مقال

الحرب الإعلامية

بقلم: رضا راشد

لا شك أن أي صراع عسكري لابد أن يوازيه صراع إعلامي سياسي دبلوماسي، وأي معركه بين جيشين أو بين فريقين دائما ما تكون في ميدانين:
(*) ميدانِ المواجهة المسلحة حيث يبارز السيفُ السيفَ ويكافحُ الجنديُّ الجنديَّ.
(*) وميدانِ المواجهة الإعلامية النفسية، حيث تتصارع الحجج مع الشبهات، وتُفنَّدُ الأباطيلُ، وتُبَلبلُ الأفكارُ، وتُبَثُّ الأراجيفُ.

وليس الميدان الثاني بأقل أهمية من الميدان الأول، بل ربما كان هو الأهم؛ إذ هذا هو الميدان الذي يستهدف العقل الذي يمسك بزمام الجسد موجها له إلى القتال أو صارفا له عنه.

ولهذا اهتمت الأمم (قديما وحديثا) بهذا الميدان الثاني اهتمامَها بالميدان الأول، فكما كانت تجتهد في إعداد الجندي المدرب القادر على مواجهة خصمه في حلبة القتال، فكذلك كانت تجتهد في إعداد الفرد اللَّسِن الفارسِ الأريبِ الحسنِ البيان الذي يستطيع أن ينتصر في ميدان المواجهات العقلية والمناظرات الفكرية: إثباتا لحقه، أو إبرازا لباطل عدوه.

(*) فعند العرب في الجاهلية – حيث الصراع الناشب بينهم دائما – كانت هناك ثلاث مناسبات تَتَلقَّى فيها القبيلةُ التهنئةَ من القبائل الأخرى وهي: ميلاد فرس، ميلاد فارس، وميلاد شاعر. أما احتفالهم بميلاد الفرس والفارس فواضح؛ لأن هذين هما عدة القبيلة في الحرب بالسنان ودرعها الحصينة، وأما احتفالهم بميلاد الشاعر فلأنه اللسان الذي يحمي القبيلة، وبشعره يؤدي دورا في الحرب الإعلامية لا يقل، بل ربما يعظم دور الفارس بسيفه؛ إذ إنه بشعره يوثق بطولاتِ قبيلته التي لولاه لوئدت هذه البطولات في مهدها، ولما عرفها أحد، وهو بشعره يلبس معركة قبيلته ثوب الحق ويجنبها عن ثياب الباطل وهكذا

ولما جاء الاسلام وفرض على المسلمين الجهاد إظهارا لدين الله عز وجل – كما قال ربنا :(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)، احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعداد الأمة للجهاد إلى كلا الرجلين: احتاج إلى الفارس بسيفه، كما احتاج إلى الشاعر بلسانه للدفاع عن دين الله، فقال صلى الله عليه وسلم :(ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيوفهم أن ينصروه بألسنتهم)، فقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: ” أنا لها يا رسول الله “، فقال: (اهجُهُم وروح القدس معك)، ولنتأمل هذه الجملة المعطوفه على الأمر (وروح القدس معك)، وهو جبريل عليه السلام، وكأن الله عز وجل لمَّا كان أَمَدَّ جنوده المقاتلين في المعركة بالسيوف(وهم الفرسان) بالملائكة، فقال تعالى:( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكه مردفين)= فكذلك أيد الله عز وجل المقاتلين في الميدان الفكري والإعلامي (وهم الشعراء) في صراعهم مع الباطل بهذا الأمر.

وتلحظ عجبا حين تعلم أن حسانا رضي الله عنه لم يكن من فرسان المسلمين، حيث لم يكن يجيد القتال، حتى إنه في غزوة الخندق كان في المدينة مع الضعفاء والأطفال ومن لا يقاتلون..وهذا يدل على أن جهاده بلسانه يكافئ جهاد الفرسان بسيوفهم، وأن رسول الله رضي منه بشعره الذي سبب يدافع به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واكتفى بذلك منه.بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من شأن الشعر في الصراع بين الحق والباطل وفي النيل من المشركين، ففي عمره القضاء خرج عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو داخل في مكة، فقال:

خَلّوا بَني الكُفّارِ عَن سَبيلِهِ
خَلّوا فَكُلُّ الخَيرِ في رَسولِهِ
قَد أَنزَلَ الرَحمَنُ في تَنزيلِهِ
في صُحُفٍ تُتلى عَلى رَسولِهِ
بِأَنَّ خَيرَ القَتلِ في سَبيلِهِ
يا رَبُّ إِنّي مُؤمِنٌ بِقيلِهِ
أَعرِفُ حَقَّ اللَهِ في قَبولِهِ
نَحنُ ضَرَبناكُم عَلى تَأويلِهِ
كَما ضَرَبناكُم عَلى تَنزيلِهِ
ضَرباً يُزيلُ الهامَ عَن مَقيلِهِ
وَيُذهِلُ الخَليلَ عَن خَليلِهِ
أَو يَرجِعَ الحَقُّ إِلى سَبيلِهِ

فقال عمر: “تقول الشعر في مكة وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دعه يا عمر؛ فلهي أسرع فيهم من نضح النبل). وفي ذلك بيان لأثر الكلمة في النفس، وأن أثرها يفوق أثر السيف كما قال الشاعر العربي:

جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان

وفي القرآن الكريم يقول ربنا: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) وردت مرتين ، قال ابن عباس: “أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان”.. هكذا كان الأمر قديما، تهتم الأمم والدول بإعداد فرسانها في ميدان الكلمة كما كانت تهتم بإعداد فرسانها في ميدان الجهاد والكفاح المسلح جنبا إلى جنب؛ إذ المعركة الإعلامية لا تقل ضراوة ولا أهمية عن المعركة الحربية. وفي العصر الحديث تهتم الجيوش الحديثة بالكلمة جنبا إلى جنب البندقية والمدفع والدبابة فيما يسمى (بسلاح الشئون المعنوية) ،هذا الذي يهدف من خلال الكلمة إلى إعداد الجنود نفسيا وبث الرعب والهزيمة في نفوس جنود الأعداء.

ولا يقف أثر الكلمة عند حد المعارك الحربية فقط، بل إنه ليمتد أيضا ليحوز مكانا مهما في ميدان المعارك السياسية: داخلية كانت أم خارجية.. ففي الداخل يختار كل حزب سياسي من يسمى بالمتحدث الإعلامي للحزب يكون عمله الدفاع عن سياسة الحزب وأفكاره ومبادئه من خلال الحديث إلى وسائل الإعلام ولا عمل له إلا هذا..وكفى به عملا لو كانوا يعلمون، وفي الخارج تخصص لكل دولة وزارة كاملة لهذا الشأن هي التى تسمى (وزارة الخارجية) مهمتها الأساسية الدفاع عن سياسة الدولة ومبادئها وقراراتها ومواقفها إزاء الأحداث المختلفة، ونقض الشبهات التى يروجها الأعداء..كل ذلك من خلال البيانات والتصريحات الصحافية التي يصرح بها وزير الخارجية ومن هم دونه من السفراء والدبلوماسيين ..وغيرهم.

أرأيتم ما كان وما يكون للكلمة من أثر في ميدان القتال والسياسة ..فماذا بعد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى