هل سترسم الحرب الروسية الأكرانية معالم نظام دولي؟

محمد المحسن | تونس                                                                                   
“كلنا متساوون، ولكن بعضنا متساوون أكثر من الآخرين”
جملة شهيرة قيلت على لسان عدد من الحيوانات التي شعرت بأنها تعامل كحيوانات درجة ثانية في رواية “مزرعة الحيوان” للكاتب البريطاني الشهير “جورج أورويل”، تذكرها البعض الآن وهم يتابعون اهتمام الغرب (أمريكا وأوربا) ومن ورائهم وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل المملوكة للغرب بما يحدث على الساحة الأوكرانية في محاولة واضحة لحشد الرأي العام العالمي ضد روسيا ممثلة في رئيسها “بوتين”، في حين لم يشهد سكان الكوكب من قبل مثل هذا الغضب الغربي تجاه حروب أخرى أكثر عنفا وتدميرا اندلعت في أفريقيا وآسيا، دمرت فيها بلدان وتشرد ملايين من أهلها، حينها وقف الغرب موقف المتفرج عن بعد أو على أكثر تقدير موقف المراقب عن كثب، أما في حالة الحرب الروسية الأوكرانية فإن الموقف مختلف تماما.  تشعر بأن معركة “كييف” تمثل للغرب قيمة تقارب سقوط جدار برلين، وهو عازم على الانتصار من جديد على عدوه التقليدي وريث الاتحاد السوفيتي السابق الذى يحاول “بوتين” بعثه بعد موات. سقط الاتحاد السوفيتي دون طلقة رصاص، انهار الكيان العملاق بسرعة وسهولة بسبب الفساد والجمود الذي نهشه من الداخل.
عدم مرونته تجاه التغيرات الاقتصادية العالمية وعدم الالتفات إلى طموحات مواطنيه ورغباتهم التي أغوتهم بها الرأسمالية العالمية ومفاهيم العولمة،جعل مهمة الغرب سهلة وأصبح نموذجه الحياتي حلما لكل مواطني دول الاتحاد السوفيتي السابق.أما الآن فإن الغرب في معركته مع روسيا لا يستخدم فقط القوى الناعمة من إعلام وتصريحات نارية وحشد مؤيدين ولكنه يضيف إليهم كل أدواته التي يمتلكها للردع.
الناتو يحشد قواته شرقا وأمريكا والعديد من الدول الأوروبية أعلنت عن إرسال دعم عسكري لأوكرانيا إلى جانب المساعدات الإنسانية وفتح حدودها لاستقبال النازحين جراء الحرب،كما تتزعم أمريكا حملة دولية لعزل روسيا وتقويض اقتصادها بحزمة عقوبات لم يسبق لها مثيل. الغرب يواجه لأول مرة منذ عقود معركة وجود، مفاهيمه حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات ومنظومة قيمه الحاكمة التي روج لها على أنها وحدها دون غيرها القادرة على إسعاد الناس حول العالم وتحسين حياتهم، محل مراجعة وتقييم وقد أصبحت مرهونة بما ستسفر عنه الحرب الروسية على أوكرانيا من نتائج.
ما أريد الإشارة إليه..؟
أريد أن أشير هنا إلى أن حرب روسيا على أوكرانيا تعد إحدى أكبر الأزمات التي تعيشها القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية،والتي ستكون لها حتما انعكاسات متعددة الأوجه على النظام العالمي برمته نتيجة المسار الذي اتخذته أبعاد الحرب والتوترات التي أعقبتها وطبيعة القوى الفاعلة في صياغة ملامحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ذلك أن شظايا الحرب ومخلفاتها والعقوبات التي طالت روسيا بما يشبه “قنبلة نووية” اقتصادية ستنعكس آثارها وتتطاير شظاياها لتمس بشكل أو بآخر المنطقة العربية التي تتقاطع مصالح دولها مع الجانبين الروسي والأوكراني.
والأمر نفسه مع تركيا التي تربطها شراكات متعددة ومصالح متشابكة مع طرفي النزاع، أي روسيا وأوكرانيا من جهة، ثم باعتبارها عضوة في حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO)، مما يجعل الحرب الراهنة محملة بعدة انعكاسات مباشرة على تركيا والعالم العربي، وأخرى بعيدة المدى نظرا لمخلفاتها على النظام الدولي.
ازدواجية المعايير:
والحال أن المعايير المزدوجة الغربية قد أصبحت على المحك مرة أخرى، ذلك أن التدخل الغربي في أوكرانيا من خلال المستشارين والعتاد الحربي والمساعدة الاقتصادية والتحريض على ممارسة أوكرانيا لاستقلالها بالانضمام لحلف الأطلنطي وعدم الرضوخ لروسيا، قد أفضى عملياً إلى ما يراه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي تقصيراً من الغرب في حماية بلاده عند بدء العمليات العسكرية الروسية والاكتفاء بالمساعدة الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية، وهو ما دفع الرئيس الأوكراني إلى التصريح بإمكانية مناقشة “حياد أوكرانيا” مع روسيا. وبطبيعة الحال جاء هذا التصريح متأخراً وليس في التوقيت الملائم وسرعان ما عاد الرئيس الأوكراني إلى تبني التوجهات السابقة ذاتها على هذا التصريح.
تقف الولايات المتحدة الأمريكية وأعضاء حلف الناتو إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا موقفاً لا يتلاءم مع الخطاب الغربي المتشدد إزاء روسيا، واكتفوا بالعقوبات الاقتصادية والتي في نظرهم تشل قدرة روسيا على تمويل الحرب وتضعف من اقتصادها.وقد تدخل نتائج هذه المواجهة الروسية- الأوكرانية في إطار رسم معالم نظام دولي جديد إن في أوروبا أو العالم، بموجبه تتقلص قوة ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية واعترافها بتحول العالم إلى نظام متعدد الأقطاب، أو في الحدود الدنيا إنشاء نظام أمني أوروبي جديد يحقق لروسيا متطلبات أمنها القومي ويحفظ لأوروبا ترتيبات أمنية جديدة. وفي جميع الأحوال، فإن هذه المواجهة قد تحفل بآثار على المدى المنظور والمتوسط والبعيد لم تتبلور بعد في ضوء استمرارها.
حين يتيح الصراع جملة من الفرص :
يرى الباحث في الشؤون السياسية والأمنية العميد خالد حمادة أن الصراع الروسي – الأوكراني المفتوح يُتيح فرصاً لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما النفطية منها، لتعزيز مواقعها في مجال العلاقات الدولية. فمن المنطقي أن تسعى المملكة العربية السعودية إلى وضع الطلبات الأميركية والأوروبية لزيادة إمدادات النفط لصالح تعزيز موقعها.وكذلك ستطمح قطر في المقابل للحصول على تنازلات أوروبية،قد يكون على رأس قائمتها تأجيل المفوضية الأوروبية تحقيقاً مدّته أربع سنوات حول استخدام الدوحة المزعوم لعقود طويلة الأجل لمنع تدفق الغاز إلى السوق الأوروبية الموحدة.
ويضيف: “تتخذ دول شرق أوسطية أخرى مواقف أكثر تحفظاً في رهاناتها. فقد شهد العقد الماضي ازدهاراً في العلاقات الأمنية والاقتصادية بين روسيا والكثير من الدول في الشرق الأوسط، مدفوعاً بإحساس بتناقص الاهتمام الأميركي بالمنطقة.
 ويقول أيضا: “تركيا بدورها ستكون أيضاً جزءاً مهماً من المعادلة، لكونها عضواً في الناتو، ولها علاقات وثيقة بكلّ من روسيا وأوكرانيا. وسيعزز الصراع في أوكرانيا تنافس روسيا والغرب على جذب أنقرة، إذ تحرص واشنطن على أن تواصل أنقرة مبيعاتها من الأسلحة ل#كييف؛ طبعاً من غير المرجّح أن تتحالف تركيا بشكل كامل مع الغرب ضد روسيا تجنباً لمزيد من التعقيدات. لكنّ هذه الديناميكيّات ستؤدّي بلا شك إلى سياسة خارجية تركية أكثر ثقة بالنفس، تحديداً في البحر الأبيض المتوسّط وسوريا، وتخفيف حدّة الانتقادات الغربية للوضع التركي الداخلي.
 ويُشير إلى أن تركيا ستشعر بأنها أكثر ارتياحاً في الشمال السوريّ، وستأخذ إجازة طويلة ومريحة من الضغط الدوليّ والأميركي، ويمكن أن تستثمر في هذا الموضوع، وأن تُطلق عمليّات ضد الأكراد، لأنّها تشعر بأن الأميركيين لن يكون لهم موقف صلب تجاهها.
وإذن ؟
المواطن البسيط إذا في العالم يتساءل باهتمام: متى ستنتهي هذه الحرب التي ليس له فيها ناقة ولا جمل لكنها ستؤثر على حياته؟ ارتفاع أسعار القمح والنفط والعديد من المعادن الأولية المهمة في التصنيع والتشييد سيكون له تأثير مباشر على حياة المواطن في كل بقاع كوكبنا، البورصات العالمية تأثرت بهذه الحرب، وكذلك دورات التصنيع والشحن والنقل. معظم دول العالم تأثرت اقتصاديا بجائحة كورونا، وكان لديها أمل في التعافي من تبعات هذا الوباء الذي حال دون الكثير من الأنشطة الاقتصادية وعلى رأسها حركة الطيران والسياحة العالمية كما ارتفعت أسعار السلع عالميا بسبب حالة الاضطراب التي شهدتها سلاسل الإمداد، كانت الآمال معقودة على عام 2022 ليكون بداية التعافي ومعاودة الأنشطة المتوقفة والنمو الاقتصادي، لكن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا بدّد هذه الأماني، وزادت الطين بلّة مخاوفُ توسع رقعة الحرب ورهاب استخدام السلاح النووي.
وهنا أختم :
من حيث المبدأ ان العدوان على الدول الآمنة المسالمة،قبل استنفاذ جميع الوسائل السلمية لحل النزاعات،أمر مرفوض أخلاقيا وإنسانيا وقانونيا. كما أن محاولات الدول الكبرى إنشاء مناطق نفوذ وإخضاع الدول الصغيرة لإرادتها يمثل استمرارا للعقلية الاستعمارية البغيضة، والتي كلفت العالم ملايين الضحايا.
ولعل ما حاولته روسيا قبل الحرب من جهود وعلى مدى 20 عاما لمنع انضمام أوكرانيا لحلف الاطلسي، والالتزام بالمعاهدة التي تقضي بحياد أوكرانيا، وبالتالي منع وصول الاسلحة النووية الى الحدود الروسية، لا يختلف عن ما قامت به الولايات المتحدة ازاء كوبا والاسلحة السوفياتية عام 1962.
ولكن مرونة الاتحاد السوفياتي آنذاك، وتراجعه عن إقامة قاعدة عسكرية متقدمة في كوبا، منعت الصدام المسلح بين العملاقين النوويين. في حين أن تعنت الأطراف اليوم والنوايا المبيتة لدى الحلف الأطلسي ضد روسيا، أدى إلى اندلاع الحرب على أوكرانيا.
ومن هنا يصعب التسرع بالحكم على نتائج الهجوم الروسي، والذي كانت تحضر له روسيا بكل جدية وعلنية منذ فترة. ومع هذا فلا بد من استيعاب الدروس التي تحملها الحالة الروسية الأوكرانية ومحاولة الإفادة منها..
 انها مرحلة تدمير المفاصل وعض الأصابع قبل قبل أن تلوح الحلول في الأفق الرمادي أصلا. وسوف تمارس أميركا وأوروبا الضغط على الدول العربية البترولية لزيادة انتاجها من النفط لتعويض الإنتاج الروسي وزيادة انتاجها من الغاز لنقله إلى أوروبا.
إن أزمة الغذاء والتمويل والطاقة ستتفاقم في المنطقة العربية إذا طالت الحرب. ومن هنا فنحن في الأردن بحاجة ماسة إلى “خلية أزمة” من الخبراء والمفكرين بالتشارك ما بين القطاع الرسمي
والقطاعات الأخرى لمتابعة ما يجري، واقتراح الإجراءات اللازمة.
ولكن هل يلتقي الزعماء العرب للاتفاق على برنامج مشترك يخفف من الآثار السلبية للحرب الروسية الأوكرانية؟ تلك مسألة بالغة الأهمية،ولكنها بعيدة الاحتمال.
ورغم أن نتائج هذه المواجهة بين روسيا وأوكرانيا لم تتضح بعد،إلا أن ما بعد هذه المواجهة سيختلف قطعاً عما قبلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى