مفهوم الثقافة وعلم الاجتماع الثقافي
بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
لم يتوقف علماء الاجتماع يوماً عن البحث عن مدلول ومفهوم علم الاجتماع الثقافي Cultural Sociology، وذلك لأنَّ الثقافة سمة من سمات العلم، فكلُّ علمٍ من العلوم الإنسانية يعرِّف الثقافَةَ بما فيها علم الاجتماع الثقافي، الذي يَدرُس بعمقٍ شديد الثقافة التي تلائم حاجَة الإنسانِ إليها، وهذا ما جعل مصطلح الثقافة أن يحوزَ على أكثر من مائةٍ وستين تعريفاً، لذا فقد وجدنا أحد أهم التعريفات وأشهرها تلك التي وضعها عالم الأنثروبولوجيا الإنكليزي السير إدوارد بيرنت تايلور Edward Burnett Tylor)) (2 تشرين الأوّل 1832- 2 كانون الثاني 1917)، وهو أحد المؤسِّسين لعلم الأنثروبولوجيا الثقافية. في كتابيه الأوّل بعنوان: «الثقافة البدائية» الصادر عام (1871) م وكتابه الثاني الشهير «الأنثروبولوجية» الصادر عام (1881)م. حيث قارن الثقافة البدائية بالحضارة، في قوله: (الثقافة أو الحضارة بالمعنى الإثنوغرافي الواسع هي كلٌ مركّب يشتمل على المعارف والمعتقدات والفن، والقانون والأخلاق، والتقاليد، وكل القابليات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع معيَّن). ثم قدَّم الفيلسوف وعالم الاجتماع الكندي غي روشيه Guy Rocher رأيه من خلال مقالة بعنوان: (إيديولوجيا التغيّر كعامل للطفرة الاجتماعية)،بخاصة أنه يملك خبرة واسعة في بناء المجتمعات فهو مصمم دولة الرعاية في كيبيك الكندية، ومؤلف كتاب بعنوان: (مقدمة في علم الاجتماع العام ـ الفعل الاجتماعي). فقد أعرب في مقالته وكتبه عن فكرتِهِ القائلة بأنَّ التغيّر الاجتماعي تجاوز كونَهُ مجرّد ظاهرة ليتحوّل إلى إيديولوجيا تطبع المجتمعات المعاصرة .وأنَّ (الثقافة هي مجموعة من العناصر لها علاقة بطرق التفكير والشعور والفعل، وهي طرقٌ صيغت تقريبا في قواعدَ واضحة،التي اكتسبها وتعلمها وشارك فيها جميع الأشخاص بصورةٍ موضوعيةٍ ورمزية في آنٍ معاً، من أجل تكوين هؤلاء الأشخاص في جماعةٍ خاصّة ومميزة) .
من هنا يبدو علم الاجتماع الثقافي حقلٌ خصبٌ لدراسة الثقافة البشرية كفرع من فروع علم الاجتماع، وكغيره من العلوم التي اتصلت بعلم الاجتماع واتخذت منه علماً قائماً بذاته ولذاته، لذا فالثقافة حقل دراسة واسع باتساع جغرافيات وحضارات الشعوب وتعدّد موروثاتها الثقافية. فالثقافات في العالم لا حصر لها. حيث يعدُّ هذا العلم برفقة العلوم الأخرى التي اهتمت بالثقافة واهتمت بدراسته وإماطة اللثام عن عناصره المختلفة وتعايشها واستمرارها. وما فيه من أهمية تخصّ الإنسان وكينونته ومحيطه واستمراريته، فهو يساهم في الكشف عن المفاهيم والرموز والإشارات بين بني البشر المتجسِّدة في شكل مظاهر وسلوكيات اجتماعية وثقافية.
لم يتوقف الحديث عن الثقافة ومفهومها في اقتصارها على مجالات الآداب والفنون فقط، وهذا المفهوم يختلف لدى علماء الاجتماع الذين يعتبرون الثقافة كل ما هو موجود في المجتمعات الإنسانية، وهو الأمر الشائع في المجتمعات العربية بشكلٍ عام حول معرفتهم بمفهوم الثقافة Concept Culture ومدلولها أنها تقتصر على مجالي الأدب والفن والموسيقى ، وهو تعريف ضيِّق ومحدود لمفهوم الثقافة ومدلولها، وهو تعريفٌ مختلف بدرجةٍ كبيرةٍ عن تعريف الثقافة عند الفلاسفة وعلماء الاجتماع وكبار المثقفين، حيث تعني الثقافة كل ما هو موجود في المجتمع الإنساني الكلي، ويتم توارثه عبر الأجيال من خلال التربية الاجتماعية والحياتية. في هذا السياق نجد إنَّ تعريف شامل جامع لــ(مفهوم الثقافة Concept Culture) ليس بالأمر السهل ، كونه مفهوم شائع لدى المجتمعات بشكلٍ عام ، وهو تعريفٌ معقّد ويتضمن معظم التخصصات والمفاهيم والمصطلحات التي تهتم بالإنسان وشؤونه الثقافية والحياتية، سَواءَ فيما يتعلَّق بتواصله مع الآخر ونمط عيشه ، وتعلمه واحتكاكه مع الآخرين، وأنماطه الثقافية ومعاييره الاجتماعية . لذا من الصعب حصره في تعريفٍ واحد شامل ، كما أنَّ الثقافة وهي العنصر الرئيسي المهيمن عليه لا يوجد تعريف معيّن لها مما أدى بالمنظِّر الماركسي الويلزي، والأكاديمي والروائي البريطاني (ريموند ويليامز Raymond Williams) إلى القول: (تمنيت لو أنني لم أسمع بهذه المفردة، ولم أصادفها في حياتي قط ، فكلمة (ثقافة Culture) واحدة من اثنتين أو ثلاث كلمات الأكثر تشابكاً تعقيداً) ويقصد من هذا القول أنِّ الثقافة متشعبة ومعقّدها كون الدكتور ريمون ويليامز Williams له دورٌ كبير وتأثير واضح داخل اليسار الجديد في العالم وفي اتجاه الثقافة العالمية بشكلٍ عام ، لذا نجد بوضوح تام أنَّ العلماء والباحثين لم يتفقوا على تعريفٍ محدَّد للثقافة ، فقد أحصى عالم الأنثروبولوجيا (ألفريد لويس كروبر) وعالم الأنثروبولوجيا والمنظِّر الاجتماعي الأمريكي( كلايد كلوكهون) أكثر من مائة وستين تعريفاً ، ومع ذلك نجدهما يقدمان تعريفاً للثقافة من وجهة نظرهما كالتالي: (الثقافة تتكوَّن من عدة نماذج كامنة وظاهرة من السلوك الإنساني المكتسب والمتنقل بواسطة الرموز، والتي تكون الإنجاز الخاص والمميز للجماعات الإنسانية، الذي يتجلى في شكل موضوعات ومنتجات متعدّدة، أمّا جوهر الثقافة وقلبها فيتكوّن من الأفكار العامة التقليدية المنتقاة والمتكونة عبر سيرورة تاريخية، وبخاصة ما كان متصلاً فيها بالمبادئ والقيم ، ويمكن أن اعتبار الأنساق الثقافية والمعرفية نتاجاً للفعل من ناحية، كما يمكن النظر بوصفها عوامل متعدِّدة مرتبطة محدّدة لفعل مقبل) . غير أنَّ أشهر التعاريف عن الثقافة هي تلك التي وضعها عالم الأنثروبولوجيا الإنكليزي إدوارد بيرنت تايلور في كتابه بعنوان : (الثقافة البدائية) الصادر عام (1871) حيث قرن الثقافة بالحضارة الإنسانية، عندما قال: (الثقافة أو الحضارة الإنسانية بالمعنى الأثنوغرافي الواسع هي ذلك الكل المركَّب الذي يشتمل على العلوم والمعارف والمعتقدات والقانون والفن والتقاليد والأخلاق وكل العادات والقابليات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه واحداً من المجتمع وعضو فيه) وفي كتابه بعنوان: (الأنثروبولوجيا) الصادر عام 1881 م، أضاف إدوارد برنت تايلور : (أنَّ الثقافة بهذا المفهوم ، هي شيئ يحوز عليه الإنسان ولا يملكه) . بذلك يعتقد عدد كبير من علماء الاجتماع أنَّ الثقافة لها أهمية كبيرة لأنها تلعب دوراً رئيسياً في انتاج النظام الاجتماعي كونه يشير إلى استقرار المجتمع على أساس التوافق والاتفاق على الأعراف والقواعد التي تسمح لنا بالتعاون والمشاركة ، والعمل كمجتمع متماسك ، والعيش معاً في وئامٍ وسلام بشكلٍ مثالي أو شبه مثالي . بالنسبة لعلماء الاجتماع هناك العديد من العلماء يركّزون على الجوانب الجيدة والسيئة في آن في النظام الاجتماعي .لذا وجدنا الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي السيد
( إميل دوركايم Emile Durkheim ) (1858 ـ 1917)،
وهو أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ، وجدناه يرى أنَّ المسائل المادية وغير المادية تعدُّ بالنسبة للثقافة ذات قيمة كبيرة من حيث كونها تساهم في توحيد المجتمع ، وتوفر لنا المبادئ والقيم والاخلاق العامة ، والممارسات اليومية ، والتواصل مع الآخر ، وممارسة المعتقدات التي نتشاركها شعوراً جمعياً مشتركاً بالهدف والهوية الثقافية. كما كشف الفيلسوف دوركهايم Durkheim. من خلال دراسته المستفيضة أنّه عندما يجتمع الناس للمشاركة في الممارسات والطقوس الثقافية والاجتماعية ، فإنهم يؤكدون مرةً أخرى على الثقافة الجمعية المشتركة بينهم، وبذلك يمتنون الروابط الاجتماعية ويقوونها كونها تربطهم ببعضهم البعض. واليوم، يرى عدد كبير من علماء الاجتماع أن هذه الظاهرة الاجتماعية المهمة جداً لا تحدث فقط في الاحتفالات والطقوس الدينية ، ولكن أيضًا في المناسبات العامّة وبخاصة العلمانية منها. والتي يمكن أن تمارَس نشاطها على نطاقٍ واسع .
بالمقابل نجد أنَّ الفيلسوف والمؤرِّخ وعالم الاجتماع الألماني الشهير (كارل هانريش ماركس Karl Marx) (5 أيار 1818 ـ 14 آذار 1883) قد أسَّسَ النهج النقدي للثقافة في العلوم الاجتماعية والإنسانية . فقد كان تأثيره هائلاً على التاريخ الفكري الاقتصادي في العالم، ووفقًا للفيلسوف كارل ماركس، فقد كان له رأي آخر في مجال عالم الثقافة غير المادية، يقول: (تستطيع الأقلية الحفاظ على سلطة غير عادلة بالنسبة للأغلبية). ويرى أيضاً أنَّ الاشتراك في القيم والمبادئ والمعتقدات والمعايير السائدة يبقي الناس مستثمرين في أنظمة اجتماعية غير متكافئة لا تعمل لمصلحة الأغلبية، بل تفيد الأقلية القوية بشكلٍ كبير.
في حقيقة الأمر، كان كلا الفيلسوفان محقين بشأن الدور الذي تؤديه الثقافة في المجتمع، لكن لم يكن أيَّ منهما (دوركهايم Durkheim) و(ماركس Marx) على حق بشكلٍ حصري. فيمكن للثقافة أن تكون قوةً للهيمنةِ والقمعِ ، لكنّها يمكن أن تكون أيضاً في الآن ذاته قوةً للإبداع والتحرُّر والمقاومة. وهو جانب هام للغاية من الحياة الاجتماعية البشرية العامة والتنظيم الاجتماعي الإنساني. بدونها، لن يكون لدينا مجتمع أو علاقات .
بشكلٍ عام فقد انقسم علماء الاجتماع بصدد تعريفهم لمفهوم الثقافة ومدلولها إلى فريقين كبيرين، فريق من العلماء يرى في الثقافة متغير ومستقل يعمل على تحويل وتغيير المجتمع بشكلٍ إيجابي أو سلبي كبير ، ويؤثر فيه تأثيرًا فاعلاً، بينما يرى الفريق الثاني من علماء الاجتماع في الثقافة متغيراً تابعاً يتغير بتغير البناء الاقتصادي الذي هو أساس تقدّم المجتمع، ويتأثر بأي خلل أو اهتزازات تحدُث بشأنه، وبين هذين التيارين ظهرت مدارس سوسيولوجية عديدة لها نهجها الخاص بها اختلفت فيما بينها ولكنها في نهاية الأمر لم تخرج عن الفكر العام السائد لهذين الفريقين.
لقد أشار الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (أوغست كونت Auguste Comte) (19 كانون الثاني 1798-5 أيلول 1857) إلى مصطلح الثقافة وهو الأب الشرعي والمؤسِّس للفلسفة الوضعية حيث كتب يقول: (الثقافة بشكلٍ عام خطاً أو نسقاً معرفياً يستند إلى المعرفة الأمبريقية والتجربة والممارسة الحياتية، لأنَّها تؤمن بالسببية ، وتستهدف دراستها وأبحاثها من أجل الوصول إلى قوانين وقواعد أخلاقية ثابتة ونهائية تحكم الظواهر الاجتماعية بشكلٍ عام).
الجدير بالذكر أنَّ منهج التحليل الثقافي الحديث والمعاصر ظهَرَ في البلدان الرأسمالية المتقدمة نتيجةً لإسهامات العديد من الكتّاب والمفكرين والفلاسفة مثل الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو Michel Foucault
(1926 – 1984) وهو من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، وكان قد تأثر بالبنيويين. والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر (يورغن هابرماس Jürgen Habermas) (18 حزيران 1929 دسلدورف) يعتبر من أهم علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر. وعالم الاجتماع وعالم العقيدة الأمريكي (بيتر بيرغر Peter Ludwig Berger (17 آذار 1929 – حزيران 2017) . والكاتبة وعالمة الاجتماع البريطانية ماري دوغلاس ( Mary Douglas) (1921 – 2007) م… إلخ، يزعم منظرو هذا المنهج أنهم يقدمون رؤية أفضل بكثير لقضايا العالم المعاصر بعد أن عجزت المناهج التقليدية عن تفسير تطورات ما بعد الحداثة التي كان من أهمها سقوط النظريات الكبرى المؤثرة، ويرون البديل في الأنساق والمسارات المفتوحة .
لقد عمل علم الاجتماع الثقافي على محاولة تأطير العلاقات الإجتماعية بشكلٍ إنساني يؤدي إلى التلاحم الاجتماعي ، فقد عرَّف جورج سبيلمان Spillman (1889 ـ 26 تشرين أول 2019) علم الاجتماع الثقافي Cultural Sociology بأنه: (العلم الذي يدرس ويبحث في كيف تحدث عملية إنشاء المعنى، ولماذا تختلف المعاني والمدلولات وكيف تؤثر على السلوك الإنساني الفردي والجماعي، وكيف أنَّ هناك وأساليب تساهم في إنشاء المعاني والمدلولات. وهو أمرٌ مهم بالنسبة للتوافق والتلاحم الاجتماعي وللسيطرة والهيمنة والمقاومة في المجتمعات).
في هذا السياق نجد أنه من الصعوبة بمكان الفصل ما بين الثقافة والمجتمع، إذ إنهما متكاملان، فلا وجود للثقافة بمعانيها ومدلولاتها من الأصل لولا وجود مجتمعات تتبناها وتحتضنها وتساهم في الخفاظ عليها، ولا وجود لمجتمعات دون ثقافة تنظمها وتساهم في تلاحمها وترابطها، إذ إنها تتحول إلى غابة، القوي يأكل الضعيف، وأبسط مثال على ذلك اللغة، حيث تعتبر اللغة المكوِّن الأول والرئيسي للمجتمعات، والتي تساهم بقوة في نقل الموروث الثقافي بكل حمولاته للأجيال اللاحقة وهو الأهم لأي مجتمع. ولولا وجود اللغة التي تعتبر العامل الرئيس في التواصل مع الآخر، لانعدمت أهم وسيلة تواصل بين الناس في المجتمع ، ولذلك فإن أي محاولة للفصل بين المفهومين ستذهب هباءً منثورا. كما هو حال الإنسان إذ يتأثر بعوامل خارجية كثيرة، أيضًا نجد أن مفهومي الثقافة والمجتمع يتعرَّضان للعديد من التحديات الكبيرة، ولعل أبرز تلك التحديات هو تحدّي العولمة (العولمة الثقافية cultural globalization)، الأمر الذي أفقد المجتمعات بمعظم مكوناتها خصوصياتها الثقافية، فبدا العالم كقرية صغيرة مفتوحة ومنفتحة على بعضها البعض، مما جعل العالم كله يبدو كأنه ثقافةً واحدةً، وبالتالي شعور الإنسان نفسه في حالة غربة واغتراب عن مجتمعه.