وإني لأندم
بقلم: داليا الحديدي | كاتبة مصرية
يتمتع عدد من الرياضيين بتوافق عضلي عصبي، بحيث تتحكم أعصابهم فتكون عضلاتهم طيعة لما تمليه عليه أعصابهم. بالمقابل ندر من تمتع بلياقة التوافق “السلوكي المعتقدي”، فيقع في فخ عدم الولاء للقناعات.
فمثلًا: إن اعتقد شخص بضرر السكريات على الصحة، فإنه بإزاء مواجهات وتحديات يومية لمجابهة الحلويات. فيما إن آمن أخر بحرمة الرشوة، فقليلًا ما سيلحظ أن هدايا العمل غلول.
وشتان بين مجاملات زملاء العمل هدايا أصدقاء لا مصالح نفعية بينهم، بل محض محبة نشأت من ذكريات الطفولة.
فتبني المرء لكوكبة من المثل والقيم، تجعله بمسيس الحاجة “لنفس نفيسة” بمستوى المُثل والمبادئ التي يعتنقها لتحمل معه أعباء تطبيق تلكم القناعات، لتمكنه من الهيمنة والتحكم لإملاء معتقاداتها، ومن ثم تستطيع النفس أن تسوق سلوكيات المرء.
فالتوافق السلوكي المعتقدي يحول دون توبيخ الأب لإبنه لو كسر مزهرية نادرة أو خرب جهازاً ثمينًا أو آلة موسيقية عتيقة لو كان يؤمن أن الأجهزة والمزهريات والآلات تعوض، وإن خطأ الإبن ولو علنًا أمام رؤساء الأب في العمل ليس عارًا أو وصمًا.
فيما كسر الخاطر يُدفن في الذاكرة بل لربما يحيا فيها للأبد. فإحراج الابن علنًا لهو الجرح الذي يحول صغيرك لكائن معاق اجتماعيًا في المجتمع.
فمن يعتاد على إهانة ابنه علنًا يعطي الآخرين صكًا مختومًا بهدر كرامة الابن، فيصبح هوانًا على الناس أهوان.
فكما يحتاج الإنسان لجسد رياضي فائق اللياقة يعينه على ممارسة التوافق العضلي العصبي، فإنه بالتوازي بحاجة لضمير فائق اليقظة لممارسة التوافق المعتقدي السلوكي.
فلأننا نصرف سلوكياتنا من حساب معتقداتنا، فتلك المصارف تُسفر عن تصرفات تمر عبر ممارسات تشهد علينا إما بوفائنا لقناعتنا وإما لخيانتنا لها.
فالممارسات الأخلاقية الإيجابية تكشف عن نفسها في صورة تصرفات صائبة تصدر من الضمير ثم تمر عبر عنق أسلاك أوسلوكيات منسوبة لصلب المعتقد الشريف، النزيه.
والمشكل أن كل ما سبق يعتمل في ضمير الإنسان، بحيث يجد المرء نفسه بمواجهة صراع داخلي لتبني قرارات في لحيظات معدودة. فإما يلتزم بقناعته وإما ينكُص ويكُع عنها.
وأحسب أننا قلما نُلهم حُسن التصرف إلا عقب إنتهاء الموقف، فأكثرنا يتأكد من صوابية إجاباتهم، مباشرة عقب الخروج من قاعة الإمتحان، لا أثناء الإختبار ذاته.
بمعنى أننا نقع في خطأ التطبيق بالتصرف الخاطئ رغم معرفتنا الأكيدة للنظرية الصائبة او للإجابة الصحيحة التي كان من المفترض أن نتبنى سلوكاتنا وفقًا لها.
فحفظ النظرية أسهل بكثير من تطبيقها هذا عدا غياب عامل الإستعدادا.
فإن كنا صغارًا نستعد للإمتحان قبله بأيام و ندخل قاعة الاختبار ونحن على يقين أن الأسئلة ستكون تطبيقاتها مختلفة – قليلًا – عما ظهرت عليه النظرية بكتاب الوزارة، إلا أننا في امتحانات الحياة نغفل أننا بإزاء اختبار،يومي، لحظي بل وآني، لذلك، نعشى عن كلا من النظرية وتطبيقاتها.
فقديما قال نبتشة” عش في خطر” وللأسف نحن لا نستلهم هذا الشعور بالخطر إلا ونحن بإزاء امتحان محدد بمدة زمنية موقوتة، فيما نغفل كليا عن حقيقة كون الحياة بمثابة امتحان يومي مدته العمر كله..
فالأحداث تكون أشد وضوحاً وأكثر قابلية للتوقع بالإدراك المتأخر، فحينما يـتأكد الانسان قطعياً من النتائج، يتولد لديه شعوراُ أن الموضوع كان بديهياً للغاية فيتعجب “كيف فاتتني”؟
وأكم من تصرف نسلكه، ثم نتأكد من خطئه مباشرة عقب إنتهاء الموقف ونندم وقد نوبخ أنفسنا: “كان يجب أن أتصرف على نحو معاكس، كيف تصرفت بهذا الشكل؟”
من تلك المواقف، أذكر أنني كنت في اواخر العشرينات من عمري، كنت أتسوق ذات يوم، فوجدت حانوتًا يبيع أثوابًا مبهرة بالوان رائعة وبتصاميم رومانسية، فتقصيت عن السعر، وخلصت أن بإمكاني شراء عدة أثواب عقب استلام راتبي.
يبدو إنه في هذا السن، كنا نتعاطي مع الملابس على أنها إضافة للذات، فكنت إن أعجبتني قطعة استلهمت منها شعورا بأنها ستكلل بنائي وستحافظ على صورتي الذهنية ولو أمام حالي، ما كان يجعلني اتعلق بها واشتري اكثر من لون لنفس القطعة.
عدت للحانوت لاحقًا محملة بالنقد، لكن قبيل الدفع رحت أتفحص الأثواب، فوجدتها على حالها بانتظاري، ولمحت بجانبي شابة تقلب الأثواب والأفكار معًا، فلم تستوقفني كثيرًا كونها كانت تُحَدِث البائع، إلا أني لمحت استحسانها لنفس الأثواب.
فهرولتني نفسي المعتمة للدفع والاستلام.. لكن للعجب وجدت البائع محتدًا في حديثه معي: حرام عليكِ، ألا تفكرين سوى بنفسك، على الأقل اتركي لها واحدًت، إنها عروس وتحتاجه لحفل خطبتها لتتشرف به أمام أهل عريسها”.
وقع كلام البائع على رأسي فأدماني، ولكم شعرت بالخزي من حالي ولكم احترمت هذا الرجل، وخزيت من نفسي .. فأكم من بائعين لا هم لهم سوى تلبيس الزبون في البضاعة أملًا في الأعشار ونسب الأرباح، لكن الإنساني في هذا البائع كان كاسحًا، فآثر إرجاء استلام النقد ليسعد عروس راحت تستجمع ثمنه، على أن يبيع و يتحصل على نسبة أربع أثواب في يوم واحد.
لقد فاقت لياقاته السلوكية سلوكي، لربما كونه كان أدرى بخبر الخطبة.. ولربما ولربما.
ولكم حاولت مرارًا اختلاق الأعذار لنفسي لأستطيع مواجهتها ولو أمام المرآه دون أن أستحي من حالي.
مرت سنوات على هذه الواقعة، إلا انني كلما تذكرتها عاتبت نفسي: كان أجدى بي فعل كذا، وليتني وألف ألف ليتني.. ليتني دفعت ولو جزء من ثمنه للعروس دون أن تدري على أساس أن المحل قد أعد خصمًا للعرائس.
ولكنه ضعف في قدرات التوافق السلوكي المعتقدي.
مر الموقف الاختباري وقد رسبت في الإمتحان وظهرت لي الإجابة الصحيحة مباشرة عقب الخروج من الحانوت.
صدقًا إننا نعيش حياتنا للأمام، لكن كثر منا يدرك الصوابيات بأثر رجعي، حينما تمضي الحياة به للخلف.
وإني لأندم.