أدب

لَمْ أَلُم البلاد حين جاعت فأكَلَتني

خالد جمعة | فلسطين

   كنتُ مجرّد طائرِ دوريّ في سمائها، لم أكن في سربٍ يوماً، ولم تكن لي شجرةٌ بعينها، تعلمتُ الغناءَ كي أُسكت الرضيع الباكي كي تتمكن أمه من النوم لساعة قبل أن تأتي الطائرات من جديد، وأذكر أني أعطيت ريشاً لفتاةٍ في العاشرة فقدت شعرها في غارةٍ ما، لكن رفاقي أخبروني أن هذا لم ينفعها بشيء بعد أن ابتعد عنها الخطّاب حين كبرت، كلهم نظروا إلى شعرها، وأنا الوحيد الذي رأى روحها، وتمنيت لو كنت رجلاً.
   جاعت البلادُ، وقلت إنها أيام وتمرُّ كالتي قبلها، لكن المجاعة طالت أكثر مما توقع الغراب الحكيمُ في غابتنا المفترضة، بدأت أسراب العصافير في الاختفاء، وقال نسرٌ مهاجر إنه الشتاء الذي يحملُ العصافيرَ على الهجرةِ، ولم أصدق، لكن عصفورا واحدا نجا من شبكة الوطن الجائع أخبرني بالحقيقة: البلاد تأكل عصافيرها، ليس لحمها فقط، بل وأغنياتها.
   اصطادتني البلادُ في لحظة سهو، وأكلتني ريشةً ريشةً، وعظمةً عظمةً، وأغنية أغنية، لم ألُم البلادَ حين أكلتني، لكني تحممت بالقهر حين وضعوا لحمي على مائدةٍ لم أغنِّ على شباك صاحبها يوماً، وهذا ربما عتبي الوحيد على البلاد.
    الآن، الرضيع يبكي لأن صباحه بلا أغنيات، والأمهاتُ ينثرن حزنهن في الشوارع بعد أن ذهب الأولاد والعصافير، والأشجار ضمّت أغصانها بقوةٍ، فلم يعد مكان لعشٍّ أو لمخبأ ألعاب.
البلادُ آكلة اللحوم تلك، ليست ما علمتني أمي عنه، الفرق هائل، حتى أنني ما زلت أظنُّ أنني ـ بالمصادفة البحتة ـ قد طرت أثناء نومي وصرت في بلادٍ أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى