الغربة بين الألم والأمل
خالد رمضان | كاتب مصري
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
***
إني رأيت ركود الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطب
***
فالأُسدُ لولا فراق الأرض ما افترست
والسهمُ لولا فراق القوس لم تصب
***
والشمس لو ظلت في الٱفاق واقفة
لملّها الناس من عُربٍ ومن عجمِ
يرنو المرء من شرفة المستقبل شاخصا ببصره نحو سماء المستقبل بعين يملؤها الأمل على حياة أفضل، ومكانة أرقى، بعدما كدّ وكدح، وعضه الفقر المدقع، وأتعبته الفاقة المضنية راغبا في تغيير حاله إلى أحسن حال، فيشمر عن ساعديه، ويسعى مغبرا قدميه قاصدا أرضا بعيدة، ودنيا جديدة، تغمره النشوةُ، وتعلوه البهجةُ، مكتظا بالٱحلام، مشحوذا بالسعادة والٱمال، ها أنا ذا سأتخلص من ربقة الفقر المحيطة بعنقي ، وأهنأ بعد الشقاء، وأرتاح بعد العناء، لابد أن يغير الناس نظرتهم المتدنية لي ، سأركب سيارة فارهة، وسأبني دارا فاخرة، وتظل الأماني تنخر في عقله، وتنمو في قلبه حتى يغترب عن أهله، ويفارق زوجه وولده، وتبدأ اللحظات الحارقة حينما يسلم عليهم السلام الأخير الذي يعتلي بعده طائرةالأحلام والٱمال، فحينها ترتفع عيناه صوبهم ويرى الدموع تنهمر من مقلهم ، ومرارة الأحزان تبدو على قسمات وجوههم، وقتها يكتم دمعة تكاد تفضحه، ويواري أحزانا تكاد تنفجر، متظاهرا بصلابة مزعومة، حينها يلوم نفسه مرارا وتكرارا ياليتني ما لهذا سعيت، ولا إلى ما أنا فيه وصلت، ولكن قُضي الأمر فقد أعلن المذيع الداخلي عن الاستعداد للرحيل .
يغادر عالمه القديم مستوطنا أرضا ليست أرضه، مخالطا قوما ليسوا أهله، ويمر اليوم واليومان، والشهر والشهران فيكتوي قلبه بنار البعد ، وتكتحل عيناه بلهيب السهد، متشوقا إلى ولده، وزوجه ، وأبيه وأمه ، وخلانه وأعماله ، وسهراته، وجولاته، فتزداد عليه الٱلام والأوجاع كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيرانا.
وهنا تتجلى الحقيقة الناصعة وهي أن لكل شئ ثمن، فلا تعطيك الدنيا شيئا إلا وأخذت منك أشياء.
وكأني بقول أبي نواس :
فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
إنك في هذه الغربة وإن أحاطت بك صنوف النعم تكدح فيها كدحا، تعيش بنصف روح، ونصف عقل، جسد يسعى ويعمل، وروح مرهونة بأمد بعيد، كالأم التي فقدت وليدها وسط الزحام، تصرخ وتصيح، تركض وتهرول بين الحشود المحشودة وكأنها لا ترى أحدا لانشغال بالها وتطاير وجدانها.
هنا ينسحب بساط العمر من تحت أقدامك وأنت لا تشعر.
هنا تخور قواك من بين يديك وأنت تنظر .
تتساءل بينك وبين نفسك : أين ما نسمعه عن فوائد السفر ؟
أيها الشافعي أين ما ذكرت ؟
إننا لا نجد سوى الٱلام والأحزان، فهل كنت تخدعنا؟
أم إننا ضللنا الطريق حتى أصبحنا على شفا جرف هار يوشك أن يودي بنا نحو الهاوية؟
حقا كما يقول الشاعر:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
وكما يقول الٱخر :
لكل شئ إذا ما تم نقصان
فلا يُغر بطيب العيش إنسان
***
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ
من سرّه زمنٌ ساءته أزمان
ولكن مع مرور الوقت ستدرك لا محالة أنك مختلف، وأن هذه الأيام القاسية ، والسنين المؤلمة قد صنعت منك رجلا حديديا صُلبا قويا، فمن رحم المعاناة تولد الرجال، ومن لم يصبر على مر التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته
تذكر أنك خرجت من بيتك ساعيا على رزقك ورزق أولادك فأنت في سبيل الله، فقد قال تعالى : ” فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور”
إن تلك الغربة وإن كانت قاسية في ظاهرها إلا إن باطنها يحمل الخير الكثير، لأنك في غربتك ستتعلم ما لم تتعلمه وأنت قابع في مكانك، جاثم في بلدك لم ترَ من الدنيا إلا جدار دارك، ورصيف قريتك ، لم تسمع لغة غير لغة قومك، ولم تخالط بشرا غير معارفك وأقرانك، لم تتعرض للاختبار النفسي والعصبي والاجتماعي ، والبدني.
لم تتعلم كظم الغيظ، ولم تتذوق قوة التحمل، بل ولم تحمل كفنك على يديك منتظرا نهاية مؤلمة قد تباغتك في غربتك .
الغربة مصنع الرجال، ومنبت الأبطال، والغربة ليست مالا ولا جمالا ولا دلالا، إنما علمٌ وعمل ورزق وأمل.
صدق الإمام الشافعي فالأُسد لولا فراق الأرض ما افترست ولماتت جوعا، والماء إن ظل راكدا فسد وتلف، والسهم لو ظل في القوس ما أصاب الهدف، والشمس لو بقيت ولم تغرب لما تحملها الناس، وعلى حد المثل المصري العامي القائل: (مفيش حلاوة من غير نار)، قد تكون الراحة في التعب، وقد تجئ اللذة من الألم.
بلاد العُرْبِ أوطاني
وكل العُرْبِ إخواني