آليات التشكيل السردي وجمالياته في ديوان” إني أتغيا” للشاعر محمد حشمت
بقلم/ د. حسن محمد العمراني | مصر
في مقدمه كتابه “آليات السرد في الشعر العربي المعاصر” يشير الناقد الدكتور عبد الناصر هلال إلى أن النص الفني ليس كتلة جامدة أو مادة صلبة يمكن صبها في قوالب مُعدة سلفاً، وأن حيوية النص وديناميته تتحقق عبر الأطراف الجدلية الثلاثة: المرسل والرسالة والمرسل إليه أو المستقبل. ولما تحققت هذه الفرضيات الثلاث في نصوص الشاعر محمد حشمت، كان لزاماً علينا أن نتطرق لقصائده والتعامل معها بأدوات تنبع من ماهيه النصوص ذاتها دون النظر للنظريات أو الإجراءات النقدية المحفوظة ، نظراً لما تحمله تلك النصوص من جدية التناول وبكارة المعالجة الشعرية.
في ديوانه الصادر عن مؤسسة دار الحسيني للطباعة والنشر بالقاهرة، والواقع في نحو 120 صفحة، يقدم لنا الشاعر نفسه في صدر قصيدته “العام الثاني والستون” ص 26 فيوطأ لذاته الإنسانية والإبداعية قائلاً: (إنما اثنان وستون عاماً / مضوا كالحلم / ما يشكون من عيوبي كلاما / همسهم صاخب / أثقل المنكبين / واعتراني / لكني لا أبالي ملاما / صاحبتني السنون مرغماً / وهدهد نني / وأنا بطبعي حرون ). وهذا الشاعر الحرون الذي لا يركن للتقليد والمحاكاة، بقدر ما يستنفر طاقته الفنية والأسلوبية المتفردة في تقديم ما هو جديد، أدخلنا معه إلى حلبة النقد بأدوات تتجاوز المألوف حتي نستجلي عناصر تجربته الفنية من منظور مغاير، ومن ثم جاءت هذه الأطروحة النقدية بعنوان:” آليات التشكيل السردي وجمالياته في شعر محمد حشمت”
فالشاعر يمتلك روحاً فنية متمردة، لا تخضع لتصنيفٍ بعينه، إذْ يقدم لنا متناً شعرياً تتحقق فيه عناصر ومقومات السرد الشعري والقصصي بشكل يجعل القارئ يحس بأنه يلاحق الفكرة ويقدمها لنا عبر نسيج فني تتلاقى فيه الأحداث تتباعد وتتعاقب أو تأتي مسلسلةً من البداية للنهاية بما يعرف بالإطار الزمني في النص السردي. ومثالاً لما ذكرناه نجد الشاعر يحملنا في قصيدته “عصفوران” ص 65 إلي المشهد الشيئي، فيستحضره عبْر النافذة، حيث يرى عصفورين ثم يستعرض الأحداث متكأً على المعطيات اللغوية والتصويرية التي يتناقض فيها المرئي بالحسي بصورةٍ تتكشف معها عاطفه الحزن والاستنكار في آن واحد، فيقول: (حين رأيته يشاغلها من وراء الشباك / وهي تغزل له الشباك / ليوقع كل منهما صاحبه في الشراك / ابتسمت له / وابتسم لها / وابتسمت أنا لكليهما)، ثم يفاجئنا بعد ذلك بنبرة تقريرية قائلاً أن ذلك لم يكن إلا حلماً، وأن (المترو كان واقفاً / والفراغ بينهما يرفرف فيه / عصفور وعصفورة).
هذا الإسقاط الذاتي على الواقع المحيط ينم عن تمكِّن الشاعر من رسم الشخصيات في إطار شعري يتمسك بروح السرد حتى لا يخلط القارئ بين الشخص والشخصية، ولا يختزل إشكاليه الشخصية في مفهوم الرؤية فقط، بل يتعاطف معها بوصفها التي تحرك الأحداث وتوحي بالتفاعل. وهنا تبدو الشخصية فاعلاً أساسياً ومقوماً أصيلاً من مقومات السرد داخل النص.
ومن آليات السرد الأخرى التي يتبناها الديوان هو اعتماد الشاعر للراوي الذي يعود إلى المتكلم، و هي أيضاً إحدى مقومات القصة التي بدونها قد ينتفي البعد السردي. ومثال ذلك قصيدة “إني أتغيا” ص 33 التي يتحرك فيها الشاعر بانسيابيه من مشهد لآخر، فتارة يشير لمحبوبته قائلاً: (وأراك مع الحب هنا / وترِين مني / جسدي وجسدك لا يفترقان), ثم يتحول فيقول:(من ذا يعذرني / وأنا أتغيا). وهذه القصيدة، وهي عامود الديوان بما تزخر به من مشاهد شعرية، تخضع لما يسمى بالسقف السردي، حيث تتشابك مناحي الحياه عبر زمن فردي تتعدد فيه الأزمنة المجازية. ورغم أنها ليست اَنيه الكتابة إلا أنها توحي بتطور الشاعر وسعيه الدؤوب لتوظيف أساليب سرديه داخل سياقات درامية يتحرك فيها النص ليخرج على الأنساق الشعرية البالية والرؤى المسطحة، حيث يتبنى النص روح السرد دون الدخول في أغوار القالب القصصي. وهنا يطرح الشاعر سؤاله استهلالاً فيقول: (ما بال الحلوة ما بالي؟ / تسألني: أأرقت ليالي)، ثم يعاود فيرد قائلاً: (فقلت: كذا انهدت أوصالي / وأقول وزين ما قلته/ … إني أتصور- وي نفسي- / سبحاً فوق بساط الريح / ولي بعد جناحان / أطير وتحتي مفترش / كالمهد يلين / وهو مريح / أتغيا أن أصل اليك).
هذا الخطاب الشعري الذي يقوم على فكره السرد والحوار والتاَلف والتخالف والاستطراد يضع القارئ أمام قصه حقيقيه يستثمر فيها الشاعر خياله الخصب ليقدم لنا ملحمة شعرية عبْر سبع وعشرين صفحة من المشاهد المتنوعة داخل الديوان، حيث تبدو القصيدة وكأنها توقيعات نفسيه، تارةً يطول فيها المشهد، و تارةً يأتي مختزلاً. غير أن هذه المشاهد لا تتنافر، بل تتنوع وتختلف لتعكس لنا رؤية واحدة تمثل الوحدة العضوية للقصيدة. وذلك له مبرراته الفنية والأسلوبية، حيث ينفذ الشاعر من خلاله إلى مساحات شعرية أكثر رحابة، عبْر ما يُسمى بالالتفات لتحقيق نوعٍ من الجمال اللغوي. فالشاعر يحدثنا عن محبوبته أو زوجته، ثم يتطرق للحديث عن كيانات إجتماعية أخرى، فيقول: (تسالني أكلي وطعامي / وغذائي هل نلت مرامي؟ / وشرابي حُلوِى و مُدامي / يا كل هيا مي)، ثم يستعرض الشخصيات قائلاً: (وفر لي ولغيري أهل عُمان / بلحاً.. عنباً وجنِّى جِنان).
هذه الطريقة التي يتردد فيه الشاعر ما بين المحسوس والملموس تجعلنا نحس بأن المشاهد الحياتية تتراص بأسلوب المونتاج السينمائي، كما في قصص فرجينيا وولف وجيمس جويس، كما أنها تمنح الشاعر نوعاً من المرونة والانتقال من أسلوب إلى آخر حتى تحفز المتلقي على الإصغاء. ومن ناحية أخرى يأتي هذا التلاقح والتهجين بين المادي في ألفاظ مثل “أكل/ طعام / شراب / أهل عمان / بلح / عنب” وبين المعنوي في ألفاظ مثل “مرامي / هيام / جنان” فيوحي بالمشاعر المتداخلة ويوسع مجاري الكلام ويفتح للشاعر آفاقاً تعبيرية تتأبى على الانغلاق، كما أنها تُكسب النص أبعاداً جديده تضيف لموقف الشاعر من واقعه الراهن ومعايشته له.
وهذه البُنى السردية تمارس حضورها داخل النص، فنجد الشاعر يمنح مشاهده صوتاً ولوناً وحركة تتشكل معها الرؤية أمام أعين القارئ. فهذه الملحمة الصوفية الوجدانية، إن جاز لنا التعبير، ما كان يساعها نص شعري يقتصر على نبرة التكثيف المجازي والبلاغي والصور المقتضبة. ولهذا عمد الشاعر على تجسيد هذه الرؤية عبر سياقات شعريه تتخللها روح القصة من حيث التركيب والتفكيك والتعقيد فيما يُعرَف “بالتفاعل النصي العام” كما وصفه جيرار جينيت، في كتابه ” مدخل لجامع النص، ترجمة عبد الرحمن أيوب، وهو التداخل الذي يقرن نصاً ما بمختلف أنواع الخطاب من الأجناس الأخرى. ولأن الشعر أبلغ أنواع الخطاب فهو يمتح من الأدوات والتكنيكات الفنية الأخرى التي تساعد على تمثيل الرؤية الشعرية الحديثة التي يتلاقى فيها الشعر بالسينما والتصوير والموسيقى، كما أشار إلى ذلك على عشري في كتابه “عن بناء القصيدة الشعرية الحديثة”.
وهذا الملمح الفني يتجلى في قصيده “عصفورتي أنا” بالديوان ص 72, حيث يقول الشاعر: (عصفورتي التي / تسكن المدينة النائية / تعاقر التغريد وحدها بشوق). في هذه القصيدة يُغلِّب الشاعر أسلوب السرد وصيغ الإخبار على حساب الحوار حتى يسمح للفضاء السردي بالتشكل والتمدد، فنراه يصف لنا أين تسكن عصفورته، ولمن تغني “وهم السمار”، ثم يتعرض للزمان المجازي في القصيدة قائلاً: ( كم تملكين بدء الوحي والإلهام). هذه الشعرية التعبيرية تجعل القارئ يدرك النظام الشعوري والإحساسي الذي قد يثيره المشهد: فلدينا مشهد شيئي في الشعرية الدلالية العادية يتحدث عن عصفورةٍ ما، إلا أن النص ينفتح على فضاءات بنائية ذات أجناس أدبية مختلفة غنائياً ودرامياً وقصصياً. فالشاعر يجعلنا نصغي لصوت العصفورة حين تقول: (صو صو صو) ثم يحملنا على التفاعل معها في لحظه درامية عندما يقول: (عصفورتي يهزها الصباح / وغالبا يلذ لي النواح / ويكثر الإحساس بالألم).
في مواضع أخرى مثل قصيدة “أخي” ص 13، يلجأ الشاعر للسرد والحوار والحكي مستخدماً الانزياحات اللغوية الممتدة كصيغ أسماء الموصول وأشباه الجمل حتى يحمل المتلقي على معرفة تفاصيل الحكاية. وهنا يتداخل حكي الأحداث مع حكي الأقوال والحِكَم ثم يتقاطعان، بحيث لا يمكن تمييز قول الراوي عن قول الشخصيات من حيث السرد والعرض. ثم نجد الشاعر يتدخل ما بين الحين والاَخر لمناقشة هذه الأحداث والتعليق عليها بقصد التداعي حتى لا تفقد القصيدة حرارتها الغنائية الوجدانية أو طبيعتها الدرامية.
في قصيده “أنت جميل” ص11 يقول الشاعر: (أنت في الفيس جميل يا حبيبي / وزهور الكون كله / مع ورد الجنتين / وأصوات البلابل / وابتهالات العنادل / تتغنى لك بالمولد الغالي). وهذا الموكب الشعري لا يتطلب أسلوباً تكثيفاً رغم توظيفه للصور المجازية، وذلك لأن المبالغة في التكثيف والاختزال البلاغي والمجازي أحياناً تعوق الانزياح السردي من مشهد لآخر، فالحياة رحلة حافلة بالوقائع كما هو الحال في قصيدة “سدرة” ص 22 حيث يشكل الشاعر فضاءه السردي بأسلوب قصصي لا يخرج فيه النص عن حيز الشعرية، فمرة يرتدي قناع الرائي، ومرة قناع المعلق، ومرة ثالثة يتوارى خلف قناع الناقد حتى تتشكل معالم الحركة الدرامية التي تقوم أساساً على خاصيه التجسيد. ولهذا نجده يقول: (وأنا في سياحتي اليومية / أرتاض / أمشي الهويني / أتحسس نهر الطريق نحو بغيتي / لا قصد لي سوى السفر اليومي). وهنا يتحقق صوت الناقد الأديب هنري ميلر عندما يشير للشاعر بأنه كريستوفر كولومبس.
إجمالاً يمكننا القول بأن ظاهره تسريد الشعر أو سردنه الشعر, أياً كان المصطلح, ليس بالأمر الجديد أو الدخيل على الشعر العربي الجاهلي أو الحديث أو المعاصر أو فيما يُسمى بعد الحداثة. فحتى الروائيين أو المشتغلين بالنثر, بما فيه من الكتابة المسرحية, كثيراً ما كتبوا الشعر في مرحله ما من مشوارهم الأدبي. والشاعر محمد حشمت ليست استثناءً للقاعدة, بل هو يسير في مصاف مسيرة الإبداع والتميز, ولهذا لجأ للسرد لحاجته لأكثر من أسلوب تعبيري حتى ينسجم مع ما يدور بخاطره من تساؤلات وجودية. ويتضح ذلك في قصائد الديوان محل الدراسة مثل “يقول الرمل” ص 29 و”براح” ص 99 و”مناجاة” ص 83 و”زهرة الدنيا سماح” ص 88. فمثل هذه القصائد وغيرها تثير قضايا وجوديه عبر سرديات اجتماعية تعبر عن تجارب حياتية عاصرها وما زال يعايشها الشاعر بوصفه فرد يعيش هذا الخضم المتداخل من الهم اليومي.
ورغم تقلص عدد الأصوات الشعرية الحقيقية حالياً وتراجع الشعر عن دور الريادة لصالح الرواية، حسبما يشير بعض النقاد أمثال الروائي العراقي وارد بدر السالم، والكاتب اللبناني شوقي بزيع في معرض حديثهم لجريدة البيان، وأن الكتابة الشعرية الحقيقية اَلت إلى ما يشبه الفوضى الأدبية غير الخلاقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ إلا أن الشاعر محمد حشمت في ديوانه “إني أتغيا” يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فهو يساير روح الثورات والانقسامات والصراعات الحادثة محلياً ودولياً، لكنه يعبر عنها من خلال أساليب البوح والاسترسال والمكاشفة الشعرية في سياق سردي، دون التخلص من الأقفال والأوزان الشعرية أو الخروج المطلق من إطار الشعرية نحو فضاءات السرد والتعبير كأشباه المبدعين من الشعراء الذين يبحثون عن ضالتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقد أشار شاعرنا بوضوح لذلك من خلال قصائد مثل “لك النت” ص 16و”الأصول” ص 30، التي يصر فيها على ممارسة فعل الكتابة الشعرية الأصيلة، فيقول: ( ربما أكتفي من اليوم / بالبقاء في إطار صفحتي / لكنني لن أكون مثل من يقول / عبارة تشفُّ عن قتيل / صريع شتمةٍ وغارةٍ شعواء). وكذلك قصيدة “راوية الشعر” ص 107 التي يمنحنا فيها فلسفته عن الكتابة وراوية الشعر الجيد قائلاً: ( لم أسعد بمنافيها / لم يبهرني منها ما فيها / وتركت الدنيا / من أجل صفائه / كنت وفياً له / لم أخطب ود الكلمات / ولم أمهلها إن جادت / برحيق الزهر). فهذه القصائد تعكس تفاعل الشاعر تجاه الثورة العلمية والتكنولوجية دون ترهل، ومسايره روافدها المعرفية والثقافية المتشابكة دون إسفاف أو ابتذال ليتفرد بتجربته الإبداعية لتظل رواية الشعر، حسب رؤيته متألقة مع من يفهم، وحتى لا يكفر المتلقي برسالة الشعر مثل ابنته التي يقول عنها: ( كفرت بنتي بالشعر وبالشعراء / وتيقن عندي / أن العصر يزيح من الساح الفقراء / يلقيهم في الجب / ويختار لزمره / من يسكن دار الأهرام).
في النهاية يظل الشاهد لدينا أن هذا الديوان يعد خطوة فارقة في مشوار محمد حشمت حيث يستند علي مخزون ثقافي وتراثي جيد وينفتح على قراءات ورؤى نقدية متعددة.