سهيل كيوان | فلسطين
في جعبتي خبرٌ مُمِلٌ، أعتذر سلفاً، فهو مُكرَّرٌ جداً، وفقد بريقه منذ سنين. صحيح أنّ هناك أخباراً تتكرر في كل ساعة، ولكنها لا تفقد بريقها، مثل ظهور ابنة الفنانة (م) في إطلالة جريئة، أو تعثّر مقدمة برنامج ترفيهي على خشبة المسرح وظهور ما يجب أن لا يظهر، هذه أيضاً أخبار متكرّرة، ولكن لسبب ما ليست مملّة، كلُّنا، ولا أستثني سوى من يرغب باستثناء نفسه، نهرع لنرى من التي تعثّرت، وما الذي ظهر منها، كي نهنئها بقلوب مُحبّة بالسّلامة، وفي كل مرة يتّضح أنَّها قامت بالسَّلامة بالفعل ولم تصب بأي أذى، بل نهضت مثل ابن البقرة الوحشية وابتسمت كأن أمراً لم يحدث، ولكن نحن الذين لدينا الفضول الذي لا يقاوم للاطمئنان على سلامتها.
يقول الخبر إن السُّلطات هدمت قرية العراقيب في النقب للمرة المئتين وسبع عشرة، خبر بائخ ومملٌّ جداً ومكرَّر، فمنذ بداية العام جرت العملية نفسها وانتقل الخبر نفسه ست مرات، وكانت عملية الهدم الأولى لهذه القرية قد نُفذت عام 2010، أي أنّ هدمها يجري بمعدل 18 مرة في العام، فكيف لا يكون روتيناً مُمِلّاً حتى الضَّجر.
نعم، عندما يتكرّر الخبر بهذه الوتيرة فهو لم يعد يثير فضول أحد، حتى النشرة الجوية ذات الأجواء الغائمة جزئياً، أصبحت أكثر إثارة منه.
من حقِّ كلِّ من يبلُغه هذا الخبر المُملُّ أن يتساءل، ما هي هذه القرية التي تُهدم ثم تقام خلال أسبوعين، يسكنها أهلها أسبوعاً، ولا تلبث أن تُهدم من جديد! هل يرسمونها على الورق؟! أم هو عُشُّ دوريٍّ أم يمام! أم هي قرية حقيقية يقطنها بشر! ألا ييأس هذا الذي يبنيها من جديد بعد كل هدم! ألم تملّ السُّلطة من هدمها المتكرِّر! ثم ما سِرُّ هذا العداء المستحكم لهذه القرية من قبل السُّلطة!
إنها قرية بدوية من بضع منشآت من الزنك والجبص والأخشاب والأقمشة والحبال، يعيد أصحابها نصبها بعد هدمها، فلا تلبث جرّافة الديمقراطية أن تعود وتهدمها مرة أخرى.
هي بالفعل بضعة بيوت من مواد خالية من الإسمنت أو الطوب، وهذا يوحي بأنها مؤقتة، ولكن هذا غير صحيح، فالقرية قديمة، وفيها مقبرة تضمُّ رفات أجداد دفنوا فيها قبل ولادة جميع أعضاء الكنيست الحاليين ومن سبقوهم في دورات سابقة.
ثمّ إنّ عدد سكانها لا يقل عن عدد سكان الكثير من المستوطنات التي تخصص لها الدولة جيشاً كاملاً لرعايتها، وتمنحها أمريكا العظمى حقّها في نقض أي قرار يدينها.
يسهل إعادة بناء جدران وأسقف العراقيب، لأنّ اليد التي تبنيها معتادة على بناء هذا النوع من المنشآت، وهذا قد يستغرق بضعة أيام فقط، ولكن الهدم أسهل بكثير، فهو لا يستغرق أكثر من الزمن الذي تحتاجه لإعداد فنجان قهوة وتدخين سيجارتين.
هذه المحاورة الشّعرية بين البناء والهدم، تدور رحاها بين الشيخ صيّاح الطوري أبي عزير وأبناء أسرته من جهة، وسُلطات نظام الاضطهاد القومي والأبرتهايد من جهة أخرى منذ سنين، إنّه صراع أسطوري، تريد السُّلطة أن تثبت لهذا الشيخ المجاهد أنَّ عمله لن يؤدي إلى نتيجة إيجابية، وتسعى لإحباط هذا النموذج من الرجال من أولي العزم، كي لا يكون مصدر إلهام وتقليد للآخرين، لأن حكاية البناء والهدم طويلة جداً، ولن تنتهي في الأفق القريب، إنّهما استراتيجيتان متناقضتان، السُّلطة الكولونيالية تريد القول للشيخ ولمن يفكر في تقليده إنَّ صخرة سيزيف التي يحاول الوصول بها إلى القمة لن تصل أبداً، جرافات الشرطة وكلابها بالمرصاد كي تدحرجها من جديد إلى قاع الوادي.
هذه ليست مباراة عضّ أصابع بين الشيخ وزعران السلطات المتعاقبة بمختلف أطيافها، بل هي تلخّص القضية كلها وبصورة مكثفة جدّاً، هذا صاحب الوطن الذي يتمسّك به حتى الرمق الأخير، وذاك المستوطن الذي يسعى لاقتلاعه وطرده، ليستوطن في مكانه.
لله درك يا شيخ صيّاح، والله إنك مدرسة في النضال والصّبر والتحدي، ترتقي إلى مستوى عظماء الشعوب والأمم.
ضَرب الحكماء المثل في النَّملة التي تعيد الكرّة عشرات المرات إلى أن تنجح، إلا أن إصرار النّملة وعنادها يجري من غير وعيها، وكما علّمني صديق كيميائي، هنالك ما يوجِّه النّملة إلى هدفها، وهو ما يختزنه ويفرزه جسدها من خصائص كيماوية تجعلها قادرة على اكتشاف الهدف عن طريق مجسات الشمّ مباشرة وغير مباشرة وتندفع لملاحقته بلا كلل، إنها في الواقع تشبه الروبوت الذي سيواصل توجُّهه إلى الهدف من غير وعي، مهما تراكمت في وجهه العقبات، لكن هذا العربي الفلسطيني البدوي الأصيل، يبني بيته البسيط بوعي كامل، وهو مدرك أنَّ الجرافة تنتظر الإشارة للانقضاض على فريستها مرة أخرى، ولكنه يعيد الكرَّة، فهو يدرك تماماً قيمة ما يفعله. ومرّة أخرى مع هذا الخبر المُمل، فالمشكلة ليست في بناء غير مرخص أو في بلدة غير معترف بها، بل بقرار استراتيجي، هو تهويد الأرض، كل الأرض وطبعاً منها النقب، بل إنه يحظى الآن باهتمام أكبر، الأمر الذي يعني بديهياً التناقض والصدام مع الوجود العربي فيه.
لقد أدمن العرب اعتداءات السُّلطة وبطشها، وكثيرون منهم باتوا لا يكترثون، حتى إنهم صاروا يعتبرونها من البديهيات المفهومة ضمناً، لأنها متطابقة جداً مع الأسس التي قامت عليها الدولة، وينظرون إليها من باب «يُمهل ولا يُهمِل، وحاكمك ظالمك تشكي أمرك لمين! وإنّك لن تجني الدِّبس من مؤخرة النِّمس، والحيّة عُمرها ما بتصير خيّة، وقومٌ ضلّوا ما ظلّوا، ويا ظالم لك يوم، وما بظل الراكِبْ راكب ولا بظلّ الماشي ماشي، وما بظل على هو إلا هو، وما قوي إلا الله، ولا غالب إلا الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ومرة أخرى أعتذر على الخبر المملّ جداً.