صياد النمل
إدريس الجرماطي | المغرب
بالتأكيد إنه الرسام الألماني المشهور، هو من كان يقف بجانبي حينها، لم أكن أجزم بعد في الاختيار، علي أن أكون إحدى مواضيعه الفنية، فقد كان هو من يرجو أن أكون ذلك الصياد الذي لا تهمه الطرائد الكبيرة، بحجمها المتورط بين الخلائق البسيطة، كل أدواته جاهزة، وهي في الانتظار لكي أختار دوري وحظي في المتاعب التي سأنالها من جراء شخصيتي، في المشهد دورين فقط، إما أن أكون جاهزا لأن أكون صياد النمل، أو أن أكون نملة موضوع الحاجة، تختبئ من الرصاصة، تخشى الانكسار، نملة تطل من غلافها الزجاجي، تخيلت الصياد، أحاول رؤية بنيته الجسدية، كانت قوية، يستطيع تحطيم الزجاج الكائن هناك، فقط بضربة واحدة، لكني لما عمدت إلى دواخله النفسية، أصابني الرعب، حيث لا فرق بينه وبين عالمي، قبل أن أختار أن أكون مجرد تلك النملة الهادئة، عوالم الصياد الداخلية مرعبة، لم أختر دوره، يبدو مستبدا وأنانيا، عليه أن يتباهي كل مساء، بأنه قاتل محترف، يصوب بندقيته تجاه الأرواح البسيطة، دون أن أن يدرك وضعها وانتظاراتها الحياتية، يحشو أمعاء سلاحه بحبات نارية، ويركض دون عقل، وكأنه يمزق الأبهاء الرمادية، لم يكن يدري أن من بين ضحاياه أنثى تنوي أن تبيض في أعماق التراب، تتسلل المعابر الوعرة هروبا من الأقدام الفولاذية، قد تكون غاضبة من وضعها، تكوم جسمها النحيل، تعلم أنها أصغر من خيط يمكن أن يلج الإبرة ذات السم الضيق، وبمشقة النفس يلج رغم بساطته ورقته، تراه النملة تخاله تعبان يلهو في مجاري الخياط، ينوي تلقيد الشواظ، ذات السرعة التي تخترق السماء في ليالي البرد والعواصف الهائجة، تحسب النملة نفسها أنها أصغر من كل المخلوقات، وهي التي يعلم الله مستقرها ومستودعها، مستدلا سبحانه بحجمها الذي لا يكاد يرى، الصياد ينكر كل ذلك، فهو يتلذذ بشواءها وتجريدها من حريتها متى أراد أن يستمتع بخرجات طبيعية تراود أفكاره من حين لآخر…
أختار رغم كل ذلك أن أكون تلك البسيطة التي تحاول أن تعيش، وفقا لكل الطقوس ومحبة في كل الأجواء، وأيضا رغم النار التي تلاحقها…
أختار أن أكون الزجاجية التكوين، المتسلقة عبر المستحيل الأكبر وعبر جداريات معنى العيش والحياة، تعدل بيتها بحبات التراب والرمل الزجاجي مثل جسدها تماما، تهندس بتعطش إلى البناية والتصميم، وهي المولاة في عالم العمران، بردهاته وغيابات أشكاله، ودون مكيفات، لكنه مكان يليق بكل الأجواء، ويصلح لذاته الرهيفة…
الفنان التشكيلي ينظر إلى جسدي الذي يتحول من تلقاء قراري وعفويتي، صرت أصغر أمامه، وأندثر كما لو أني حبة سكر وسط سيل من المياه، وفي بركة يلتحفها جليد الصباح، وسرعان من تنسل مني الأرجل الصغيرة، كأنها شتلة غرس تنمو وسط وعاء من طين، أنظر إلى عيني القناص، ووجهه يكشف عن سهو رهيب، لم يكن يتوقع أني سأقرر ما يخاله من توقعات صعبة ومصيرية، لم يكن يتوقع مني ذلك الجحود الغريب، لكني أعجبت بنفسي كوني مخلوق من زجاج، يمكنه أن يتسلق الجدار بسهولة، ويمكنني أن أعلق الأجسام والأجساد، دون أن تراني، رغم تلك المجازفة التي قد تؤدي بحياتي إلا أني تماسكت متسللا مسناته الضخمة، أتحسس عظلاته خفية وشجاعة، وبعد ساعات طويلة أدركت أني وسط غابة كبيرة، كلها عيدات رقيقة بين البيضاء والسوداء، تغطيها قبعة بنية تحجب عنها عين الشمس، كان شغفي أكثر، إذ وجدت نفسي أدفع بجسدي إلى الأعلى، متنكرا لكي أكتشف حيلة تصويب الرجل لبندقيته صوب الفراشات والنحل والنمل، صرت أعجب منه، لأنه يرى الطرائد المنثورة جانبا، لا يقربها، ظل يستلذ بتلك العوالم البسيطة، وكأنه جندي ضعيف، تضحك حوله الأرانب والضباء، وفي غفلة منه أدرك الفنان التشكيلي أني خارج لوحته الفنية، لم يكن يدري أني أحجب رؤية القناص، وأنا النملة الواقفة على شفى عينيه متمردا، لم يكن يدري أية ريشة يختار، لكي يتمم لوحته الفنية، إداك اكتفى برسم الصياد، وعلى حاجبه نملة تنزلق مع الصبائغ المدلاة على وجه القناص