القيود دفاعا عن الحياة فهو كالشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الوقت لديه أكورديون له ملامح اللحظة التي مرت يعزف على الماء ويخبرنا أن اللغة لم تزل غاباته العذراء والمعطاء والكلمات تحكي حكايتها وتمر عبر قوس الوقت كانحناءة سعيدة لغيوم عالية هناك على امتداد القصيدة
فيقول في قصيدة (من فضلك افتحي يديك )
تعالي نمضي بعض الوقت
أمام شاشة الإعلان العملاقة
المقابلة لدوار الخيمة السابق
نرى البلد، الناس وتصرفاتهم
نتعرف الى الأشياء الممكنة
والمهملة أيضا
من فضلك افتحي يديك
يمنحني عطرك السعادة
(صدري ضايق)
شبه مطفأ أمام الغياب
الى أن يقول
و أنت بجانبي
امنحيني القليل من الوقت
للتحدث عن المشكلة
أعدك بعدها أصبح
شجرة يابسة
دائما نجد أن الشاعر الحقيقي قد أعطى للشعر كل ما كان يملك وأن حياته سابقة لكتاباته التي تؤكد تميّزه وقيمته الإبداعية؛ و وجود الكلمات هي لحاجة الإحساس إلى تأكيد حضوره كشاعر و إنسان يسري الشعر في داخله كالنسغ في الدم, فلغته شديدة الحيوية و هي محاكاة لواقع افتراضي موازٍ للحياة ,فهو لا يسأل بل يجيب عن أسئلة لا وجود لها و يرمم الوقت و ذاته بحثا عن الخلاص بكلماته المتوهجة و التي تمضغ نبتة الحياة و تحتفظ بدهشتها، ذات الدهشة التي يتسم بها لقائها مع المتلقي فهي تمثل الامتلاء والحضور والانتماء إلى ذات الشاعر الذي ينصت إلى روحه وهو يتأمل الشمس التي خلف الزجاج والستائر كامرأة تريد الدخول سرا،وينصت للموسيقى ويقول هذه كلماتي التي بين النغمات نثرها صمتي؛ فكل لحظة تماهي وجدانه وقوس الغمام وموسيقى المطر فهو والبحر أخوة في الدم يتبادلان الأدوار والموجات والكلمات والغياب والحضور يستمعان الى الموسيقى ذاتها والأفكار العالية التي تصهل مع الموج تترك الليل وحيدا موازياً للقصيدة نفسها
فيقول الشاعر في قصيدة (أمام البوح)
أمامك يا بحر
أدفع موجتك الى صدري
بانتظار أن ترفع صوتك
وتناديني من أعماقك
لا يهم
سأصلك منهكا
بقدم مبلولة
وقلب مأخوذ
اجلس
بعد أن تركت الليل
وحيداااااا
الشعر غارق بأحزانه
ادفع موجتك
ولا تقلق
إذا ظهرت لك
عظامي
أن حضور ثيمة الوقت في قصائد الشاعر أحمد العسم تمثل الإبداع الأكثر عنفوانا؛ فإن التعبير عن فكرة الوقت تحتوي على أبعاد سيكولوجية لا يستطيع إلا الشعر تأويلها خلال زمن القصيدة، فيولد لنا ثلاثة أزمنة وهي الزمن الذي ولدت فيه الفكرة وزمن تدوينها ككلمات في ثنايا القصيدة و زمن الذي يتلقى في المتلقي هذه الكلمات والذي يكون وموازيا لزمنها تحت الظل .. الكثرة
((عاشقة الهواء ))
الى أي حد ستظلين عاشقة للهواء
ظلك يدل عليك ويعطيني متابعتك
هو لايجعلنا نقرأ فقط بل ننظر الى الكلمات على اعتبارها لوحة القصيدة فيقول في قصيدة القوارب التي سنرى فيها القوارب مجتمعة على الساحل ومن خلفها ضوء النهار مبتسما لأنه يمنح البريق لأجنحة النوارس البيضاء وهي تخفق فوق الموجات المتلألآة ببهجتها بينما الكلمات تتأجج ينظر الشاعر إلى السماء والى الأفق البعيد حيث الألوان تذهب بتدرجها الزاهي ألى اللازورد فتستيقظ الذكريات ليجد أصدقاءه القدامى وقد تحولوا إلى موجات
قوارب
القوارب مجتمعة تمنحك
الاستعداد للفعل المختلف
لا تفلسف الأمر
أحب النوارس البيضاء على الماء
القلب يناله الارهاق
.
على متن قارب
حط طائر مهاجر
ورأى هدم العمارة القديمة
عند أقدم جسر في رأس الخيمة
العمارة مكان عميق
ذكريات ((نادي عمان))
.
رجل ينظر الى السماء
و لا خوف قادم
الأفعال تبرر إن هز رأسه
.
هنا بالضبط
عند ( الفرضة ) عثرت
على أصدقائي القدامى
عائمييييييييييييييييين
ديوان (تحت الظل الكثرة) شكّل إطلالة مهمة على تجربة الشاعر أحمد العسم الشعرية، في تداخلها مع تجربته الحياتية التي شكلت توازنا تاما بين هواجسه الإنسانية ومفرداته الشعرية فهو يلتقط تفاصيل حياته واحدا تلو آخر، فليست البساطة في السهل الممتنع هي نقطة الجذب الوحيدة في هذه المجموعة فقط.فهناك عوالم أخرى مخبوءة تتفتح على اتّساع محجرها كاشفةً عن جوهر الأشياء كأن الشاعر يتوغّل في أعماقنا، فهو يوصل كلماته إلينا بطريقته التي تشبهه تماما؛ لأنه شاعر الحياة بقدر ما يكتب قصيدة تشبهه هو وتشبه تدفق أفكاره عبر الوقت الذي يتدفق عبر الزمن فيقول في قصيدة (وإن لمست هذا)
لا تأخذ دمي، الى حلبة سباق
لا تتركه يتصاعد أو يتسرب
في الحوارات العقيمة
نعود ببطء للهدوء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى