أدب

امرأة زائفة (1)

رواية من واقع الحياة الثقافية

بقلم: الشاعر المهندس أسامة الخولي

إضاءةٌ خافتة يصحبها صوت أم كلثوم تشدو برائعتها “اسأل روحك” جلست سيدة تخطت العتبات الأولى من عقدها السادس أمام تسريحة شعرها جذبت بهدوء حذر حقيبة يدها ثم أخرجت منها علبة صغيرة قرمزية اللون ومفتاحا ذهبيا أدارت المفتاح في ثقب العلبة لتسمع صوت تكة خفيفة
تتأمل محتويات العلبة وعلي عينيها نظرة انتصار مستهتر
لم يكن بداخل العلبة غير مفتاح آخر مطلي بالنحاس الأصفر مدت أناملها لتلتقطه برقة وعناية كانها تلتقط كنزا ثمينا أو قطعة من الماس الخالص
وضعت المفتاح في ثقب الدرج الأكبر في تسريحتها وفتحته بهدوء ثم مدت يدها وأخرجت مجموعة من الأقنعة نثرتها أمامها في مواجهة المرآة
إنها القاهرة حيث يختلط الحقيقي بالمزيف والصدق بالكذب والمحسوس بالمعنوي في خوازمية شديدة العبثية والتعقيد
تتحسس شعرها المفرود على كتفيها لتتأكد أن الصبغة السوداء بدأ مفعولها يسري في خصلات شعرها الأبيض
هي بضع شعرات بيضاء لكن لا ضير من إخفائها إذ أن ضحيتها الجديدة يصغرها في العمر وعموما فالضحايا لا ينجذبون لسيدةٍ بدأ الشيب يغزو شعرها
أي قناع يليق بالضحية الجديدة؟
شبح سؤال يتخايل أمام عقلها
تأخذ أحد الأقنعة وتضعه بعناية على وجهها وتحدق في مرآتها
تتمتم ببعض كلمات غير مفهومة ثم تخلعه وتلقيه جانبا
ههه كانت أيااام
أهو غار في داهية كان مزهقني كل شوية يكلمني عن المباديء الثورية والوطنية
مقابلاتنا دايما في ميدان التحرير وسط الزحمة والصداع وصهد الشمس
هي تكره الشمس جدا لأنها تكره الوضوح
لذا ستجدها دائما تحبذ لقاءاتكما داخل مكان مغلق وغالبا عصرا حيث تلملم الشمس شعرها متأهبة للرحيل
ودائما ستؤكد عليك أن تشعل مكيف هواء السيارة أثناء انتظارك لها أمام بيتها لأنها لا تطيق الشمس والحر
تقول لنفسها كنت مجبرةً في أيامه الهباب أن أنشر وبكثرة على صفحتي بالفيس بوك عن الثوار والحلم الثوري النقي لكي أحكم شباكي حوله ظنًّا مني أن له معارف وعلاقات يمكن استغلالها
اهو كان واكل دماغي بالثورة وعلافتها بالإلحاد فالملحد أول ثائر حر
كنت مضطره أفهمه إني ثائرة حرة تميل للإلحاد
آه أيتها السنون البائسات
أجمل ما كان في هذه المرحلة أنني كنت منطلقة أفعل ما أجيده وأحبه لا ينغصني سوى فقره وإلحاده
أما عن الفقر فكنت مضطرة أمامه أن أقنعه أنني في قمة سعادتي حين أتتاول معه شطيرتي الفول والطعمية وكوبا من شاي الميدان الباهت
وأما عن إلحاده فكان يغيظني أنه لا يغار علي فهو يعرفني بأصدقائه وأتبادل معهم أرقام هواتفهم ثم يخبرني فيما بعد أن صديقه أخبره أنه أمضى ليلته في مهاتفة طويلة معي وأننا تحدثنا في كل شيء ويضحك
بس ابعدي
تصيح مخاطبة قطتها المدلله حينما اقتربت من كعبها
لم يكن يغار أبدا عليَّ يعاملني كقطته التي يسمح لأي عابرٍ أن يداعبها
عاتبته مرة فارتسمت على شفتيه ابتسامة بلهاء ولم يهتم
تلتقط هاتفها تدخل كلمة العبور الأولى فتظهر صورتها الكبيرة التي تضعها خلفية لشاشة الهاتف
هذا القناع تحديدا يستهويني
قناع البراءة المزيفة
التقط هذه الصورة ذلك الشاعر المرهف في حفل توقيع روايتي وكنت قد ثبتُّ هذا القناع بعناية شديدة واعتنيت بتفاصيله وازلت عنه الأتربة التي تراكمت عليه أثناء تخزينه داخل مخبئه حتى بدا حقيقيا
الحمد لله لم يكتشف الحاضرون ليلتها الخط الفاصل بين القناع ووجهي
تفتح قفل الماسنجر تدلف لصفحته تجد منشورا أخيرا له يتحدث عن الله
تبتسم ابتسامة سخيفة وتضع علامة إعجاب دون أن تعلق
ويلٌ للشعراء السذج
أهو طلعنا منه بصورة حلوة
سريعا تعود لصفحة ضحيتها الجديدة تتصل به من خلال تطبيق الماسنجر
-ألو
_ألو
-وصلت يا قمري
_اه تحت البيت
-خلاص دقايق ونازله
مكيف الهواء عندك شغله متنساش
_شغال والعربية تلاجة
-ح احط أكل للقطة ومايه وانزل على طول
أنت عارف الرحماء يرحمهم الرحمن ودي روح
_انت أطيب وأنبل ست في الدنيا
طيب سلام وانا منتظرك
-لأ خليك معايا متقفلش الخط أنا بتنفس طول ما صوتك في ودني
_بس علشان معطلكيش
-لا مفيش عطلة ولا حاجه إنت مستكتر عليا الكام دقيقة دول
فترة صمت
تخرج أثناءها كريم مرطب الجلد لتدهن به ظاهر كفها في محاولة يائسة لإخفاء آثار الزمن عليه
تتأكد من معطر الفم هذه الحبوب بالنعناع التي لا تفارق حقيبتها أبدا
لأنها متأكدة تماما أن
رائحة فمها كريهة من كثرة اعتيادها الكذب
-خلاص حبيبي أنا في المصعد والخط ح يقطع
تجذب سماعات الأذن بعيدا عن أذنيها وتغلق الهاتف وتضغط على زر الأرضي ليبدأ المصعد في الهبوط حاملا زيفها وقناعها وامرأة تجيد الخيانة باحتراف شديد
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى