الرواية الفلسطينية – النكبة وصدمة جيلي الطفولة والشيخوخة
بقلم: رياض كامل
تتغيا هذه المقالة أن تبحث فيما قدمته الرواية العربية الفلسطينية حول تأثير النكبة في جيلي الطفولة والشيخوخة، ودور العجوز وما آلت إليه أحواله، ودور الطفل وما انتابه من مشاعر الخوف والقلق، وأبعاد ذلك على مستقبله، وطريقة مواجهة كل منهما هول هذه الصدمة وردود أفعالهما. للرواية القدرة، على اختراق المشاعر،وعلى الخوض في مواضيع وقضايا يتعذّر على المؤرخين أن يدخلوها. يسعفها في ذلك توظيف تقنيّات ووسائل فنية تمكِّنها من تحريك العقل والعاطفة معا، ومقاربة مواضيع أكبر صدى وتأثيرا، وأكثر عمقا في النفس البشرية من الدراسات التاريخية والاجتماعية. فكتُب التاريخ لا تبحث في شعور المناضلين والمدافعين عن حقوقهم، على سبيل المثال، ولا تتحدّث عن طفل فقد عائلته وبيته واضطُرّ إلى هجران مدرسته وأترابه ومراتع طفولته، ولا عن عجوز هرمَ وفقدَ أجمل سنين العمر وهو ينتظر العودة إلى وطن اقتلع منه، ولا تتحلى الدراسات الاجتماعية بنفس القدرة على الكشف عما يمور في أعماق النفس عبر تجنيد تعدّد اللغات وتعدّد الأصوات.
لقد تحدثت كتب التاريخ عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتصدّى الباحثون الفلسطينيون، في شتى المجالات، للرواية الإسرائيلية، وحاولوا تفنيدها وبيّنوا وجهة النظر الفلسطينية، وقامت دراسات اجتماعية بتقصي أحوال الناس المهجَّرين والمشتَّتين، لكنها كلها لا تستطيع أن تدخل في تخوم العاطفة التي يتخصّص بها التخييل الروائي، الذي من شأنه أن يدخل في تفاصيل دقيقة جدا، وفي وصف تبدّلات المكان، وما رسمه الزمن من أخاديد في وجه عجوز، وفي وصف فاجعة طفل يفقد بيته وموطنه ويسير في رحلة التهجير والتشتّت والمعاناة مثل أي رجل بالغ.
لقد أصابت النكبة كلّ الأجيال وكلَّ أفراد العائلة الفلسطينية، دون أن تقتصر على الشيخ والطفل، بل لقد أصابت نيرانها عصب الحياة العائلية برمّتها، دون أن تستثني أحدا، وامتدّت لتصل الجيل الثاني والثالث. لكننا اخترنا الحديث عن هذين الجيلين نظرا لما لهما من خصوصية وفرادة، فصدمة الشيخ العجوز من النكبة لها وقع كبير في النفس، وتأثير بالغ الأثر فيه وفيمن حوله، فقد قضى حياته الطويلة فوق تراب أرضه، وعاش من خيراتها، وأطعم من محصولها أولاده وأحفاده، وبنى بيتا وعائلة فوقها، وحفظ كل قطعة أرض في قريته، وميزات كل منها دون الأخرى، فارتبط بها ارتباطا عاطفيا عميقا. أما العجوز ابن المدينة فهو الذي حفظ كل شارع وكل زقاق فيها، وميّز بين سكان حاراتها وعرف انتماءاتهم الطبقية والفكرية، وزار مقاهيها ومرافقها فانغرست فيه كل بقعة منها بعد أن أثّر فيها وأثّرت فيه لأنها المكان الذي يُكسبه الأمن والأمان. لقد كانت النكبة بالنسبة لأبناء هذا الجيل هي الصدمة الأقوى في حياتهم وهم يشهدون كل ما بنوه ينهار أمام عيونهم، فيما يعبث الزمن بآخر ما تبقى لهم من عظام، ومع ذلك لم ينطفئ قبس الحلم بالعودة.
أما الطفل فهو ذاك الصغير الذي لم ير من الدنيا بعدُإلا سحر الطفولة وجمالها، وهو الذي يسرح ويمرح في صحن الدار وفي الحقول وفي ساحات القرية وأزقتها يقضي فيها سحابة يومه، فإذا به، بين ليلة وضحاها، يفقد طفولته وتنهار كل أحلامه أمام عينيه،ويحمل بقجة فيها بعض ملابسه وحاجياته يقطع السهول والجبال سائرا نحو المجهول، فيما يرى بيته يبتعد عن ناظريه شيئا فشيئا حتى يختفي نهائيا، فلا تبقى منه سوى الذكريات. تنقطع علاقة الطفل بأترابه وبمراتع طفولته وتُبتر كما تبتر الساق من الكتف، وهو الذي ما زال طريّ العود غير مهيأ بعد لمواجهة الدهر وبلاياه. ينهار عالمه كله كما تنهار البيوت إثر زلزال مروّع، ويتغلغل الحزن والأسى في حناياه يرافقانه أبد الدهر.
كُتبت العديد من الأبحاث حول النكبة وتأثيرها في الأدب والفن، ويبقى هناك العديد من الزوايا التي يجب معالجتها في ضوء انتعاش الرواية العربية الفلسطينية، وازدياد وعي الباحثين بأهمية كشفها وإبرازها. لقد أصابت النكبة، كما أشرنا أعلاه،كل أفراد العائلة، ولم تفرّق بين جيل وآخر، وامتدّت صدمتها واستطالت حتى وصلت الجيل الثالث من أبناء الشعب العربي الفلسطيني الذي لم يكن الضحية المباشرة لها، لكن يبدو أن وجع الشتات والفرقة وضياع الأرض قد انتقل تأثيره من جيل لجيل، ورسخ في الذاكرة وتجذّر عميقا، رغم موت الغالبية العظمى ممن عايشت النكبة وذاقت مرها.
لم يكن اختياري دراسة دور الرواية الفلسطينية في ترسيخ وجع النكبة لدى الطفل والشيخ عفويا، فقد كان ذلك حديث الناس الذين حملوا بقجهم وأطفالهم وتركوا أغلى ما يملكون من متاع وبيوت وعقارات هربا من الموت، وبحثا عن الحياة، بعيدا عن البيت والوطن، وكان الحديث عن الشيخ والطفل يأخذ منحى آخر نتيجة حساسية هذين الجيلين. وطالما تساءلت عن مشاعر هؤلاء الهاربين من الموت نحو الشتات والفرقة،وعمّا راودهم من أفكار هم وصغارهم أثناء الهجيج وبعده. ولما تابعت ما يصدر من روايات فقد وجدت أن مرور سبعة عقود ونيف على النكبة لم يطفئ وجعها وألمها،وأن الروائيين ما انفكوا حتى اليوم ينهلون من ألم هذه الصدمة.فقد عمل السابقون على نشر الوعي من خلال الأعمال الفنية المتنوعة؛ رسما ونحتا ومسرحة وتمثيلا ورقصا وغناء، وكان للسينما دور هام في نشر الوعي بهول الفاجعة اعتمادا على ما تقوله بعض الروايات، واعتمادا على ما تناقلته الأفواه في المجالس واللقاءات داخل البيوت وخارجها. فكيف ساهمت الرواية في ترسيخ الوعي العام، وكيف صوّرت شيخَ النكبة وطفلَها؟
تمهيد
تقوم الرواية العربية الفلسطينية بدور هام في تفنيد الرؤية الصهيونية، وتعمل على نشر الوعي لدى القارئ الفلسطيني والعربي والأجنبي، إذ يستطيع المتتبّع أن يرى بوضوح سعي الروائيين الفلسطينيين إلى إيصال رسائلهم إلى كل الجهات، عبر توسيع النشر في أقطار عربية متعددة، وعبر الترجمات إلى لغات عدة، بل يمكننا القول إن بعض الروائيين كانوا على وعي تام بأهمية مخاطبة الأجنبي حين كتبوا بعض إنتاجاتهم باللغة الإنجليزية منذ جبرا إبراهيم جبرا وروايتيه؛”صراخ في ليل طويل” (1946)، التي أعاد كتابتها باللغة العربية سنة 1955، ورواية “صيادون في شارع ضيق” (1960) التي ترجمت هي الأخرى إلى العربية سنة 1974. وهناك اليوم من يكتب الرواية بلغات أجنبية نذكر منهم الروائية الفلسطينية سعاد العامري التي نشرت روايتها”شارون وحماتي” بداية باللغة الإيطالية (2003)،ثم بالإنجليزية (2005) وبعدها بالعربية (2007)وبلغات أجنبية عدة،ورواية “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” التي نشرتها بداية باللغة الإيطالية (2020) ثم بالإنجليزيةقبل أن تقوم بنشرها باللغة العربية (2022). وهناك بعض الأدباء والباحثين والروائيين من أصول فلسطينية، ممن ولدوا في دول أجنبية، أو ممن يعيشون هناك، يساهمون عبر رواياتهم ودراساتهم في مخاطبة القارئ الأجنبي بلغات تلك الشعوب.
شغلت الرواية الفلسطينية، كما بينا في مقالنا “اللغة، المكان والزمان في الرواية الفلسطينية”، بأهم الأحداث في تاريخ فلسطين، بدءا من العصر العثماني وحتى اليوم، وكشفت عن الوضع السياسي والفكري والاجتماعي لكل حقبة. يرى الدارسأن العائلة الفلسطينية في العصر العثماني كانت تعيش حياة شبه مستقرة؛ لها بيتها وحقلها وخيلها وماشيتها، تأكل وتشرب وتقيم الأفراح، وإن كانت لا تنعم بالهدوء والسكينة،كما يتجلى في روايتي”قناديل ملك الجليل” (2012) و”زمن الخيول البيضاء” (2007)للأديب إبراهيم نصرالله،وفي رواية “راكب الريح”(2016) للروائي يحيى يخلف التي تعكس صورة للفتى الفلسطيني القادر على اجتراح المعجزات وتحقيق الأحلام والوصول إلى البعيد، والتصدي للرجعية الفكرية المتمثلة في الإنكشارية، من الداخل، وللمحتل الغريب القادم من الغرب،ممثلة بنابليون وحملته على الشرق العربي (1798) وارتكابه مجزرة في يافا، لم يتحدث عنها التاريخ إلا بشكل عابر. ومع كل هذه البلايا التي جرّبها الفلسطيني وخبرها، وبالرغم من الغبن والظلم في ظل هذه الدولة إلا أنه لم يفقد الوطن، ولم يُهجَّر، ولم يترك بيته وموطنه.
لم ترسم هذه الروايات التي دارت أحداثها في العصر العثماني صورة إيجابية للعثمانيين في تعاملهم مع العرب بدءا من رواية “الحياة بعد الموت” (1920) للكاتب إسكندر الخوري البيتجالي (1888-1973) التي تبين الظلم والغبن الذي لحق بأهل فلسطين في زمن العثمانيين وفي زمن الانتداب البريطاني، الأمر الذي يبرز بوضوح في رواية “مفلح الغساني، أو صفحة من صفحات الحرب العالمية” (1922) للكاتب الصحفي نجيب نصار (1865-1948).ولما دخل البريطانيون تبدّلت حياة الفلسطيني بصورة جذرية؛ فقد بدأ يستشعر خطر الاقتلاع في ظل تواطؤ البريطانيين مع اليهود الذين يقيمون المستوطنات داخل فلسطين في ظل تحقيق وتنفيذ نتائج اتفاقية سايكس- بيكو (1916) وتصريح بلفور (1917)،ما أدى إلى اشتعال المواجهات في أكثر من موقع حتى كانت المواجهة الأهم مع الانتداب البريطاني في “الثورة الكبرى” (1936-1939). كشفت الروايات العربية الفلسطينية التي تناولت هذه الفترة مساوئ الاستعمار البريطاني، وبيّنت بداية التغيير في البنية السكانية وتزايد عدد المهاجرين اليهود تمهيدا لوقوع النكبة.
إن الصدمة الرئيسة التي زعزعت كيان الفلسطيني أكثر من غيرها كانت النكبة، التي ما زالت تُحرِّك الكثير من أحداث الروايات حتى تلك التي تتناول قضايا يومية معاصرة، فيعزو كثير من الروائيين هموم الإنسان الفلسطيني، حيثما كان، إلى عملية تهجيره وفقدانه البيت والوطن، وتشتّت أبناء العائلة الواحدة وتشقّقها.
أطلق الباحثون والدارسون على ما حدث مع الشعب الفلسطيني سنة 1948 “النكبة” وهي كلمة تحمل من المعاني ما يكفي كي تدلّ على قسوة المأساة وحدتها. وأطلقوا على ما حدث سنة 1967 “نكسة”، وهي كلمة غير كافية لتدلل على هول ما حدث، وهناك من أطلق على هذا الحدث اسم “هزيمة”، وهي كلمة أكثر دقة وصدقا في تسمية ما كان. وفي الحالتين هناك مواجهة بين جهتين؛ الأولى منتصِرة، والثانية منكسِرة. كانت النكبة الصدمة الأكبر في مجرى حياة الفلسطيني، وأي صدمة أخرى لاحقة لم تكن آثارها وتبعاتها بحجم الأولى، بل قد تكون من نتاجها، ولذلك فهي ما زالت تستأثر بالدور الأكبر وبالحيز الأكبر من مجريات أحداث الرواية العربية الفلسطينية.
من شأن الصدمة أن تسبب لصاحبها رد فعل ما، فهي تخترق نفس الإنسان وتغوص فيه وتؤرّقه وترافقه فترة طويلة من الزمن تكاد لا تبرحه، وإن أفلت منها فإلى حين، ثم ما تنفكّ تثور المشاعر وتهيج. وقد تؤدي، في بعض الحالات، إلى الاستسلام لليأس، وإلى الاكتئاب الذي قد يرافق صاحبه طوال العمر. هناك من ينجح في التخلص من الاكتئاب بعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول. إن صدمة فقدان المكان هي الصدمة الأصعب التي يتواجه معها الإنسان، وقد جرّبها الفلسطيني؛ فقدَ البيت مكان الأمن والأمان، وفقد الأرض مصدر الرزق، وفقد الأهل مصدر الدعم، وفقد الجيران والبيئة التي اعتاد عليها، وانتقل إلى بيئة غريبة يبحث فيها عن أمر واحد ووحيد؛ توفير مصدر رزق يوفر له ولعائلته لقمة العيش. يكبر الطفل وهو يلوك مرارة التجربة، ويكبر الأب ليصبح شيخا هرما يعيش الذكريات التي يرويها للقريب والبعيد، ويحكي تفاصيلها للصغار، يشرح فيها كيف كان ينعم بالحياة وهو يفلح الأرض أو يعمل في ورشة عمل صغيرة، يبين من خلال عرض ذكرياته أن الذلّ قد فُرض عليه.
أصيب أهل فلسطين بالصدمة، فكانت فاجعة يصعب تصديقها واستيعابها.لقد اعتقدوا، في البداية، أنها مجرد حدث عابر، وأنهم لا محالة عائدون، وأنّ غيابهم لن يطول، لكن سرعان ما تكشفت الأمور وتبيّن أن الأرض وما عليها قد ضاع فعلا.فكانت الرواية إحدى تلك الوسائل التي رسمت هذا الواقع وصوّرته بكل مآسيه وأبعاده وبيّنت معنى التشتّت والتشرذم والتشقّق والتهجير، وسلّطت الضوء على كل شرائح المجتمع الفلسطيني،سواء من تشتّتَ أو من بقي في الوطن يواجه واقعه الجديد الذي حوّله من أغلبية إلى أقلية. وكان، برأيي، تصوير دور الشيخ والطفل وما آلت إليه أمورهما هو الأكثر وقعا وتأثيرا. فكيف تجلى ذلك في الرواية العربية الفلسطينية؟
النكبة والطفل والطفولة
لسنا بصدد دراسة مفهوم الصدمة كما تقوم الأبحاث النفسية والاجتماعية بتعريفها، وإن كان ذلك في غاية الأهمية، لكن يكفينا أن نعود على ما أتينا على ذكره سابقا لنؤكد على أن الإنسان يتعرض في حياته للصدمات، أما صدمة فقدان المأوى والوطن والمكان بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معان ومن تأثير على الطفل،وأبعاد ذلك في جيل لاحق فقد عكستها الرواية العربية الفلسطينية في عدد كبير منها، ولما كان الإلمام بها يحتاج إلى مجهود أوسع وأكبر فإننا نكتفي ببعضها لإبراز هذا الجانب.
تناول غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا” (1969)مفهوم الوطن وأهميته، ودور الإنسان في الحفاظ عليه، وما جلبته النكبة من مآس لأبناء الشعب العربي الفلسطيني التي لن تتوقف إلا بازدياد الوعي الفكري الذي يقود إلى العودة، وكشف عن عمق الخسارة التي تشمل الوطن والإنسان والهوية.بيّن من خلال الأحداث أنّ أهل حيفا لم يكونوا على علم بما يحدث، وأنهم تفاجأوا من كثافة القصف الذي ينصبّ على الأحياء العربية من التلال، ولم تدرك صفية، الزوجة الصغيرة، أن خروجها من البيت يعني خسران البيت ومن فيه، فخرجت، وهي الصبية الصغيرة، القادمة من الريف حديثا، للبحث عن زوجها تاركة ابنها الرضيع في سريره. ولما التقيااكتشفا استحالة العودة،فقد كان سيل البشر يُدفع باتجاه واحد هو البحر؛ الغربة وضياع البيت والابن والسير نحو المجهول.
وتكبر الفاجعة أكثر وتأخذ منحى المفارقة التي لا تشبه إلا ذاتها حيث يستولي زوجان يهوديان قادمان من دولة أوروبية على البيت بعد أن قدّمته لهما الوكالة الصهيونية ليكسبا بيتا وابنا كان اسمه خلدون وأصبح اسمه دوف.يكبر الطفل ويصبح جنديا إسرائيليا لا يعرف سوى أبوين يهوديين ربياه تربية صهيونية.
يبني كنفاني روايته ليواجه الفلسطيني واقعَه المرّ وجها لوجه بعيدا عن أي واقع آخر، ويضع كلَّ عربي وكلَّ فلسطيني أمام الإشكالية الكبرى؛ البحث عن هوية قد تضيع ويضيع معها الطفل والطفولة وتضيع معه القضية الجمعية دون استثناء أحد كبيرا كان أم صغيرا،ما يستوجب بناء استراتيجية تحُول دون الخسارة الكبرى. هي صرخة تمزُّق الهوية التي تمثلت في الطفل خلدون/ دوف الذي ضاع بين والدين بيولوجيين ووالدين ربياه على قيم تتناقض مع ظروف ولادته وانتمائه البيولوجي.
لم تكن النكبة مجرد ضياع الوطن، فقد اتسع ليشمل ضياع الإنسان واغترابه حتى داخل وطنه، فالتشتّت وتفرّق أبناء العائلة الواحدة خلق حالة من الأسى والوجع تمسّ ثقة الإنسان بذاته. هذا ما تؤكد عليه روايات النكبة. وكان إميل حبيبي أحد الأدباء الذين عالجوا هذه القضية من زاوية أخرى في “سداسية الأيام الستة” (1968) التي تبنى هي الأخرى على مفارقة لا تشبه إلا ذاتها حين تتوحّد العائلة “بفضل” النكسة (1967). ما كان الطفل مسعود يعرف أن له أقارب واعماما، ولم يعرف أولاد الحارة ذلك هم أيضا فهو، كما يقولون، مقطوع من شجرة، حتى كان يومٌ توقّفت فيه سيّارة قرب بيتهم، نظر إليها الأولاد باستهجان واستغراب، وكان مسعود مثلهم منشغلا بتلك السيارة الغريبة الفخمة ليكتشفوا،جميعا، أنّلمسعود أعماما وأقارب يسكنون في الضفة، شتّتتهم النكبة، وأعادتهم النكسة.أصبح مسعود يسير في الحارة، بعد هذا الحادث، مرفوع الرأس وقد استعاد ثقته بعد أن جعلته النكبة يشعر بالغربة داخل وطنه.
لقد كان موضوع الطفل والطفولة في صلب روايات الروائي يحيى يخلف “بحيرة وراء الريح” (1991)، “ماء السماء” (2008)، و”جنة ونار” (2011)، التي تستعرض مأساة أهل قرية سمخ،على اختلاف أعمارهم، كأنموذج للقرى الفلسطينية الأخرى، الذين كانوا يعيشون في أمن وأمان حتى كانت النكبة وتشتّتت العوائل وتشعّبت طرقها وتفرّقت بين دول عربية مختلفة. وفيها حكاية طفلة رضيعة هربت عائلتها كما هرب أهل قرية سمخ خوفا من الموت إثر إطلاق النار على الفارين، يصاب الوالدان الشابان، وتبقى الطفلة مرمية في الحقول فيسمع زوجان هاربان بكاءها ويأخذانها معهما في رحلة التشرد لتصبح ابنتهما الوحيدة.ولما كبرت كان عليها أن تبحث عن والديها البيولوجيين معتمدة في ذلك على التطريز الفلسطيني على قطعة القماش التي لف الوالدان بها الطفلة أثناء الهرب. تتنقّل بين المخيمات في لبنان والأردن وتقابل الكثير من المسؤولين هناك حتى تصل إلى خبراء يتمكنون من حل اللغز الذي يشير إلى ولادتها في منطقة طبريا.وبناء عليه تتابع رحلة البحث الطويلة، الشاقة والخطيرة حين اخترقت الحدود الأردنية برفقة فدائي سابق، ونجحت في التخفي ولقاء أمها في قرية المغار الواقعة شمال غرب بحيرة طبريا.
تتكرر مأساة الطفولة في بعض مقطوعات السيرة الذاتية، “نوم الغزلان” (2017) للأديب محمد علي طه”، التي تتحدّث عن الطفل ابن السنوات الست وقد حمل أمتعته مثل كبار السن، فنام معهم في العراء، بعد أن فقد قريته وبيته وأترابه ومدرسته وطابته الملوّنة الأولى.في هذه السيرة عدة مشاهد وأحداث مؤثرة تنال من الطفل في الصميم، منها مشهدالطفلأثناء الهجيج، وقد كانت الطريق جبلية وصعبة، فطلب الوالد من أحد الفرسان الذين مروا بالعائلة أن يُردف الطفل خلفه لتخفيف العبء: “فرحتُ بركوب الجواد وأخذت أتأمّل الجبال والسفوح والأودية وأشجار السنديان والسريس والبطم والعبهر والبلان والقندول […] قطعنا مسافة طويلة فنظرت عن يميني فإذا الفرس على رأس منحدر حاد جدا وبيوت بلدة البقيعة تطل صغيرة من واد عميق فخفت والتفتُّ إلى الوراء فلم أشاهد والدي فشرعت في بكاء صامت ما فتئ أن علا فسمعني الفارس فأوقف حصانه وقال: انزل وقف على هذه الصخرة حتى يأتي والداك! وقفت على الصخرة مثل عصفور وسط العاصفة. الوادي السحيق يمتد أمامي والأشجار البرية تلفِّع الطريق الذي سلكناه…”. (ص35-36)
يعرض الراوي/الكاتب ابن الخامسة والسبعين هذا المشهد وغيره من المشاهد المماثلة بأبعادها ودلالاتها ورموزها التي تشير إلى صعوبة الحدث وفداحته. وهو مشهد ذو بعد نفسي يبين الحزن والقلق اللذين انتابا الطفل الذي يخاف أن يفقد أهله، وحالة الرعب والهلع التي نزلت به. يصوّر كل ذلك في ساعة وقوع الحدث طفلا، وفي زمن الكتابة شيخا.
ومن التجارب القاسية التي يشهد عليها الابن هو انطفاء عين الأب حيث يتسلّم الوالد رسالة لمواجهة الحاكم العسكري الذي أعلمه أن قطعة الأرض الأخيرة التي كان يملكها قد صودرت وأصبحت ملكا للدولة، ولا يحق له بعد اليوم أن يفلحها، فأصيبت عينه بعطب وبات ينام إحدى عينيه مفتوحة والأخرى مغمضة.إن هذه الفاجعة التي نزلت بالأب لا تنحصر في وجع نال من عينه، بل إنها تطال الابن الطفل وهو يرى ما ألم بوالده إثر سلبه أرضه، وهي هي صدمة عنيفة من شأنها أن تهز كيانه الطريّ، فرسخت في ذاكرته ليرويها للقراء بعد سبعة عقود.
ليس من شأن هذه الدراسة أن تتوقف عند كل الروايات التي تناولت تأثير النكبة على جيلي الطفولة والشيخوخة لأن ذلك يحتاج إلى دراسات عدة وإلى أبحاث مسهبة تتناول زوايا مختلفة ومناحي عدة، فللمخيم، على سبيل المثال، دور هام في حياة العوائل الفلسطينية المهجّرة وقد طرقه غيرنا. وهو يعني فيما يعنيه الانتقال من الثبات والأمن والأمان إلى حياة التشرّد والذلّ والجوع والمهانة، وقد تكرّر ذلك في العديد من الروايات والقصص الفلسطينية. يكشف يحيى يخلف في روايته القصيرة “تفاح المجانين” (1982) عن بعض مناحي هذه الحياة، وعن الذلّ الذي يتعرض له الصغار الذين يكبرون قبل أوانهم، ويدركون، رغم صغر سنهم أن آباءهم وأجدادهم لم يعرفوا مثل هذه الإهانات حين كانوا في قراهم وفي بيوتهم وفوق تراب أرضهم. أما هنا، في المخيم، فإن الظروف المعيشية لا يرضى بها إلا من كان مثلهم مشردا، وقد ذاق الصغار من مر علقمهاالذي يتجلى في تعليمات المعلمة إنجيل منذ افتتاح الرواية: “قالت الست إنجيل: لا تتمخّطوا في الصف. قالت: لا تسعلوا. قالت: خطكم مثل خرابيش الدجاج.
قالت: ممنوع السعال يا أولاد. ممنوع الكحة. ممنوع النباح.
قالت الست إنجيل للمرة الثالثة.
قالت: أعصابي لا تتحمل هذا السعال المرهق. لا تتحمل روائحكم الكريهة” (ص14)
لا أدعو المحللين والقراء إلى دراسة وتحليل شخصية الست إنجيل، بل أدعوهم إلى قراءة الواقع من خلال هذه التنبيهات، وإلى ما تبثّه حول بيئة هؤلاء الأطفال وما يصيبهم من أمراض نتيجة السكنى في مخيمات لا تصلح لحياة البشر. يتعرض الطفل لشتى أنواع العنف الكلامي والجسدي، ويفقد أهم أسس التربية التي يحتاجها كل طفل. ما كان ذلك ليحدث لولا النكبة وما تبعها من تشتُّت وتهجير وضياع.
تطفو على سطح الرواية معنى أن تعيش غريبا عن ديارك، ومعنى أن يخاف الكبار من ظلّهم وممن يشي بهم للحكومة، حتى وإن حافظوا على أفواه مغلقة، ومعنى أن يرى الأطفال هذه الإهانات فيلوكونها كما يلوكون العلقم، ويتهدّدون بالانتقام فيجيئهم التحذير من الكبار أصحاب التجارب، الذين خبروا طعم السياط وهي تأكل الجلد وتسلخه. هنا في هذه المخيمات ينتظرون الوجبة على أحر من الجمر كما جاء على لسان الطفل: “وقد وصلنا إلى درجة من الهزال بحيث كنا نفكّر كيف نتدبّر أمر الغداء ونحن نلوك إفطار الصباح، ونفكّر وقت الغداء كيف نستطيع الحصول على طعام العشاء”. (ص53) وهنا في هذه المخيمات ينضج الأطفال قبل أوانهم ويصبحون رجالا أشداء تمتلئ صدورهم بالحقد والغضب على من يخون العشرة ومن يخون الوطن،وعلى من كانوا السبب في وقوع النكبة، مدركين أنها هي السبب الرئيس والأهم فيما آلت إليه ظروفهم.
وتأتي رواية “طفولتي حتى الآن” الصادرة حديثا (2022) للروائي إبراهيم نصرالله لتفتح كوى جديدة على طفولة لها صورة أخرى ونكهة أخرى، لأنها تحمل نظرة فلسفية إلى الحياة أكبر من نظرة الطفل المعتادة إلى مأساة الفقد والتشتّت. وتطرُق أبوابا جديدة ومتعدّدة يهمنا منها، في هذا الصدد، أن نشير إلى أطفال الجيل الثاني للنكبة الذين يرفضون الاستسلام للواقع الأليم، رغم معاصرتهم نكسة 1967، فنراهم يبحثون عن ذاتهم وعن كنه هذه الذات التي تسعى إلى التمرد على الهزائم، فيبدو وكأنّ النصر الذي جلبته معركة الكرامة (21 آذار 1968) كان الضوء الذي أشعل زوايا كان يمكن أن تكون مظلمة وحالكة السواد بعد صدمتي النكبة والنكسة، وكانت قمة الرمزية في تنفيذ الطفل خطته، ببناء “مطار” في قطعة من الأرض قريبة من المخيم تصلح للطيران دون عوائق، يحلّق منها كل يوم إلى سماء إحدى الحواضر العربية والأجنبية.
كما يؤمن هذا الطفل بقدرته على اختراق الواقع المر، عبر بوابةالشعر وكتابة الرسائل ليفتح كوة أخرى على الحياة. أما علاقته بالفتاة التي أحب منذ سن مبكرة فهي بحد ذاتها كوة أخرى وفكرة أخرى ورسالة أخرى تبيّن أن الفلسطيني قادر على أن يحب، وله الحق في أن يحب، وأن يكون مقاتلا، في آن معا. كانت علاقة الفتى والفتاة إشارة إلى قدرة الفلسطيني على اجتراح المعجزات وعلى بناء حياة جديدة فيها العلم والدراسة وفيها الموسيقى والرسم والشعر والأدب، وفيها دور هام ولافت للفتاة كمقاتلة أيضا، رغم صغر سنها.وفيها الطموح إلى خلق واقع جديد لا يشبه واقع الهزائم المتكررة. بنى الطفل مطاره وحدّد الاتجاهات الأربعة، ليقلع منه كل يوم إلى مدينة جديدة، فشاركته الطفلة نور في أحلامه، بل كانت شريكا فعالا وقويا لا مجرد شريك مشجِّع، فهي الأخرى تطمح في اكتشاف عالم جديد لا يشبه ما كان. يخترق هذان الطفلان وبعض أترابهما وأصدقائهما كل العوائق، ويكفرون بالجمود والتحجّر.
جاءت الرواية لتبين أن النكبة التي فرّقت وشتّتت وأفقرت شعبا كاملا، لم تتمكّن من لجم طموح الجيل الثاني للنكبة، وفتحت كوة واسعة للنور كي يضيء المستقبل مهما كان قاسيا، وأنّ المخيمات لن تكون عائقا في وجه الطموح الفلسطيني، ولا حجر عثرة في وجه الانطلاق نحو عالم أفضل.كان الأطفال جميعهم سندا لبعضهم، فاخترقوا حاجز الفقر وتمكنوا، في جيل المراهقة، من اكتشاف عالم أوسع من عالم المخيم ووصلوا المكتبة العامة واستعاروا منها الكتب ليحلّقوا أبعد من هذا العالم الضيّق. ورغم تشعّب أحداث الرواية إلا أن نصرالله، بلفتة ذكية، ربط بين الجيل الثالث والجيل الأول، ولم يكتف بما تعلّمه الطفل من والديه، وبالذات من أمه، فكان الجَدّ مصدر إلهام من خلال ما يحمل من تراث شعبي فلسطيني محكي يحثّ سامعه على التزود بهذا الرصيد الذي يعكس وجع الناس كل الناس الفلسطينيين، فكان وقودا يشحن الصغار، كما يشحن الكبار.
ويفتح الكاتب سليم البيك في روايته “تذكرتان إلى صفورية” (2017) كوة جديدة أخرى نطلّ من خلالها على معنى الوطن الضائع في عين أبناء الجيل الثالث للنكبة. يُهجّر الأهل مثل كثير من الفلسطينيين، إلى مخيم للاجئين في بلد عربي (سوريا)، ولكن الابن يوسف يقرّر الانتقال للعيش في فرنسا، إيمانا منه أنها مرحلة انتقالية توصله إلى الوطن، فيصل إلى مدينة “تولوز” أو “طلوزة” كما يلفظها والداه. هنا في تولوز يفقد اسمه الذي قام الفرنسيون بتحريفه ليسهل عليهم لفظه ويصبح “جوزيف”، وهو، وإن كان لا يستسيغ هذا التحوير، إلا أنه لا سلطة له هنا على الحفاظ على اسمه الأصلي الذي اختاره له الأهل “تيمنا باسم جده قائد المجموعة الصغيرة من الفلاحين المقاتلين ببنادق الصيد التي كانت لديهم في المعركة التي احتلّت فيها إسرائيل قريتهم عام النكبة”. (الرواية ص15)
لا يمكننا المرور مر الكرام على هذا “التحريف” في الاسمين، فالتحريف، في الواقع، تزييف للحقيقة لكن الفلسطيني يتعايش معهما؛ يخسر الابن/ الحفيد اسمه الأصلي في بيئته الجديدة، دون أن يبدي اعتراضا حاسما، بالرغم من عدم رضاه عنه، ويحتفظ باسمه الأصلي لدى آخرين. أما “طلوزة” فاسم قرية فلسطينية بجانب مدينة نابلس. وبقدر ما يبدو هذا التحوير تندّرا لكنه ليس إلا نوعا من أنواع التنازل والقبول بالواقع الجديد الذي فرضته النكبة حتى وصلت أبعادها إلى الجيل الثالث، وهي إشارة إلى تشوه الهوية التي لا قدرة عند صاحبها للدفاع عنها بشراسة ما دام هناك فقدان أكبر؛ فقدان الوطن.
يحمل الحفيد الذي يمثل الجيل الثالث للنكبة صدمة جده المُهجَّر من وطنه على عاتقه، ويرى أنه ليس معفيّا من التنصّل من هذا الحمل الثقيل، فالكبار يورثون الأبناء أرضا وعقارات، ولكن الفلسطيني أورث أبناءه وأحفاده همّ التهجير وعذاب التشتّت، وقد وصلت نيرانه الحفيدَ الذي يجد نفسه في مواجهة النكبة مباشرة، رغم أنه لم يعشها ولم يجرّبها، لكنها أصابته في الصميم. إن مخلّفات صدمة النكبة، كما تطرحها الرواية، ليست قابلة للنسيان، وليس بمقدور أي جيل أن ينساها أو أن يتناساها، فقد اخترقت حياةَ الجيل الثالث ونخرت في تفاصيل حياته اليومية وهو يعيش وجع الغربة في بلد لا يشبه بلده، وفي بيئة لا تشبه بيئته. هنا هو الغريب والبعيد، وإن كان يحظى بكثير مما لم يفز به غيره في البلاد العربية، لكنها الغربة التي فرضتها النكبة يلوك وجعها الصغار كما الكبار.
لقد كانت النكبة صدمة عنيفة وقوية تعدّت المكان والزمان فأصابت الجيل الأول في الصميم وأذاقته طعم الذل والهجران والتشتيت والفرقة، وضربت بنيته الاقتصادية والاجتماعية، واخترقت عظامه ومشاعره وأحاسيسه. وتابعت في اختراقها حتى وصلت الجيل الثاني والثالث للنكبة في الشتات العربي وفي الشتات الغربي، وفي الداخل والخارج دون استثناء. كل هذه الصدمات وجدت لها صدى عميقا في الرواية العربية الفلسطينية فواجهتها، وما تزال تواجهها وتعالجها من زوايا مختلفة.
لقد كشفت هذه الروايات أن النكبة ضربت مشاعر الطفل الفلسطيني وهزّت أحاسيسه من الأعماق وهو يحمل وجعه وبقجته وبعض بقاياه على عاتقه ويسير،وبينت مدى تأثيرها عليه وهو الذي ما زال طريّ العود غير مهيأ بعد على مواجهة مثل هذه الصدمة.وكشفت، كذلك،عن جوانب أخرى تظهر القدرة على التحمل والمواجهة ومتابعة المسير بالرغم من حجم المصاب. ولكني أعتقد أن هناك جوانب نفسية كان على الرواية أن تدرسها لكشف الفاجعة وما يعتري الطفل من هزات نفسية ترافقه فترة طويلة من الزمن. يبدو لي أن التحدي الذي تعمل الرواية الفلسطينية على خلقه وتطويره ونشره، كما هو لدى “شعراء المقاومة” كان المحرك الفاعل، ولا يزال، حتى اليوم، لكن الطفل الفلسطيني كما كل طفل معرض لانتكاسات نفسية صعبة يجب على الرواية أن تعمل على تصويرها.
النكبة ومأساة جيل الشيخوخة
وجب التوضيح أن الحديث في هذا الموضوع لا يقتصر على الشيخ الذي عاصر النكبة فحسب، بل إنه يطال من هرم وكبر في السن وظل يعاني من تبعاتها. يحتاج هذا الجانب إلى كم كبير من الدراسات، نظرا لأن المأساة لا تتوقف عندفترة زمنية محددة بل إنها تمتد وتطول ما دام البيت مفقودا وما دام الوطن بعيدا.إن المكان ليس موقعا جغرافيا محددا على خارطة ورقية إنما هو مكوّن عاطفي من مكونات الإنسان يتأثّر به ويؤثّر فيه، وترتبط بينهما علاقة حميمة تشتد وتتوثق أكثر بفعل عامل الزمن. فهناك ماض وذكريات وعائلة، وهناك أقرباء وأصدقاء وجيران وحاكورة وبستانٌ ووردةٌ وحقل وشجرة. وهي مناسبة كي نقول لغوستاف باشلار ولكل المنظرين الغربيين إنكم لا تستطيعون وصف المكان وحميميته بقدر ما تستطيع أن تصفه عجوز تركها أبناؤها قسرا أو هُجّرت من بيتها قسرا، ولا أنتم أكثرُ صدقا من عجوز هُجّر من بيته ومات كل أجياله فبقي دون بيت ودون عائلة ودون رفاق.
لقد أثبت الزمن أن اللجوء الفلسطيني لم يجلب الفقر والعوز فحسب، بل إنه عامل ذل ومهانة. فكان ذلك كله دافعا إلى الحنين والشوق إلى ذلك الماضي وإلى ذلك المكان، ودافعا إلى الغضب والألم والحسرة والأسى. ففي رواية “تفاح المجانين” (1982) للروائي يحيى يخلف تصوير لحال المشردين المشتتين في أحد المخيمات الذي أقيم في أعقاب النكبة تبدو فيه المهانة في أبشع صورها حيث الجوع والبؤس والشقاء لا يستثني أحدا، هنا في هذا الواقع الجديد لا يبقى للعجوز ما يعتز به سوى الحديث عن ماضيه وعن الحصان الذي كان يركبه “أيام العز”، وهو يلبس بنطلون الفرسان من نوع (بريشز) ويضع البندقية أمامه فوق السرج، ويشاركه الحديث عجوز آخر مستذكرا “أيام البلاد”، ثم ما يلبث السامرون أن يعودوا إلى الحاضر يلعنون التعب و”خيانة الحكام”.هذا الحنين إلى “أيام البلاد” ليس حنين المسافر إلى البيت والعائلة بل هو تعبير عن فقدان معنى الحياة وضياع بهجتها واختفاء فرح الإنسان المشروع ببيته وبإنجازاته. يقيم هؤلاء الرجال مقارنة بين ما كان وبين الحاضر الذليل بفعل الطرد من الوطن الذي بات بعيدا.
وفي رواية “الجنة المقفلة” (2021) للروائي عاطف أبو سيف نجد امرأة عجوزا تعيش في غزة بعد أن هُجِّرت من مدينتها، يافا، حيث يضطر معظم أبنائها وبناتِها إلى أن يتركوا البيت والعيشِ بعيدا عنها، لكنها تبقى على أمل “لمة” العائلة فتقوم بإعداد مائدة الطعام وتفرُد الشرشف وتُعدّ الصحون بقدر عدد الأبناء، ويظل البعيد بعيدا دون أن يتحقق الأمل. تنتقل عادة إعداد المائدة والشرشف إلى الأخ الأصغر بعد وفاتها، على أمل اجتماع الأبناء في بيت العائلة.إن هذه الصورة،رغم كل ما تحمله من قسوة،إلا أنها تبين دور الكبار في ترسيخ الماضي، وفي زرع الحنين إلى الجذور في وجدان الصغار. فإن لم يستطع العجوز أن يورِث الصغارَ بيتا وأرضا، كما جرت العادة، فإنه يعمل على توريثهم الذاكرة. بات أحد طموح الجدة اجتماع أفراد العائلة معا، وهو طموح لا يقل عن أي طموح آخر نظرا لما يحمله من معان إنسانية، إن هذا الطموح الذي قد يبدو صغيرا في عيون كثيرين إلا أنه لدى العجوز الفلسطينية أشبه بحلم كبير بعيد المنال.
ويلجأ إبراهيم نصرالله إلى الفانتازيا ويوكل إلى الجدة القيام بالدور الأهم في روايته “ظلال المفاتيح” (2019)، وهي التي لم تنس النكبة بعد مرور أربعين عاما. وبالرغم من فقدانها ذاكرتَها، ونسيانِها تفاصيلَ هامة مرت في حياتها، إلا أن هذه الذاكرة تصبح أكثر انتقائية. ورغم هزال جسدها إلا أنها تبدو قوية الشكيمة بعيدة الرؤية والرؤيا، بحيث نراها تستعيد، أحيانا، قوتها الجسدية المألوفة. وتبدو كأنها أكثر من شخصية في آن معا؛ ترفض التعامل بالشيكل وتستبدله بالحجر، وتشغل جميع سكان قرية “راس النبعة” بتصرفاتها اللافتة، التي تُوِّجت باختفائها وظهورها المتكررين.تدخل العجوز، أم جاسر، في حالات الهلوسة، ويصبح مفتاح بيتها المعلقُ في جيدها، أهمَّ ما تملكه في حياتها. تدخل في طور الرؤيا: “وسمعتْ أصوات مفاتيحَ كثيرةٍ تموج في صدرها وتقبِض على قلبها مثل دمعة ناي”. (ص116) اكتشف أفراد عائلتها أنّها تتسلّل يوميا إلى قرية “راس السرو” وتعود آخر الليل، ولاحظوا “أن قوة غير عادية دبّت في جسدها، بحيث لم يعد باستطاعة أحد اللحاقُ بها”. (ص118) بقيت على هذه الحال تختفي وتظهر حتى اختفت رافضة البقاء “ضيفة” في قرية “النبعة الفوقا”. لحق بها أبناء القرية كلهم واكتشفوا أمورا لا تصدق، “كانت أم جاسر قد أعادت بناء قريتها كما كانت تماما… تماما كما كانت قبل أربعين عاما”. (ص131) أعادت مخطط القرية بحجارة صغيرة ولم يبق أمام أهل القرية إلا إعادةُ بنائها، وبات كل معلم من معالم القرية واضحا.
انتشر الخبر وحضرت إلى المكان أهم وسائل الإعلام العالمية تصوّر أهل البلدة داخل مسطّح بيوتهم وساحاتها وأحواشها. تحضر كتيبة الاحتلال بجرافاتها العسكرية وتمحو، بأمر من القيادة، كل ما بنته العجوز أم جاسر، فيأتي رد الفعل الهادر من الجموع المحتشدة برشق أفراد الكتيبة بوابل من الحجارة لم يروا مثيلا له في حياتهم.
قد يمحو الزمن بعض المعالم المكانية إلا أنه ليس بمقدوره أن يمحو الذاكرة كليا، فكانت الجدة التي عانت من صدمة النكبة هي الذاكرة الأقوى من أي ذاكرة أخرى، فرفضت وقوع النكسة بعد عشرين عاما من النكبة، ورفضت بقاء الاحتلال بعد عشرين أخرى وقادت القرية إلى الانتفاضة.إن الجد والجدة، كما يتبين من خلال هذه الروايات، هما خزان الذاكرة ونبعها الذي لا ينضب مهما مر عليه من زمن.
وتقوم الجدة في رواية “عين خفشة” (2014) للروائية رجاء بكرية بدور هام لكونها مرجعا معلوماتيا حول تاريخ العائلة وتاريخ القرية، وتُبرز الرواية العلاقة الحميمة التي تجمع بين الجدة والحفيدة، وما تحمله هذه العلاقة من رموز ودلالات وإشارات، إذ تروي الجدة الأحداث للحفيدة الطفلة وتعمل على ترسيخ ماضي العائلة وتثبيت صورة القرية العربية بكل ما يحمله المكان من حميمية، وبالتالي تنقل تاريخا وتراثا،وتُجذّر ذاكرة تنتقل من جيل لجيل.
و”عين خفشة” قرية فلسطينية تروي لنا حكايتَها الراويةُ/الشخصيةُ المركزية “لبيبة” عبر ذكرياتها الطفولية، فنراها تتخبّط في تفسير ما تسمع وما ترى، تتساءل بينها وبين نفسها، وتحاول أن تجد الإجابات الشافية من جدتها التي تؤمن إيمانا عميقا أنّ الحق سيعود إلى أصحابه، وكل غائب سيعود إلى وطنه، والأرض ستعود إلى أصحابها. تحمل الحفيدة نواة أفكار جدتها وآمالها وتتابع البحث عن الحقيقة.
يلاحظ الدارس أن هناك علاقة خاصة تجمع بين الجد والحفيد في الكثير من الروايات، كما هو الأمر على أرض الواقع، وأن أحد أدوار العجوز الفلسطيني توريث الذاكرة، فيما أنّ أحد أدوار الحفيد حفظ الذاكرة وصيانتها والعمل على ترسيخها.
وبالرغم من أن رواية “جوبلين بحري” للروائية دعاء زعبي لا ترتكز في أحداثها على جيل الشيخوخة أو جيل الطفولة، إلا أن للعجوز دورا هاما في تحذير جيل الشباب من مغبة الهجرة الإرادية، ويعمل على تجذير محبة الأرض والوطن والبحر والتاريخ ويافا المدينة الجميلة التي كانت تبث الحياة لكل بقعة من بقاع فلسطين، والتي كانت تضاهي وتنافس كبريات المدن العربية. هي رواية تستمد أحداثها من صراعات أيديولوجية تدور في الجامعات الإسرائيلية بين العرب واليهود، ومع ذلك يدخل العجوز من أكثر من باب ليكون رديفا داعما لجيل الشباب في مسيرتهم العلمية والحياتية.
تنطلق سعاد العامري في روايتها “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” (2022) من قصة حقيقية، حيث يذهب والدها لزيارة بيته في يافا، فلا تسمح له “صاحبة البيت” اليهودية بالدخول ورؤيته، فيعود إلى البيت حزينا وكأنه فقد البيت من جديد، فكان ذلك المحفزَ الرئيس للابنة سعاد لاستئناف المحاولة لعلها تنجح فيما لم ينجح فيه الوالد، فتعود خائبة الأمل. لكن هذه الزيارة ولّدت خيوط الرواية حين استمعت في إحدى زياراتها إلى يافا إلى حكاية مثيرة عن فتى وفتاة من يافا تحابا لكن النكبة حالت دون زواجهما، فسعت إلى لقائهما عجوزين؛ شمس ابنة الخامسة والثمانينالتي ما زالت تعيش في يافا، وصبحي ابن الثامنة والثمانين الذي يعيش في عمان، واستمعت منهما (2018) مباشرة إلى قصة حبهما وهما في جيل المراهقة. ومن رحم هذه الحكاية المثيرة ولدت هذه الرواية.
تسلط هذه الرواية،مثل كثير من الروايات الفلسطينية، الضوء على النكبة وما سببته من وجع وهم وألم وتشتيت وضياع جرّبه وذاقه شعب كامل صغارا وكبار، أطفالا وعجائز. كانت يافا مدينة جميلة يعيش أهلها من خيراتها لكنهاأخذت، بشكل تدريجي، تفقد الهدوء والسكينة مع ازدياد عدد القادمين الجدد من اليهود وإقامة مستوطناتهم إلى جوار المدن والبلدات العربية، حتى كانت النكبة وتشتت الناس وضياعهم؛ يفترق الشابان الصغيران المتحابان، يبدا الآباء رحلة بحث عن الأبناء الذين ضاعوا في خضم الأحداث، جدات يمتن وحيدات لانعدام القدرة على الهرب. وفي خضم هذه الأحداث تنبثق حكاية ثلاث أخوات سجنَ اليهود والدهم بتهمة ذبح بقرة يهودية واختفت الأم والأخ وانقطعت أخبار البنات، وبدأن رحلة مؤلمة بدون عائلة وبدون أم وأب وبدون أقرباء أو أصدقاء، بدأن رحلة تشتّت تلعب فيها الأخت الكبرى، شمس، دور الأم فينمن ويقمن معا ولا تترك إحداهن الأخرى خوفا من ضياع إحداهن أو فقدانها كما فقدن بقية أفراد العائلة، وتشاء الصدف أن يلتقين بصديق والدهن الحميم الذي حملهن إلى والدهن بعد أن بدأ يفقد الأمل من إمكانية اللقاء بهن. يتابع الأب رحلة البحث عن بقية أفراد العائلة بعد أن يوافق على خطبة ابنته شمس التي ما زالت فتاة صغيرة من أخ الشاب الذي كانت تحب.
بينت الروائية سعاد العامري عبء التهجير والطرد والتشتّت، وحرمان الناس حتى من رؤية بيوتهم على الصعيد الشخصي، فكتبت لتكشف هول الصدمة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني؛ الطرد من البيت طفلا، والحرمان من العودة عجوزا.قامت بالدمج ما بين الواقع والخيال حتى بات الواقع أكثر تأثيرا من الخيال الذي عكسه اللقاء الذي أجرته مع بطلي الرواية العجوزين. يكشف هذا اللقاء عن مرارة الحياة وقسوة فقدان الوطن الذي عبر عنه العجوز، صبحي، في الكلمات الأخيرة من الكتاب: “هاد كل اللي بقيلي من فلسطين”، وهي خرقة رمادية مخططة بالأحمر،بقايا بدلته الإنجليزية الممزقة.
بالرغم من أهمية حكاية الأخوات الثلاث لكننا نرى أن كل ما تقوله الرواية ينطلق من قصة هذين العجوزين اللذين تحابا طفلين صغيرين فحالت النكبة دون زواجهما، وتفرقا كما تفرقت بقية عوائل يافا؛ منهم من بقي فيها، ومنهم من انتقل إلى الضفة، ومن حملَته رحلةُ الشتات إلى أقطار عربية ليصبح كل منهم فيما بعد عجوزا يحمل رواية مؤلمة. لم تتوقف مأساة النكبة عند التهجير بل تعدتها إلى التفريق بين المحبين الذين كبروا وشاخوا وظلوا يعانون من تبعات النكبة، وظلت ندوبها تحفر حتى آخر يوم في حياة الشيخ الفلسطيني.
ويقوم الكاتب محمد علي طه في “نوم الغزلان” (2017) بكتابة جزء من سيرته الذاتيةفي الخامسة والسبعين من عمره فتبرز رؤية الشيخ المجرِّب الذي ذاق مر النكبة طفلا وكهلا وشيخا. فما يحدث اليوم في العالم العربي يعيد إلى ذاكرته تجربة النكبة وأساها: “حينما أرى قوافل اللاجئين الجائعين المتعبين يحملون على أكتافهم الذلّ والقهر، ويبحثون عن الأمن والرغيف في بلاد الغرب تحملني الذكريات الحزينة إلى ليلة 19 تموز 1948 وأنا أغادر مع أهلي بلدتنا ميعار التي ينام الساحل عند قدميها”. (ص 341)
إن التجربة المؤلمة ما زالت محفورة في ذاكرة السارد الشيخ بعد سبعين عاما من النكبة، ما يعني أن فاجعة التهجير وخسران البيت يمتد ألمها عقودا من الزمن، ما يثبت أن صدمة النكبة ليس سهلا التخلص منها. فما تعرضت له العائلة، من الصغير حتى الكبير، من غبن وتشرد وضياع الأرض، مصدر الرزق الأهم، تاركين البيت والأثاث والدواب ما زال راسخا في الذاكرة سرعان ما يطفو على السطح: “كان طعامنا يتألف من الخبز والزيت والعدس والبرغل وأما الفاكهة فكانت ثمرات التين التي نتسابق إليها ونقطفها عن الشجرقبل أن تنضج. نسينا الحليب واللبن لأن بقرتنا الحلوب بقيت في البلدة ولا ندري ما جرى لها ولابنتها العجلة الصفراء التي يزيّن جلدها بقع بيضاء. ونسينا كرات اللبنة البيضاء الصغيرة المحفوظة بالزيت في مرتبانات الزجاج التي كانت تعملها أمي من لبن الماعز وتُعدّها لأيام الخريف والشتاء…”. (ص39)
إن القارئ سيقف على وصف الأمكنة، بتفاصيلها، في معظم المقطوعات، مرويةً على لسان السارد العجوز، لا على لسان الطفل وإن تداخل الصوتان،فيظهر بوضوح أنّ هذا السارد يحفظ صورة للمكان، كما كانت عليه في تلك الحقبة الزمنية: “عندما كان والدي يمسك راحتي ويوجهني إلى الغرب كنت أرى الكرمل، أنف الغزال الجميل ومدينة حيفا التي زرتها لأول مرة وأنا شاب في الثامنة عشرة من عمري وتعلق قلبي بها، وكنت أشاهد رأس الناقورة والبحر الأزرق والسهل الساحلي الأخضر وكنت أحيانا أقف مع والدي ومع الجيران في ساعات الأصيل في أيام الشتاء ونصغي لتلاطم الأمواج في كهوف رأس الناقورة…”. (ص155)
يعتمد الكاتب محمد علي طه في “نوم الغزلان”أسلوب التوثيق، يدخل في التفاصيل الدقيقة، يتلقف القارئ الأماكن بتفاصيلها؛ البيوت وأبوابها المخلّعة، الأزقة وتعرجاتها، الكروم وتينها ونبعها، الحارات وأسماءها، كما هي، دون تغيير أو تحريف: “تعمدت أن أذكر في قصصي أسماء النباتات والأشجار في حقولنا وأراضينا وهضابنا وأوديتنا وجبالنا كما تعمدت تدوين أسماء الأماكن العربية الفلسطينية. كنت أرى يوميا عبرنة وصهينة وأسرلة المكان”. (ص 156). هنا لا حاجة للأديب أن يبحث عن لعبة الإيهام بالواقع، لأن الواقع، كما هو على حقيقته، لا يشبه أي واقع آخر. ولا يخفي محمد علي طه عن القارئ دوافع كتابته التوثيقية حرصا على المكان والزمان، أهم عنصري تكوين الفرد، حيث ينتمي الإنسان إلى المكان بكل مركباته، وهو يواجه الزمن وتبدلاته، عين تنظر إلى الوراء وأخرى تنظر إلى الأمام، ويحدثنا عن علاقته بالمكان، منذ نعومة أظفاره، ويدخل في وصف تفاصيل موقع القرية وطوبوغرافيتها وسحرها وجمالها الأخاذ، حتى نرى إلى عمق المأساة والخسارة الكبيرة التي منيت بها العائلة، وبالتالي أبناء شعبه. لم يأت الراوي على ذكر التفاصيل الدقيقة للقرية ومحيطها عفوا، إنما كان ذلك بدافع داخلي يبرز انتماء الكاتب عجوزا وطفلا للمكان.
نؤكد أن للمكان حيزا هاما في معظم الإبداع الروائي الفلسطيني، ولا نبالغ إذا قلنا إنه العنصر الأكثر أهمية فيه.ولا أكثر صدقا وتأثيرا في المتلقي حين يرد الوصف على لسان العجوز الفلسطيني الذي خسر المكان الذي كان مصدر أمنه وأمانه ومصدر عيشه وكرامته. إن فقدان المكان بالنسبة لجيل الشيخوخة هو المأساة الأكبر التي قد يواجهها أي شيخ، خاصة إذا كان الهجران قسريا.
لقد بينت الرواية العربية الفلسطينية مأساة جيل الشيخوخة وهول ما يواجه من وجع الفقد؛ خسارة البيت والوطن وتشتت العائلة، وكشفت بعض نواحي القوة في قدرة العجوز على المواجهة وإصراره على متابعة الطريق، لكنها، برأيي، لم تبرز بشكل كاف هول الصدمة النفسية وحيثيات مثل هذه الصدمة. إن كشف حقيقة الضعف البشري النابع عن مثل هذه الصدمة قد يكون له تأثير أقوى وأكثر وقعا في القارئ العربي وفي القارئ الأجنبي على حد سواء.
خلاصة
قامت الرواية العربية الفلسطينية بدور هام جدا في مواجهة الرواية الصهيونية، وهي رافد داعم للأبحاث والدراسات التاريخية والاجتماعية والنفسية التي يقوم بها باحثون فلسطينيون، ولكونها عملا تخييليا وفنيا فقد يمكّنها ذلك من اختراق مشاعر القراء على اختلاف انتماءاتهم وأجيالهم، وتزويدهم بذخيرة غنية من المعلومات.
تؤمن هذه الدراسة أن لجيلي الشيخوخة والطفولة خصوصيات تجعلهما أكثر تأثيرا وحساسية في نفوس القراء، نظرا لضعفهما؛ تراجع قدرة الشيخ على تحمل أوزار الحياة بعد أن وهن الجسد،وتحوله بفعل الزمن من عامل داعم إلى عاجز واهن يحتاج إلى دعم، وإلى عدم قدرة الطفل على مواجهة الفقد؛ فقد المأوى والبيت وهو الذي لا يزال في طور النمو الفكري والعاطفي، بحيث لم تزوده التجربة بعدُ بوسائل دفاع نفسية تمكنه من مواجهة مثل هذه الصدمة، التي قد يتحلى بها جيل الشباب والبالغين.
توكل الروايات إلى الجد دور ذاكرة فلسطين فإذا بها جنّته التي فقدها، والتي يفتقدها في كل لحظة من لحظات حياته، كي يغرس في قلوب الأبناء والأجيال الصاعدة أهمية العمل على إرجاع هذه الجنة المسلوبة، وذلك من خلال استذكار “أيام العز” و”أيام البلاد” التي كانت عامرة بالبيوت والحقول والأزهار والنبات. يسرد ما رآه رؤيا العين كشاهد على العصر ليؤكد أن أي حياة دون بيت ودون وطن لن تجلب إلا الذل والمهانة.أما الطفلالفلسطيني فهو ذاك الفاقد لطفولته،يحمل بعض متاعه سائرا في طريق المجهول، ويكبر في التجربة قبل أوانه. يفتقد هو أيضا بيته ورفاقه ومراتع طفولته، ويصبح شاهدا على حياة الذل والمهانة والفقر والعوز ينتظر معونة شهرية تبقيه، كما البقية من أفراد العائلة، على قيد الحياة. وحين يكبر في السن يستوعب أكثر هول ما تعرض له هو وأبناء عائلته وأبناء شعبه لكنه لا يستسلم إذ سرعان ما يستد ساعده ويصلب عوده رغم الأمراض ورغم العوز. يشكو الطفل الفلسطيني من أهم مقومات الحياة، ويتعلم في ظروف قاسية، سواء من هُجِّر أو من بقي داخل الوطن، ويكبر كلاهما في ظل ظروف لا تشبه إلا ذاتها.
بينت الرواية الفلسطينية أن أبناء جيل النكبة لم يفقدوا الأمل بالعودة، ولكنهم حين حاولوا استرداد أنفاسهم كانت النكسة، أو الهزيمة الثانية التي قوضت آخر أمل بالعودة لدى الفلسطيني الذي آمن آنذاك أن الفرج قادم لا محالة وأنه مدعوم من الشعوب العربية ومن قوى عالمية لها القدرة على المساهمة في عودة ما سلب وأنها ستتمكن، في اجتماعها معا، من تحقيق النصر وإعادة الأرض ولم الشمل. وبالرغم من هزيمة حرب حزيران 1967 المدوية إلا أنها كانت محفزا للأدباء والمفكرين لإعادة النظر في بناء استراتيجية مستقبلية أكثر اعتمادا على الذات، وعمدوا إلى توسيع الأفق واجتراح طريق جديد يدعو إلى اتخاذ زمام المبادرة، والتحلي بالمسؤولية.
للرواية العربية الفلسطينية دور هام في نشر المأساة الفلسطينية وكشفها أمام الآخرين، وترسيخها في نفوس كل الأجيال، فقاموا بتسليط الضوء في أعمالهم التخييلية على الماضي القريب والأبعد منذ العصر العثماني وحتى بداية القرن العشرين. وكتبوا روايات تناولت النكبة ذاتها، وأخرى تناولت حياة الفلسطيني بعد النكبة وما تلاها. ولكنها اليوم تشق طرقا جديدة من خلال معالجة قضايا معاصرة هي وليدة لب الصراع العربي اليهودي.
أدرك الروائيون العرب الفلسطينيون هول الفاجعة وتأثيرها في كل الأجيال، وأدركوا جيدا أن جيلي الطفولة والشيخوخة أكثر حساسية وتأثيرا في المتلقي من جيل الشباب، لكني أعتقد أنها لم تدخل بعد في صلب الوجع النفسي الذي قد تولده صدمة فقد البيت والوطن وأبعاد ذلك في نفس الطفل والشيخ وما قد يصيبهما من هزات نفسية عنيفة قد تؤدي إلى الانهيار والضياع لدى البعض، وهي فرصة لندعوهم إلى قراءة الأبحاث النفسية كي تصبح الرواية الفلسطينية أكثر عمقا وأكثر تأثيرا. لأن تصوير الوجع الإنساني أمر شرعي يجب ألا يمنعنا من كشف هذه الحقيقة إلى جانب تصوير قوة الصبر والتحدي التي انعكست في العديد من الروايات العربية الفلسطينية.