بقلم: خالد جمعة
المدخلُ من زنبقٍ وماء، أولُ البيوتِ وأولُ الذاكرة، وأنا أحلمُ أحلمُ أحلمُ ثم أفيقُ على حلمٍ نابتٍ في حلمٍ كأوراقِ الشجرِ الكثيفِ جوارَ النافذة، والشارعُ المجاورُ بحيطان من كلمات الجيران الودودين، وجارتنا المتمدنة حديثاً والتي لا يمكنها النوم من زقزقة عصافيرِ أخي في أقفاصِها، تقفُ على الشبّاكِ دائماً لتنتقدَ شيئاً ما.
أختي التي لم تبلغ بضعة أشهر بعد، ممددة على السرير الوحيد في الغرفة بقماطِها الغريب، وأمي تجلس بوجه حزين وغاضب، وأنا ممدد بين النوم والغيبوبة.
ـ شو إسمو هادا الصغير؟
ـ هذي بنت اسمها تغريد
ـ تغريد البولبول
الجندي الذي يتحدث العربية مثل بقية الجنود، يتفلسف، يحاولُ أن يكونَ لطيفاً وهو يخبرُ أبي أنه يمنحنا فرصة حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، كي ننقل ما يمكننا نقله من البيت، استعداداً لهدمه…
أرى الجرّافةَ بوضوحٍ تحاصرُني فأهربُ خلفَ الجدارِ فتأكلُ الجدارَ وهي تضحكُ، فألجأُ إلى شجرة الذرة الصغيرة فتخرجُ الجرافة دخاناً أسود يلتصق بوجهي ويقتل الشجرة، أفرًّ أفرُّ والفراغُ يضيقُ أمامي كصندوق أحذية، وأقفُ كفأرٍ مذعورٍ أراقبُ الآلة الصفراء وهي تخمشُ البيتَ كقطعة بسكويتٍ صغيرة، البابَ، المطبخَ، غرفةَ جدي، غرفةَ أبي، غرفتي المشتركة مع أخويَّ، ساحةَ الدار، حجراً حجراً، أرى ولا أرى، أقتربُ قليلاً، هذه لعبتي التي فقدتُها منذ أيام في زاوية الغرفة، أريدُ الانطلاقَ كي أخلصها من زاوية الغرفةِ الباقية، يمسكُ بي جنديٌّ كقطٍّ مبلولٍ وأجرب ويلقي بي بعيداً بحركةٍ واحِدةْ فيما الآلةُ الصفراء تفرمُ لعبتي بين خطوطِ عجلاتِها، تلتصقُ اللعبةُ بمطاطِ العجلة الهائلة، وتدورُ معها صاعدةً وهابطةً ومُهانةً ومدماة، من لديه الوقت لينقذ لعبةً والبيتُ يُفرَمُ مثلَ قطعةِ لحمٍ تحت ساطورْ؟
لا لا، هذا حُلُمْ، علمتني أمي مرةً أن أقرصَ نفسي في الحلم كي أفيقَ إذا كانت تفاصيلُهُ مزعجة، ما هذا الحلمُ الغريبُ الذي يرفضُ أن يغادر، لا بقرصة، ولا بعضّةْ ولا حتى بالمسمار الذي جرحتُ بهِ نفسي؟
هناكَ أحلامٌ تدومُ طويلاً حتى نتخيَّلَ أننا لا يمكن أن نصحو منها، وتكملُ الآلةُ الصفراءُ مهمَّتَها، سائقُها دونَ ملامح، كأنّهُ قطعةٌ منها، يروحُ ويجيءُ بمهارةٍ ميكانيكية، يصلُ الحائطَ الذي يفصلُ بيتنا عن بيتِ عمي، حائطٌ قصيرٌ كانَ ينقلني عمي عبره حين أنام في بيتهم بينما ألعب مع إبنهم، بمجرّدِ ضربةٍ غير مخططة يسقطُ الحائطُ مع صفحةِ ذكريات.
أريدُ أن أبكي، لم يعد الأمرُ حُلماً، ما كانَ بيتاً أصبحَ بقعةً من الفراغِ المشوّه، فيما تبرزُ أحجارُ الأساساتِ كأيدٍ لأجسادٍ بقيتها تحت التراب، أنادي الله الذي قال لي أبي أنه يستجيبُ لدعاءِ الأطفال، أنادي جمال عبد الناصر، ولكنه مات قبل شهور، أنادي عمي الشهيد محمد، وعمي الشهيد عبد القادر، لكنهما لا يسمعان، أنادي كل من حفظت أسماءهم، أصرخُ أصرخُ أصرخُ، وصوتي لا يخرجُ، وذاكرتي تنمحي كشمسٍ تغطس في البحر، لم يعد فيها إسم ولا شكل ولا زمن ولا مكان، أنا فارغ كهاوية، لم أعد أتذكر اسمي، لم أعد أرى شيئا، ولم أعد أراني.
*******
* كنتُ في الخامسة وبضعة أشهر حين جاء الجنود إلى بيتنا، كان ذلك في الرابعة فجراً، بيتنا كان أول بيت في مخيم الشابورة في رفح، قام شارون بهدم بيوت بعرض 53 متراً وطول 450 متراً فيما عرف لاحقاً باسم شارع الهدد، ما زلت أذكر اللحظات بتفاصيلها، أخواتي وهن يبكين فيما يلملمن الملابس في أكياس، وأبي وهو يقتلع الشبابيك بيديه ويخفي دمعةً تعاند جفنيه، فيما أقف أنا بطولي الذي لم يتجاوز 80 سنتيمتراً بجوار أعواد الذرة التي زرعتُها مع أختي، وبقيتُ أراقبُ المشهد، نصف المخيم يعيش الحالة ذاتها، وحين أتت الجرافة التي بحجم منزل وأخذت تأكل الحجارة كقطع البسكويت، ولعبتي الصغيرة التي صنعتها أمي من القماش تلتصق بالعجلات وتصعد وتهبط، كل هذه المشاعر ما زالت تراودني بكل تفصيلة فيها كلما رأيت الجرافة الإسرائيلية تدك بيتاً من البيوت، ما زال بيتي القديم عالقاً في ذاكرتي، غرفه الثلاث، الساحة في وسطه، برميل الماء الكبير، الحائط الذي يفصله عن بيت عمي، والحاكورة الصغيرة بجواره التي زرعها أبي بمليون نوع من الخضروات، هذا البيت لم يغادرني وإن غادرته مرغماً، أستطيع أن أفهم مشاعر الناس الذين أكلت الجرافة بيوتهم، وأستطيع كذلك أن أقول بكل ثقة إننا لا يمكن أن نغفر للجندي حتى لو كنا إنسانيين إلى حد “البوذية”.