أدب

الساحلي بطل رواية “المصري” بين الاستمداد من الواقع والخيال

بقلم: عمر اليدري أفيلال | ناقد من المغرب
إذا ما انتابك سؤال عن ماهية الأدب، ومن أين يتأتى الخلق الأدبي، وكيف يبدع الأديب نصوصه الإبداعية، وشخوصها، وأزمنتها، وأمكنتها ، قد يقال لك لعله يستقيها من معين تجربته في الواقع الذي يحيا في أفق ممكناته، أو بتشكيله عوالم ممكنة، منبعها الخيال، أو مزجا بين الإمكانين.

هنا يأتي الأديب والناقد محمد أنقار ليمتعنا في روايته “المصري” التي تُصنف في عُرف النقاد بما يُعرف ب”ميتا الأدب”، أو بلغتنا “ما وراء الأدب”؛ بمعنى خطاب يصف ويقعد منطق اشتغال هذا المجال وحدوثه؛ أثار فيها هاته الإشكالية النقدية، التي تكشف عما في الأدب ومعه النقد من تأرجح بين هذين الإمكانين أو اغتراف من ممكناتهما معا؛ بحبكة روائية فريدة، بتوظيفه شخصية الساحلي، الذي قرأ لنجيب محفوظ فاستبدت به رغبة جامحة رأى فيها قضيته المصيرية؛ أبدى فيها تفانيه وحرصه الشديد على كتابة رواية تخلد تطوان في الأدب تخليد نجيب للقاهرة في رواياته.

فما كان من الساحلي إلا أن انبرى للأمر، مستنفرا قدراته، مهيئا نفسه لأمره الجلل، وغايته الشريفة، وهو يَهُمُّ بالتقاط مادته وجمعها، من دروب تطوانَ العالمةَ، وأحيائها العتيقةَ، وما وقع عليه فيها من أخبار أناسها، وأحاديث أهلها، في المقاهي، والمنازل، والمحلات ، حتى إنه كان يستفرغ الوسع، ويُجهد نفسه في خلق تجارب من العدم، لم تجلب له إلا مزيدا من الأذى، وما إن يعمَد إلى الكتابة حتى يعود بخفي حنين، جارا أذيال الخيبة وراءه.
.
هنا يتبادر إلى أذهاننا سؤال من الأهمية بمكان ، ما الذي كان ينقص الساحلي وشكل له عقبة حالت بينه وبين وضع حلمه موضع التنفيذ ؟ وهل اجتمع لنجيب في إبداعاته ما لم يجتمع منه للساحلي؟ لعل من يخوض في معيقات الساحلي التي أقعدته عن غايته يوجزها في زوجته، التي لم تأل جهدا، ولم تدخر وسعا، في ثنيه عن مهمته المصيرية ،وحلمه المنشود؛ لكني لن أشير إلا إلى جانب أحسب البطل كان عنه غافلا.

فلئن كان مدركا حاجته الماسة إلى تجارب يبني منها عالمه الروائي غير إنه لم يلتمسها إلا في الحياة، في عالمه الحي، بل بلغ به الأمر غَصْبَ تلك التجارب؛ فجشم نفسه عناء إيجادها من عدم، فلم تكن له طيعة، بينما نجيب إن توافر له شرط معايشتها في دروب مصر العتيقة، لم يكتف بها ، بل أفاد منها، ومن تجاربه في القراءة كذلك ما أعانه على تخييل عوالم ممكنة.

عوالم فتحت له من أبواب الأدب الواسعة ما اغتنى به ؛ ففي عوالم النصوص من الممكنات ما يتجاوز العالم الفعلي، الذي قد تنير له منه أشياء ما كان سيلتفت إليها لو ظل مكتفيا به، وهنا مربط الفرس؛ فهي لن تتأتى له منه فحسب بل من تلك العوالم كذلك التي بإمكانها أن تمنح المتلقي المبدع طاقة تخييلية، في بناء عوالم ممكنة جديدة.
هذا الأمر يجرنا إلى سؤال آخر أكثر خطورة، هل نجح محمد أنقار فيما أخفق فيه بطل روايته الساحلي؟ لعل من اطلع على هاته الرواية لن يغالي إذا ما قال بامتلاكه مفاتيح وآليات الكتابة السردية الروائية؛ فلئن أخفق الساحلي في إنتاج روايته المنشودة لم يُخفق أنقار في ذلك؛ فقد أنشأ لنا من تجربة الساحلي الفاشلة له، تجربة قرائية متميزة وممتعة لنا -قراءه-، التي بالقدر الذي تستمد فيه من واقع مدينة تطوان، وأناسها، وثقافتها، أصالَتها، وخبرتَها، بقدر ما تستمد في الوقت نفسه من الخيال ابتكارَها ونجاعتَها في تخييل شخصيات رواية “المصري”، التي تبرز إلى ذلك أثر الوعي الإبداعي المصري وظله، على الإبداع العربي، ومنه المغربي في حقبة معينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى