أدب

#الورقة

قصة قصيرة

د. تامر محمد عزت |  القاهرة 

كانت السماء صافية في تلك الليلة الهادئة التي جمعت بين الإبن والأب بعد سنوات طويلة من الفراق ، بعد تناول العشاء ذهب الابن إلى غرفة مكتب والده ، ظلت كما تركها مكتبة فخمة احتلت الجدار الرابع كاملاً، مكتب وخلفه شباك الغرفة.. مغلق شتاءاً ومفتوح صيفاً ، ومنضدة طويلة عليها بقايا جرائد قديمة صفراء اللون ، لاحظ الابن وجود قصاصات من الجرائد لمجموعة مقالات لنفس الكاتب بجوار تلك القصاصات دفترا صغيرا ظن أنها فارغة وعندما فتحها وجد اقتباسات مكتوبة بخط والده… وبين الورقات ورقة مطوية مخفية كأنها مقطوعة من دفتر قديم…فتحها وقرأ ما فيها ولم يفهم شيئا… ولاحظ وجود إسم آخر جديد عليه غير التي في تلك القصاصات ….أغلق كل شيء وسأل والده الذي دلف للغرفة حاملا صينية الشاي ،أخذها الابن وجلسا ودخل في الموضوع مباشرة

-مَن ( م. ن) ؟
=كاتب كبير كان يعمل بجريدة قومية منذ زمن بعيد وله آراء وفلسفته الخاصة بالحياة بالإضافة إلى أنه صار صديقي بعد ذلك عن طريق بعض المعارف
-لم أكن أعلم
=نعم…لم يكن ذائع الصيت والشهرة مثل أقرانه ، ولم يكن له ندوات كثيرة ، الدولة جعلته على الهامش طالما لم يستخدم قلمه لصالح النظام
-ثم ؟
=حدث له حادث أليم.. غيرته تماما… واختفى عن الأنظار واختفى عاموده اليومي والأسبوعي …وبحثنا عنه وقتها ووجدناه في آخر مكان من الصعب على العقل تصديقه
-أين ؟

=ابتسم الأب وعاد بالذاكرة إلى الوراء…كانت اخر مقابلة كانت تلك هي آخر جلسة جلسها مع صديقه الكاتب ..كان متوترا… وعصبيا.. أعقاب السجائر ملئت ارضية غرفته… طالت لحيته بشكل مُهمل ، ما الذي حدث لكل ذلك ؟ أخبره عن ذلك الصحفي الجديد الذي عُين مؤخراً فى الجريدة.. المنافق.. بعد ستة أشهر من توظيفه بالواسطة تم تعيينه رئيسا للقسم الذي اعمل به ، شاب وضيع ، لسانه كالثعبان ، كاذب ومغرور…أنا… بعد كل هذا العمر والتاريخ ولي قلم مميز وصاحب كلمة ورأي يتم حجب مقالاتي بسببه ؟ والله لن يحدث ابدا.
****
“الكراهية العمياء نوعاً من الجمود الذي يحجب عنا الحقيقة، تجردنا من كل سلاح للمقاومة ومن كل سلاح للصمود ولا تعطينا إلا سلاحاً واحداً هو الغليان المشلول…مثل غليان الماء في إناء على نار…يغلي ولكن لا يتحرك..أو يتحرك ولكنه لا يتقدم…أو يتقدم ولكنه لا يكون مدفعاً ولا صاروخاً…يصيب هدفاً من أهداف العدو” أنيس منصور
****
سأل الابن : وماذا فعل ؟
الأب : سرق
الابن : ماذا ؟
الأب : في إحدى المرات دخل مكتبه لمناقشته في شيء ما.. فلم يجده ووجد ورقة ومكتوب عليها بعض الكلمات والعبارات… سرقها… واتخذها دليلا أو ورقة رسمية أو مستند أو وثيقة …لتدميره… كتب مقالا عنيفا عبّر فيها عن كل ما يضمره… ثار ثورة عارمة… تسببت في أزمة كبيرة …لم يعد يرى المستقبل… فقط أراد الإنتقام… وكل ذلك بسبب كلمة
الابن : ألا وهي ؟
الأب : ملحد
الابن : من ؟
الأب : صديقي ظن أنه ملحد… وهاجم النظام أنه يُشجع على الكُفر والإلحاد …كان مقالا صارخا وخاصة انه نشره في إحدى صحف المعارضة آنذاك…وتم استدعائه أمام النائب العام ….وبعد التحقيق تبين أنه ارتكب الخطيئة والجريمة
*****
“الجريمة هي الخطيئة التي ترتكبها علنًا
والخطيئة هي الجريمة التي ترتكبها سرًا
ووخز الضمير هو العقاب الذاتي لكل خطيئة”
أنيس منصور
****
الابن : ماذا فعل ؟
الأب : يبدو أن الغضب الأعمى جعله يقرأ الكلمات بشكل خاطئ.. فإن شكل الكلمات في أرشيف ذاكرته تصور أنه قرأها ( ملحدا) في حين كان المكتوب ( مُلحنا) .. و لأن الكلمات مكتوبة بخط سيء فقرأ ما أملاه عليه غضبه وكراهيته كما لو كانت صحيحة…الورقة أعطاها لي واحتفظت بها…
وأين ذهب بعد ذلك ؟
حُكم عليه بالسجن عدة أشهر وبعدها تم نقله لمستشفى الأمراض النفسية والعصبية حتى مات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى