المؤلف المزدوج: تمثيلات الهوية وتفكيك السلطة في ضوء النقد الثقافي عند عبد الله الغذامي
دراسة في تحوّلات الذات الكاتبة بين النسق والممانعة

د. رائدة العامري| ناقدة أكاديمية من العراق
لم تعد الأسئلة الكبرى في حقل النقد الأدبي محصورة في حدود تأويل الجماليات أو تفكيك البنى الشكلية للنصوص، بل تجاوزت ذلك نحو مساءلة الأنساق الرمزية التي تنتج الوعي وتعيد إنتاج السلطة داخل الخطاب. ومن بين أبرز هذه الأسئلة، يبرز سؤال “المؤلف” بوصفه أحد أكثر المفاهيم التباسًا في الدراسات النقدية الحديثة، لا بوصفه ذاتا منتجة للنص فحسب، بل كيانا رمزيا يتقاطع فيه الحضور الذاتي مع آليات النسق وسلطته.
لم يعد “المؤلف” في السياق الثقافي المعاصر يحتفظ بمكانته التقليدية بوصفه سلطة مركزية ومرجعية للمعنى، بل غدا علامة مزدوجة، تتنازعها رغبة التعبير من جهة، وإكراهات المؤسسة الثقافية من جهة أخرى. وإن حضوره داخل الخطاب لم يعد محايدًا، بل تحوّل إلى تمثّل إشكالي يستدعي التفكيك والتأويل في ضوء التحولات المنهجية التي تواكب النقد الثقافي وتقاطعاته مع سوسيولوجيا الخطاب.
ضمن هذا المحور، يتقدّم مشروع الدكتور عبد الله الغذامي بوصفه محاولة لتفكيك مفهوم “المؤلف” من الداخل، في سياق مصطلح “المؤلف المزدوج”، الذي لا يشير إلى ازدواجية في الهوية فحسب، بل يفتح أفقًا لفهم العلاقة المركبة بين الذات الكاتبة وموقعها داخل الحقل الثقافي. فـالمؤلف المزدوجهو الذات التي تكتب تحت وطأة قلق التمثيل وهاجس السلطة، التي تحاول من خلال النص أن تراوغ النسق وتعيد إنتاجه ضمنًا.
تنطلق هذه الدراسة من مساءلة هذا المفهوم كما وضع في خطاب الدكتور الغذامي النقدي، لا بوصفه مجرد توصيف لوضع الكائن المؤلف، بل كأداة تحليلية وإستراتيجية تأويلية لفهم شبكة العلاقات التي تربط الكتابة بالسلطة، والإبداع بالهيمنة، والذات بالمؤسسة. إن الاشتغال على هذا المفهوم يستلزم تفكيك التوتر الكامن بين تمثيل الذات ومراوغة السلطة، وبين النص كفعل تحرر والكتابة كفعل مقيد داخل نسق ثقافي.
نسعى في هذا الإطار إلى تتبّع تجليات “المؤلف المزدوج” بوصفه مفهوماً تأويلياً، يُضيء لحظة التحوّل في فكر الدكتور الغذامي من النقد الجمالي إلى النقد الثقافي، بما يكشف عن الأبعاد السوسيولوجية للكتابة. وهي بذلك لا تستعيد صورة المؤلف كمصدر للمعنى، بل تقارب تمثّلاته بوصفها صدى لاشتباك مستمر بين رغبة التحرر وضرورات التوقع داخل بنية السلطة. وفي ظل التحوّلات الكبرى التي أصابت مفهوم “المؤلف” داخل المنظومة النقدية المعاصرة، لم يعد بالإمكان الإبقاء على صورته الكلاسيكية بوصفه ذاتًا سيادية مستقلة تُملي خطابها من خارج السياق. إذتمكن النقد الثقافيبصيغته التفكيكية والسوسيولوجية التقلييل من تلك الهالة الرومانسية التي يحظى بها المؤلف، ليعيد تموضعه داخل شبكات من التمثيل والرقابة، كاشفًا عن بنية تتأرجح بين التعبير الفردي والخضوع للنسق الجمعي.
ينهض مفهوم “المؤلف المزدوج” كما بينه الدكتور عبد الله الغذامي في هذا الإطار، بوصفه مفتاحا لقراءة هذا الانشطار. ولاسيما المؤلف الذيعلى وفق هذا التصور لا يملك حريته التعبيرية بوصفه صانعا للنص، بل يتحرّك ضمن دوائر متشابكة من التفاوض الرمزي، تحكمها آليات السلطة وتؤطرها شروط التمثيل.
فالكتابة إذًا لا تُنجز في فراغ، بل في ظل توتر دائم بينقلق الإفصاحمن جهة، وقلق الرقابة من جهة أخرى، وكلاهما ينتج خطابامتوترا.إذ لا يقرأ النص الأدبي كفضاء جمالي، بل يفهم بوصفه ساحة للصراع الرمزي، والجملة مهما بدت شاعرية، لا تنفصل عن بنيات أيديولوجية تسكنها، وتعيد من خلالها إنتاج ما تحاول تجاوزه. فالنص يتحوّل من تعبير ذاتي إلى تمثيل نسقي، ومن إبداع حرّ إلى قناع يخفي خلفه شبكة من الهيمنة السياسية والدينية والاجتماعية. فضلا عن أنّ النقد الثقافي إذ ينزع القداسة عن المؤلف، فإنه يُعيد قراءته لا كفرد حرّ بل ككائن تأويلي مقيد، يشغل موقعا إشكاليا بين الرغبة والرقابة، بين التفرد والتمثيل، بين الصوت والصدى. وبهذا، يصبح المؤلف -في لحظة الكتابة- ليسذاتا مبدعة، بل نقطة تقاطع بين قوى متصارعة، تشكل خطابه وتقيد منطقه في عملية لا تعبر عن جوهر فردي، بقدر ما تترجم خرائط النسق نفسها.
يقدم الدكتور عبد الله الغذامي في مشروعه النقدي رؤية مغايرة للنص الشعري، التي تنطلق من مركزية النص الثقافي بوصفه بنية حاملة لآليات الرقابة الذاتية، التي تمنع المؤلف من الإفصاح الكامل عن ذاته. ومن هذا المنظور، يتجلّى شعر المتنبي نموذجًا لما يسميه الدكتور الغذامي بـالمؤلف المزدوج، حيث تتجسد الذات الكاتبة في مفارقتها القصوى بين صوت معلن يعيد إنتاج نسق الهيمنة، وآخر مضمر يكشف عن انكسارات الهوية وقلق الانتماء.
يتجاوز الدكتور الغذامي في قراءة لنصالمتنبي، خطاب الفخر الظاهري الذي طالما أُخذ على محمل المباشرة والتفوق الشخصي، ليكشف عن البنية العميقة لهذا الخطاب، بوصفه تمثيلامأزوما لذات تبحث عن اعتراف مفقود. فالمتنبي، الذي طالما مجّد ذاته عبر معجم البطولة والسيادة اللفظية، يظهر –عند تفكيك خطابه– ازدواجيةً لافتة بين مجد معلن وهشاشة داخلية مكبوتة، بين التفوق البلاغي والخذلان الوجودي. يستحضر هنا بيته الشهير:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلم
هذا النَفَس المتفوق، الذي يعلو بنبرة السيادة، لا يقرأ – في النقد الثقافي – كحقيقة شعرية مكتفية بذاتها، بل كقناع يخفي توترا داخليا على إثبات الذات، وتمثيل البطولة في صور كثيرة، محاولة دفاعية ضد شعور عميق بالإقصاء أو النقص الرمزي. وهذا ما يجعل القصيدة حقلًا من التوترات الرمزية، إذ تتقاطع الرغبة في الهيمنة مع قلق التهميش، ويتحول النص إلى ساحة صراع بين تمثلات القوة والخذلان.
إنّ خطاب المتنبي، كما يراه الدكتور الغذامي، لا يُعيد فقط إنتاج قيم الفتوة والشرف والمجد العربي – وهي قيم تنتمي إلى نسق ثقافي سلطوي – بل يشتبك معها ضمن علاقة جدلية، يعيد من خلالها الشاعر إنتاج الهوية. فكل بيت شعري لديه يحملأثرا مزدوجا؛من جهة هو تعبير عن سلطة رمزية تسعى لإثبات حضورها عبر اللغة، ومن جهة أخرى هو انكشاف للذات القَلِقة، إلى اعتراف لم يمنح لها. وهذا ما يحول “الذات المعلنة” إلى أداة خطابية تعمل بوصفها تمثيلا ثقافيا لهيمنة مضادة، تكتب المجد من موقع التهميش.
بهذا المعنى، فإن المتنبي – في قراءته الثقافية – ليس مجرد شاعر يمدح أو يفاخر، بل هو تجسيد لحالة ثقافية مزدوجةلشاعر يتكلم بلغة السلطة، لكنه ينتج في العمق خطابًا هشًا ينطوي على شروخ ذاتية وانكسارات داخلية؛يتحدث من موقع الفخر لكن نصه يعاني من تصدعات التوتر الوجودي، إذ تتقاطع صورة الفارس المتفوّق مع صورة الذات الجريحة. وهكذا، يصبح شعر المتنبي، وفقًا للرؤية النقدية للدكتور الغذامي، تمثيلا مأساويا لصراع الهوية؛تتداخل فيه رغبة السيادة مع الحاجة للاعتراف، ويتحول التفوق اللفظي إلى ستار يشف عن قلق عميق في بنية الذات العربية المتمثَّلة في هذا النوع من الشعر.
لم يعد مفهوم الازدواج في تمثيل المؤلف حكرا على علاقته بالنص أو بالمؤسسة الثقافية، بل امتدّ إلى فضاء العلاقة المركبة بين المؤلف والقارئ، حيث يتجلى الأخير بوصفه سلطة تأويلية مضمرة، لا كيانا حياديا كما يخيل في تصورات القراءة التقليدية. فالقارئ في هذا السياق ليس مجرد متلقّ سلبي، بل مؤسسة قرائية مشبعة بإيديولوجيا نسقية تمارس نوعا من الرقابة الناعمة على النص، وتفرض على المؤلف إنتاج خطاب مزدوجظاهره يتماهى مع أفق التلقي السلطوي، وخفيّيضمر التمرد والرفض المؤجل.
إذ تعاد صياغة علاقة المؤلف بالقارئ على نحو تأويلي، حيث يتحول النص إلى منطقة اشتباك بين سلطتين؛ سلطة المعنى الظاهري التي تتناول ذائقة القارئ المؤدلج، وسلطة المعنى الباطني التي تسعى لتفكيك النسق عبر بلاغة التمويه والتضمين. وهنا، لا تعود البلاغة أداة جمالية خالصة، بل تصبح في مشروع الدكتورعبد الله الغذامي تقنية ثقافية لحماية المعنى من الانكشاف، وإعادة تدوير الخضوع في قوالب إبداعية، فالجمالفي هذا الزاوية لا يفهم إلا كقناع رمزي تتوارى خلفه بنية السلطة.
فضلا عن إن سلطة القول لا تنحصر عند حدود المؤلف بل تنسحب إلى القارئ ذاته، الذي يتحول إلى أداة نسقية لتثبيت المعنى، وضبط حدود الفهم والتأويل. فالنص الأدبي لا يقاس بجماليته الظاهرة، بل بقدرته على الإخفاء وعلى خوض حرب تأويلية تدار على مستوى الشكل، وتخاض في الخفاء تحت سلطة المعنى.إذ يكون المؤلفواعيا بازدواج موقعه وخاضعا للقارئ بوصفه سلطة، ومتمردا عليه بوصفه تأويلامراوغا.
إنّ ما يطرحه الدكتور الغذامي يتجاوز ثنائية الكاتب والنص، نحو مثلث نقدي تتفاعل أضلاعه: الكاتب، النص، والقارئ، في بنية تداولية تتحكم فيها السلطة المعرفية والاجتماعية. وضمن هذا المثلث، تفهم الكتابة لا كممارسة حرة، بل كفعل مهادنة ومقاومة في آن واحد، يحاول عبره المؤلف أن يفاوض سلطات القراءة من خلال خطاب متفق من جهة، ويختلف من جهة أخرى.
يشكّل التحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي في مشروع الدكتور عبد الله الغذامي لحظة انعطاف حاسمة، لا على مستوى الإجراء النقدي فحسب، بل على مستوى إعادة تعريف الوظائف المعرفية لكل من النص، والكاتب، والناقد. ففي هذا الجانب لم يعد النص موضوعا للتذوق الجمالي أو مرآة لذات مبدعة، بل حقلًا دلاليا مشبعا بالتمثيلات الثقافية التي تعيد إنتاج السلطة داخل اللغة. ومن هنا تتأسس مقولة “المؤلف المزدوج” بوصفها مظهرا من مظاهر هذا التحول؛ لا باعتبارها توصيفا تقنيا لبنية الكتابة، بل باعتبارها مفتاحا لفهم تشظي الذات الكاتبة بين الانصياع لسلطة النسق والمقاومة الرمزية له.
لقد أدرك الدكتور الغذامي أن الجماليات قد تتحول إلى أقنعة ناعمة للسلطة، ولاسيما أن الوعي الجمالي ذاته يكون امتدادا خفيا لمنطق الهيمنة والتمويه الثقافي. ولم يعد الناقد مفسرا للنص أو مجملًا لدلالته، بل يحفر في طبقاته الخفية، باحثًا عن الأنساق المستترة التي تشكّل الأيديولوجيا المتوارية خلف سحر البيان؛ محاولة لتفكيك البنى الرمزية التي تشتغل داخل النص بوصفها أدوات لإعادة إنتاج النسق.
تعدّ مقولةالمؤلف المزدوج واحدة من أبرز أدوات الحفر النقدي؛ لتكشف عن ازدواجية الموقع الذي يحتله المؤلف بين ذات حرّة تتطلّع إلى الإبداع، وذات مشروطة تُنتج خطابها تحت سطوة الثقافة. وبذلك تُفكك المقولة الأسطورة التقليدية حول الكاتب بوصفه ذاتًا متعالية، لتعيد مساءلة حضوره في النص من الداخل ليس من خارجه، اي من منطقة التوتر بين الطموح الفردي والاشتراطات الجمعية.
لقد انتقل الدكتور الغذامي في ضوء هذا التحول، من مساءلة الشكل إلى كشف البنية، ومن الاحتفاء بالجمال إلى تقويض وظيفته التزيينية، ومن القراءة التأويلية إلى القراءة التفكيكية التي تُظهر الخطاب ليس كمنجز مكتمل، بل كبنية منكسرة تحت ضغط التاريخ والمعنى والسلطة. فالنص، في منظوره الثقافي لا يُنتج المعنى خارج شروط الهيمنة، بل يُصبح ذاته تجلّيات متراكبة تعيد تشكيل الذات عبر آليات الإخضاع.
وعليه، فإن مشروع الدكتور الغذامي لا يُعيد النظر في وظيفة النقد فحسب، بل يعيد النظر في تموضع الناقد نفسه؛ إذ يتحول من كاهن جمالي إلى عالم حفريات ثقافية، ينقّب في النصوص عن رموزها الضمنية، وأنساقها المتوارية، وعلاماتها المضلِّلة. وهنا تتجلّى اللحظة الفارقة التي اجترحها المشروع في التفكير النقدي الحديث، حيث غادر ميدان الإنشاء الجمالي ليخوض معركة المعرفة، ومعركة السلطة، ومعركة اللغة.يبقى السؤال الأكثر أهمية في صلب المشروع النقدي للدكتور الغذامي.
– هل يمكن للكتابة أن تُنتج خطابًا تحرّريًّا فعليًّا في ظل التداخل العميق بين البلاغة والنسق؟
لا يعنى الدكتور الغذامي بتقديم إجابة نهائية بقدر ما يحرك السؤال ذاته بوصفه أفقًا للتفكير الدائم، مفضلًا أن يكون النقد لا أداة خلاص، بل شكلًا من أشكال الممانعة الرمزية، التي تمارس فعلها داخل النسق، لا خارجه.
ففي هذا السياق، يُعاد تعريف النقد كاشتغال على المسكوت عنه، لا كاستجابة مباشرة لخطاب النص، بل كممارسة قرائية مضادة، تتعقب ما يُخفيه النص أكثر مما تُصغي لما يعلنه. فالنقد على وفق رؤية الدكتور الغذامي، لا يحتفل بالجماليات إلا بقدر ما يعيد مساءلتها، مفككًا إياها كأدوات محتملة للتواطؤ، أو كآليات لإعادة إنتاج السلطة تحت قناع البلاغة.
إذ يتقاطع سؤال الكتابة مع مفهوم المؤلف المزدوج الذي يطرحه الدكتور الغذامي بوصفه مقاربة جذرية لمأزق المؤلف الحديث: فبين الرغبة في التحرر من السلطة، والخوف من الانكشاف أمامها، يتحرك المؤلف ضمن هامشمحفوف بالرقابة الداخلية والخارجية معا. يظن أنه يكتب ليحرر ذاته، لكنه في العمق يعيد قولبة صوته ليوافق السلطة القارئة، أو ينسجم مع النسق الحاكم، أو يتماهى مع العقل الجمعي.وهكذا، تصبح الكتابة فعلًا مزدوجًا ورغبة في الكشف ليس خلاصا نهائيا ولا تحررا مطلقا، بل سيرورة مفتوحة من التفاوض الرمزي، حيث تتحول البلاغة إلى حقل صراع، واللغة إلى ساحة اختبار للمقاومة الممكنة.
إن مشروع الدكتور الغذامي لا يعدنا بجوابٍ حاسم، بل يُبقي الباب مفتوحًا أمام القراءة كفعل تحريري في ذاته، مشروط بوعيه النقدي وقدرته على مساءلة أنساقه الخاصة. فالكتابة، في هذا المنظور، ليست ملاذًا بل مختبرًا، لا تحيا خارج السلطة، بل تُجري حوارها المستمر معها، عبر الكشف من الداخل.
أخيرا.. لا ينتمي مفهوم “المؤلف المزدوج” في مشروع الدكتور الغذامي إلى حقل الاصطلاحات العابرة، بل يتجذر في بنية قرائية تُقوض التصورات التقليدية عن الكتابة والكاتب. فليست الذات الكاتبة كيانًا حرا خالصا، ولا النص انعكاسا لتجربة فردية، بل هما معا تمثيل مشروط، ونتاج اشتباك مع سلطات رمزية كامنة في اللغة، والثقافة، والوعي الجمعي.
لقد منح الدكتور الغذامي للنقد الثقافي أفقًا تأويليًا يتجاوز الجماليات السطحية إلى عمق النسق، إذ تتحول القراءة إلى مقاومة رمزية، تستنطق ما خفي من شفرات السلطة داخل الخطاب. ولا تعود اللغة محايدة، بل تصبح فضاء للصراع، وتمثّلًا للهيمنة، ومجالًا للمساءلة. فكل استعارة، وكل صورة بلاغية، هي جزء من منظومة خطابية تنتج المعنى وتعيد تشكيل الوعي.
ومن هذا المنطلق، لا تُقرأ الكتابة من أجل لذّتها، بل من أجل مساءلتها؛ لا لأنها جميلة فحسب، بل لأنها مشتبكة، محمّلة، ومضمرة. فالنص كما يُفككه الدكتور الغذامي يُخفي، يُراوغ،كون المؤلف المزدوج تفكيك لبنية خطابية تُنتج ذاتًا مزدوجةظاهرة ومُضمرة، مُعلنة ومُخاتِلة.
يصبح الناقد في هذا السياق فاعلًا فكريًّا لا يكتفي بفهم النص، بل يشتبك معه، يحلّله من موقع الوعي، ويعيد تموضعه داخل الحقل الثقافي العام. إنه ناقد يدرك أن الجمال ليس معزولًا عن السلطة بل وجه آخر لها؛ وأن كل نص هو فضاء تفاوض بين ما يُقال وما يُقصى.
ولاشك إنّ مشروع الدكتورالغذامي ليس فقط تأصيلًا لمفهوم نقدي، بل إعادة تشكيل للموقف النقدي ذاته. موقف يرى أن الكتابة لا تُفهم إلا بمساءلة شروطها، وأن القراءة لا تكتمل إلا حين تنقب تحت الجمال لتكشف السلطة، وتعيد للوعي قدرته على المساءلة. وهكذا، يغدوالمؤلف المزدوجمرآة لا تشظي الذات الكاتبة فحسب، بل تشظي الثقافة ذاتها، وتُبرز هشاشة السلطة حين تفكك من داخل النصوص؛وبذلك يتحول النقد الثقافي إلى فعل تحرري، يعيد تشكيل العلاقة بين النص، والسلطة، والوعي.



