القاهرة جوهرة الشرق..
أميرة عبد العزيز | القاهرة
كانت للقاهرة منذ مئات السنين مكانة كبيرة بين مدن العالم، لقد وُلِدت وعاشت ولاتزال تعيش وتقف صامدة شامخة رغم كل المِحن بل وسارت في موكب الزمن ولم تتخلف أبداً عن ركب الحضارة حتى في أصعب الأوقات التي مرت بها، إنها أسطورة من بين أساطير المدن العالمية في قهر كل معتدي عليها ومثلاً يُحتذى به في الكرم والترحيب بكل من يأتي إليها زائراً على أرضِها.
كانت قديماً تُعرف بإسم ” من نفر ” او ” منف ” أي المدينة الجميلة وضاحيتها هليوبوليس ” مدينة الشمش ” وباللغة المصرية القديمة ” أون ” وتعتبر القاهرة عاصمة مصر منذ أن وحدها الملك نارمر عام 3200 ق.م.
يزيد عمر القاهرة عن الألف عام ولذلك أُطلِق عليها لقب ” جوهرة الشرق “.
تبدأ حكاية جوهرة الشرق بعد قضاء الفاطميين على الدولة الإخشيدية حيث فكر جوهر الصقلي في بناء عاصمة جديدة للخليفة الفاطمي المعز لدين الله، الذي كان يقيم في بلاد المغرب تمهيداً لإنتقاله إلى مصر وفي عام 968م جمع المعز لدين الله الفاطمي حوالي ألف فارس معظمهم من القبائل البربرية والصقالبة وأعطى المعز لجوهر الصقلي تفويضاً كاملاً بجميع سلطاته العسكرية والسياسية والمالية وجهزَ الجيش بعناية فائقة وفي نفس العام خرج جوهر الصقلي على رأس الجيش الفاطمي ولم يَلقى أي مواجهة حقيقية في هذا الوقت، كان عدد وعُتاد الجيش كبير في ذلك الوقت حيثُ أشار المقريزي في كتبه عن جيش المعز قائلاً: ” أنه لم يَطأ الأرض بعد جيش الإسكندر أكثر عدداً من جيوش المعز “.
والحقيقة لم يكن دخول الفاطميين لمصر مجرد إحلال دولة بدولة أخرى بل أنه كان نقلة كاملة من الناحية الدينية والإجتماعية والثقافية.
في بداية الأمر كان أول عمل قام به جوهر الصقلي عند دخوله مصر هو وضع أسس لمدينة جديدة تكون عاصمة للدولة التي تضم معظم الأراضي الإسلامية، وكانت فكرة بناء قصر كبير لإستقبال الخليفة المعز أول ما فكر فيه جوهر الصقلي، ثم عَمَدَ على تجهيز ثلاث خطط وقسم جيشه بناءاً عليها لثلاث قبائل لكل قبيلة منها خطة نُسِبت إليها فيما بعد، وأحاطها بالأسوار والأبواب المحصنة ” كباب النصر وباب الفتوح وباب زويلة “.
والجدير بالذكر أن القاهرة عُرِفت في البداية بِإسم المنصورية التي أنشأها المنصور بالله والد المعز، ولكن ما أن وصل المعز إلى مصر حتى حوَّلَ إسمها إلى القاهرة، وارتبطت هذه القصة بالمنجمين حيث قيل أنها بُنِيت وقت ظهور كوكب المريخ الذي كان يُسمونه حينها القاهر.
لقد كان المعز لدين الله الفاطمي حاكماً عادلاً محبوباً بين الناس وكان له في قلوب المصريين مكانة كبيرة وقدراً عظيماً لذلك سنتحدث عن شارع من أهم شوارع القاهرة الفاطمية يحمل إسمه إن لم يَكن بالفعل أهمها ألا وهو ” شارع المعز ” الذي يعتبر بمثابة أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم وموقع تراثي فريد ويقع في منطقة تضم كوكبة من الجوامع والمآذن والقباب تتجمع وتتآلف معاً كانها لوحة مبدعة ناطقة بأعذب الألحان التي تأسِر الوجدان مع الألوان الدافئة الممزوجة بالطابع الإسلامي والثقافي والروحاني لتكتمل بها اللوحة وتُشبِع وجدانك وقلبك وعقلك ولا تمل منها العيون عندما تنظر إليها.
يرجع تاريخ ميلاد شارع المعز إلى عام ( 341-365هجري/ 953-975ميلادي )، وهو عصر الخليفة المعز لدين الله الفاطمي الذي حكم مصر في الفترة بين (358-365هجري/969-975ميلادي ) وعلى مر العصور تغيرت مسميات الشارع التاريخية وعُرِفَ بشارع المعز منذ عام 1937م تكريماً له كمنشئ ومؤسس للقاهرة كما تم إدراجه على قائمة مواقع التراث العالمي في عام 1979م.
يمتد الشارع بين بابين من أسوار القاهرة القديمة باب الفتوح شمالاً حتى باب زويلة جنوباً باب زويلة أو باب المتولي وباب المؤيد وهو أكبر أبواب القاهرة، يوجد من الناحية القبلية من شارع المعز – وله قصة تاريخية في غاية الأهمية وهي عندما أرسل هولاكو رسله لتهديد مصر أعدمهم السلطان قطز واتعلقت رؤوسهم على باب زويلة – ثم مروراً بعدة حارات وشوارع تاريخية عريقة من أشهرها ( شارع أميرالجيوش، الدرب الأصفر، حارة برجوان، خان الخليلي، والغورية، والمساجد الأثرية، والمدارس، والأسبلة والكتاتيب، والقصور، وبيمارستانات أي مستشفيات.. )، فهو وبحق يضم مجموعة من أروع آثار مدينة القاهرة والتي بدورها تعكس إنطباعاً كاملاً عن مصر الإسلامية في الفترة من القرن العاشر حتى القرن التاسع عشر الميلادي تبدأ من العصر الفاطمي بمصر حتى عصر أسرة محمد علي.
باب الفتوح 480هجري/1087ميلادية – من أعمال بدر الدين الجمالي ويقع بالسورالشمالي لمدينة القاهرة الفاطمية
باب زويلة أو باب المتولي وباب المؤيد
شارع المعز أو الشارع الأعظم هكذا كان إسمه في البداية وفي مرحلة لاحقة سُمي بقصبة القاهرة وكلها مسميات لهذا الشارع العريق الذي يُمثل قلب مدينة القاهرة القديمة والمركز السياسي والروحي للمدينة، وتم تطويره لكي يكون متحفاً مفتوحاً للعمارة والآثار الإسلامية، كما يوجد به بعض الأنشطة التجارية المختلفة ومحلات الحرف اليدوية التقليدية على طول الشارع.
وإليكم نبذة عن بعض الآثار التاريخية لهذا الشارع الأثري العتيق:
” مدرسة وقبة الصالح نجم الدين أيوب ” تعتبرمن أهم الآثار بهذا الشارع تعتبر واحدة من أهم المنشآت المعمارية الباقية من العصر الأيوبي، تقع في منطقة بين القصرين من شارع المعز لدين الله، عُرِفت بالمدرسة الصالحية حيثُ بدأَ في إنشائها نجم الدين أيوب في عام 641هجري/ 1243ميلادي وتُعَد هذه المدرسة الأولى من نوعها لتدريس المذاهب السُنية في مصر حيثُ أُنشِئت لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة بدلاً من المذهب الشيعي الذي كان يدرسه الفاطميون من قبل، وكان لكل مذهب مكانه الخاص بالمدرسة.
ولعل أهم ما يميز هذه المدرسة إحتفاظ واجهتها الرئيسية بزخارفها الفنية ومئذنتها المميزة التي تعلو المدخل، ولكن لم يتبق من المدرسة حالياً سوى الإيوان الغربي ( إيوان المذهب المالكي ).
مدرسة وقبة الصالح نجم الدين أيوب
أنشأها نجم الدين أيوب في عام 641هجري/ 1243ميلادي
يرجع تاريخ إنشاء القبة الضريحية ( قبة الصالح نجم الدين أيوب ) الملاصقة للمدرسة إلى عام 647هجري/1249ميلادي والتي شيدتها السلطانة شجر الدر زوجة الملك الصالح بعد وفاة زوجها خلال الحروب الصليبية في المنصورة، حيث دُفِنَ في قلعة الروضة إلى أن إكتمل بناء القبة ونُقِلَ إليها في عام 648هجري/1250ميلادي، وللقبة واجهة واحدة رئيسية بها مدخل على شارع المعز يعلوه لوحة تحمل كتابات تشير إلى تاريخ وفاة الملك الصالح وتمثل المقصورة الخشبية بداخل القبة نموذج فريد من نوعه للتحف الخشبية في العصر الأيوبي بزخارفها الكتابية المحيطة بها.
” بيت السحيمي ” يقع في حارة الدرب الأصفر في شارع المعز، ويُعد من أجمل بيوت شارع المعز والقاهرة القديمة وعُرِفَ ببيت السحيمي نسبة إلى آخر من سكنه الشيخ السحيمي وهو من كبار علماء الأزهر وشيخ رواق الأتراك في العصر العثماني.
يحتوي البيت على عدة مباني تطل على فناء واسع وحديقة خلابة بمجموعة من المشربيات الخشبية الرائعة وبه قاعات استقبال فريدة من نوعها مجهزة بأثاث يعبر عن روح العصر الذي بُنِيَ فيه.
” سبيل وكُتاب عبد الرحمن كتخدا ” يقع هذا السبيل عند تقاطع شارع المعز مع شارع التمبكشية، شيده الأمير عبد الرحمن كتخدا القازدغلي سنة 1157هجري/1744ميلادي وهو أحد قادة الجيش في العصر العثماني بمصر وكان مهتماً بتشييد العمائر المتنوعة بمدينة القاهرة.
سبيل وكُتاب عبد الرحمن كتخدا
شيده الأمير عبد الرحمن كتخدا القازدغلي سنة 1157هجري/1744ميلادي
يتكون السبيل من غرفة التسبيل وهي مستطيلة الشكل لها ثلاث واجهات بكل منها شباك نحاسي يتقدمها ألواح رخامية من الخارج مخصصة لوضع كيزان الشرب لسقاية المارة وغُطيت جدران السبيل من الداخل بالبلاطات الخزفية ( القاشاني )، والتي تنوعت زخارفها بين الزخارف النباتية العثمانية ورسم للحرم المكي، كما يعلو السبيل كُتّاب لتعليم أيتام المسلمين القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
” جامع الحاكم بأمر الله ” يقع الجامع بنهاية شارع المعز بحي الجمالية بجوار باب الفتوح ويعتبر رابع أقدم المساجد الجامعة الباقية في مصر وثاني أكبر جوامع القاهرة إتساعاً بعد جامع أحمد بن طولون، كما يُمثِل المدخل الرئيسي البارز بالواجهة الغربية أقدم أمثلة المداخل البارزة بمصر.
جامع الحاكم بأمر الله تم إنشائه في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله سنة 380هجري/990ميلادي واكتمل بناؤه في عهد إبنه الحاكم بأمر الله عام 403هجري/1013ميلادي
أمرَ بإنشائه الخليفة الفاطمي العزيز بالله سنة 380هجري/990ميلادي وتُوفيَ قبل إتمامه فأتمه إبنه الحاكم بأمر الله عام 403هجري/1013ميلادي.
في البداية كان المسجد وقت تشييده خارج أسوار القاهرة القديمة التي شيّدها جوهر الصقلي ثم أصبح داخل حدود المدينة بعد أن قام بدر الدين الجمالي بتوسعة المدينة وتشييد الأسوار الحالية وذلك عام 480هجري/1087ميلادي.
أما عن تخطيط الجامع فهو مستطيل الشكل ويتكون من صحن أوسط مكشوف تُحِيطه أربع أروقة ويعلو واجهته مِئذنتين.
للمسجد تاريخ مثير للإهتمام حيث إتخذته الحملة الفرنسية مقراً لجنودها واستخدمت مئذنتيه كأبراج للمراقبة، وبعد ذلك استُخدِمَ رواق قبلته كأول متحف إسلامي بالقاهرة أُطلِقَ عليه دار الآثار العربية.
لقد كانت القاهرة وستظل وستبقى تحمل ذاكرة شوارعها أسرار وحكايات مليئة بالدموع والإبتسامات والإنكسارات والإنتصارات التي لاتزال باقية ما بَقِيَ التاريخ وما بقيت الآثار.