محمد قدو الأفندي | أنقرة
سفر الحنين إلى مدن الحنين احد أهم عوامل الإلهام لولادة قصائد الشعراء المبدعين الذين لايستطيعون مغادرة أرصفة ذكرياتهم الذهبية والمخزونة في دهاليز وجدانهم وأفئدتهم حيث يهرب منهم الزمن وتطاردهم صور تلك الذكريات المعلقة على حوائط الذكرى وأرصفة الحنين المنسية وتشدهم لأطلال مدن تحن لتلك الذكريات المخبأة في جيب الزمان فترسمها أقلامهم لوحات تزخر بظلال أشجارها وعبق تاريخها.
في ديوانه الشعري (أرض الأجداد) نلمح إصرار شاعره محمد ساعد أوغلو على ركوب أمواج ذكرياته العالقة في تلافيف ذاكرته ليطوف بأزقة مدينته التي عشقها وكتب عنها أجمل الكلمات يرافقه الحنين الغافي أبدأ في مخيلته وترانيم عشقه الذي تجاوز صداه مسامعه لتنتظم أشعارا تحكي قصة مدينة تفردت بنكهة التين والرمان وسمة قلعتها الوحيدة، وأنا أرى أن هذه المجموعة الشعرية هي كرنفال للذكريات القاتمة الألوان حيث إن أغلب قصائدها تحكي قصة أغاني مخملية قديمة تفردت بها مدينته وضمت ذكريات شاعرها التي شاكست بعفويتها كل الاماكن التي أحبها وغادرها مرغما وتمكن بفضل أبداعاته التي خطها قلمه وملأتها دواته أن يجعل تلك الذكريات تنطق وتقول:
سلاما من بساتينها
ومن اقدم شعراءها
ومن كل جهاتها
ومن قلعتها
ومن أرجائها
التي تهب نسائمها
سلاما من مدينته الحاضرة دوما بمخيلته ببساتينها وقلعتها المدمرة ونسيمها العليل الذي يفتقده، وفي حقيقة الأمر أن من يقرأ هذه السطور الشعرية يدرك أنها لم تكتب لتكون افتتاحية للقراء وأنما صورة شعرية قاتمة تمكن شاعرنا من أدراج أطلال ذكرياته متفردة في مساحته الشعرية لتشكيل لوحة فنية تميزت بتجمع أنواع التضادات والمفقودات والمنافي التي تشير إلى إصرار شاعرها لجعل تلك الأطلال والذكريات تنفرد بإرسال التحايا والسلام لمن يمر على سطور كلماته ولتصبح ذكرياته آخر سهم في قوس ذاكرته المتقدة دوما .
ومن الواضح أن رقة الشاعر محمد ساعد أوغلو وأدواته الفاعلة والمتقدة التي وظفها بعناية بالغة في كتاباته مكنته من تحويل أفكاره ومعاناته إلى قصائد جميلة تجمع محافل البكاء ومواسم الهجرة وغربة الروح والتي برزت جليا في هذه المجموعة وباقي مجاميعه السابقة التي كتبها في مختلف مراحل دراسته.
أين تلك الأيام
أين مواسم الفرح والاعراس
الذ من طعم الحلوى
طعم تلك الأيام
ولايفوتنا أن نذكر أن ترجمة النصوص الشعرية قد يفقدها الكثير من جماليتها وعفويتها وهذا لم يغب عن ذهن شاعرنا حيث كان بارعا في تفادي هذه المعضلة حين حرص أن يبتعد عن المحلية ليضمن كتاباته مفاهيم مشتركة لأغلب القراء في أرجاء المعمورة سواء كانت أفراحا أم أحزانا وسواء كانت بلغة محلية أم بلغة مترجمة، مثل كتابات وأشعار الشاعر الكبير عبدالوهاب البياتي أو كتابات أودونيس والتي كتبت بنفس الخاصية وكانت عاملا مساعدا لانتشارها بسرعة وفي لغات متعددة.
ولاننسى ما لشاعرنا من مهارة في توظيف متعلقاته الشعرية على نحو سلس دون المساس بالموسيقى الشعرية التي أتقن تلحينها في معظم قصائده وما أشارتنا الى قسم من اشعاره الا ترجمة لمنهجه واسلوبه الشعري حين يلازم النص الخاصية التعبيرية والتشكيليه بدقة وخيال واسع أدوات تقنية صرفة من جهة تتعلق بالمفهوم الخاص بالشعر وعلاقته بالخيال والعاطفة والمعنى الشعري ومفردات إضافية من جهة أخرى وحسب تعبير الناقد الأدبي الدكتور محمد صابر عبيد .
كم أتمنى أن اخلد للنوم في
ظلال جدران
لأتذوق مرارة حياتي
بلا حلاوتها
بتتابع ليلي مع نهاراتي
أقضيها مع الأفكار
لأتسائل هل
هل قدرنا المنفى كل عام ؟
هذه القصيدة استوقفتني كثيرا أكثر من غيرها وأعدت قراءتها مرات عدة وهي بمجموعها ست وثلاثون بيتا، خالية من الخطابة المباشرة تحذوها المرارة من عنوان القصيدة وحتى آخر بيت فيها، وهي عبارة عن تساؤلات يفكر بها الشاعر ويشاركنا تلك الأحزان بهمسات خارجة من أعماق نفسه في نغمات حزينة ومريرة كمن رضيَ مجبرا بواقعه وآلامه، وهي في الحقيقة قريبة جدا من ناحية التصنيف للشعر المهموس الذي صنفه الناقد الدكتور محمد مندورعندما افرز قصيدة (أخي في الشرق) لميخائيل نعيمة والذي أثار ضجة وانقساما بين النقاد في خمسينات القرن الماضي، فهنا يحاول الشاعر تحريك النفوس – بنفسه الغير الواعية أو يحاول نسيان أمر ما ألم به ولكن محاولته تلك للنسيان تعد أغنية تثير الفؤاد رغم موسيقى همساتها الشعرية المنخفضة ودلالاتها الخجولة ألا أنها صرخات قوية عظيمة الصدى في النفس التي تختبئ أحيانا وراء جدران الصمت المدويُ..
وأخيرا فإن قصائده الجميلة في مجموعته الشعرية (أرض الأجداد) هي قصائد تتجدد قراءتها وتتكرر فيما أذا عنونت كأمثال أو تنهيدات او لوعة طالما تخاطب أعماق النفس البشرية والنفوس الصالحة المتصالحة مع ذاتها ومع الآخرين لذا فإنها تحمل في طياتها قوة تقاوم اندثارها مع الزمن وتستمر حيث يستمر ويمتد الزمن .