أدب

يوم من الأيام

قصة قصيرة بقلم: نهى الطرانيسي

عجلات مهرولة لمركبات متلاحقة على الطريق، منها ما يقف فجأة، وأخرى يطل منها رأس يبصق ويطلق كلمات منفرة! تعدو باقي المركبات المماثلة تنتهز فرصة انشغال الآخرين في عراكهم لتعدو في الطريق.. ضوضاء مرتفعة جاثمة تطل من ذاك الشارع من صراخ السائقين لِلَفْت انتباه المارة… الباعة الجائلون الحائرون ببضائعهم أمام العائدين من أعمالهم وهم ينظرون إلى الفاكهة بسلام عابرٍ، وسيل منجرف من الأطفال بزيهم الموحد يملؤون مركبات الأجرة، وفي المقابل محلات متراصة علت موسيقاها أمام ذاك المزيج!
لفظُ الدخان الأسود من العربة وصراخها المكتوم نذيرٌ لاستعدادها للتحرك.. أجلس مثل الباقين، فنبدو كمجتمع حديث صغير داخل تلك العربة، جحور دفينة من الأسرار والأفكار داخل كل منّا، تُقرأ من الوجوه والأعين التي تَعْلَقبالنوافذ والتي تفيق من الشرود عند صراخ السائق وتوقفه لتعاود الأعين كرّة الشرود، وانشغال الأيدي بأي شيء كأنْ تعدل الحقيبة بطريقة رتيبة، أو تهدهد طفلاً يغالب النعاس والعرق يتصبب من جبينه، فيعود العقل إلى الانغماس فيما أهمه.
أغانٍ مضطربة تعم أجواء العربة لا تدري أحزينة هي أم مُطرِبة، كاضطراب الناس عند عبور الطرق السريعة وعدم إدراكهم لإشارات المرور التي باتت مضيئة ليلاً ومضيعة نهارًا!
“.. أتوافق والدتي على مرافقة صديقتي لشراء الأغراض؟ تتضارب الأفكار داخلي، كيف أقفز مستقبلا نحو ذلك؟ ماذا إذا لم توافق على لقائه حتى بعدأن أعدد لها مزاياه، وأن حاله كمثل الشباب جميعًا تحت سلطان الظروف، لا قرار لهم، ولا حيلةً بأيديهم؟..”
أخذ عقلي يحدد أي المداخل أيسر لأقنع أمي، وما هي مفاتح قلبها وعقلها كي تستجيب لكلامي، ومع استرسال ذلك التفكير خفت واضطربت: “أيستحق الدفاع عنه، وأن أتصنع أسبابًا، وأعد كلمات أستلهم بها لبّ أمي؟! هل سأهنأ أم سأعض على أنامل الندم والغيظ بعد أن يستقر مقامنا معًا؟”
أتنهد بحرارة لا تختلف عن جو المركبة الخانق، نعم جاوزت منتصف العقد الثالث، أعمل وأنهمك في البيت، وأحيانًا أهرب من العودة إلى البيت في موعدي، فأظل أسير بين المحلات التي تعرض مستلزمات العرائس، تتعلق عيناي بكل قطعة، وكأنها تقتبس ذكرى أو جزءًا.. تجرني قدماي قدرًا إلى بعض الملابس فأقف بلا حراك، أرسم صورة لي بتلك الثياب، هل تليق بي؟ هل سأكون مبذرة لأني اشتريتها وامتنعت ذلك الشهر عن شراء اللحم؟ وذاك الحذاء اللامع يذكرني بحذاء أخي الذي وعدته أن أشتريه له مع راتب الشهر القادم…؟ هل سوف…؟ هتاف حاد: “الأجرة يا حضرات!” كان كافيًا أن أفيق ويدي تبحث في عجالة عن محفظة النقود، يقع على سمعي حديث من بجانبي في هاتفها المحمول مختلطًا ببكائها المكتوم: “لا أستحق ما يحدث لي.. أنسيت صنيعي؟!”
أخذت أعداد الرُّكاب تتناقص رويدًا رويدًا.. وصلت إلى وِجهتي، صعدت السلالم ببطء حتى طرقت الباب، واستقرت الأفكار بعيدًا، سلّمت على أمي، وتركتها خلفي منهمكة في تحضير العدس، تتعجلني كي أساعدها.. تتسابق أطراف أصابعي على أزرار الهاتف، صوت أزراره يعكس رسالة ليست بالقصيرة، أغلقت الهاتف ووضعته بجوار صورة أبي، ثم عدتُ إلى والدتي بعد أن غسلت وجهي بالماء البارد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى