أسطورة الفن الكريتي

بقلم: الفنانة التشكيلية  أميرة عبد العزيز

في العموم أي شئ غير معروف وتحت أي مسمى ممكن تداوله ودراسته والبحث فيه ومن ثَمَّ يعرفه الناس، قد يكون ذو أهمية وقد لا يكون-ولا أعني بقول ” لا يكون “أنه ليس مهماً -فلم يخلُق الله شيئاً إلا وكان على قدر من الأهمية، لم يخلق الله شيئاً عبثا إنما كل شئٍ عنده بمقدار وقدر،وعلى ذلك نستهل موضوعنا بهذه الأسئلة..

ماذا تعني كلمة الحضارة الفرعونية.. والحضارة البابلية ..، واليونانية..؟ وماذا تعني ديانة قدماء المصريين..؟ ما الذي يريدُ أن يقوله الفنان المصري القديم من خلال نحته لتمثال، أو رسمه للوحة جدارية على مقبرة ما أو جدران معبد؟

إن كل هذه الأشياء والمسميات وتلك المعاني إنما هي مجرد موضوع للأبحاث والدراسات، ذلك لأننا نجهل ما الذي يقصده الفنان من نحت هذا التمثال أو ذاك وبالوضع الذي يوجد عليه..! وما هو المقصود من التنوع الموجود بين الحضارات..؟

إن التماثيل التي قام بنحتها الفنانين والنحاتين في العصور القديمة لم تكن مجرد موضوع للدراسة وحسب لأن الفنان عندما قام بنحت تمثال معين في هيئة ووضعية معينة أو نحت جداريات على المعابد أو داخل المقابر والقصور، لم يكن أبداً بمحض الصدفة أو لمجرد أنه هاوِ للفن والنحت والتصوير، بل كان تخليداً لحضارة عريقة غزت الدنيا وعمت أرجاءها فكانت بمثابة الفكر المستنير الذي جعل من الصمت لغة ومن الجماد شئ معنوي وحسي فجعلت من التمثال شئ إنساني، ومن الحروف القديمة لغة، ويا لها من لغة..! إنها اللغة التي كَشفت عن حضارة إنسانية في شتى المجالات الإقتصادية والتجارية والعلمية والعسكرية والفنية والثقافية بكل ما تشتمل عليه من آداب وشعر ونصوص وحكم ومتون الأهرام ” اللغة الكلاسيكية “، وكانت تتميز بروحانية وفكر مستنير ونظرة بعيدة للأشياء.. فاللوحات التصويرية والجداريات والتماثيل هي ما وُلِدت في نفس الفنان وَوَلدت لديه الرغبة في التصوير والتعبير باسلوبه الخاص في التعبير والتكوين ناظِراً إلى أعماقه واحساسه، لا في النظر إلى العالم الخارجي، عندما تقف أمام جدارية أو تمثال ستقول يا له من تمثال رائع، ويا لها من لوحة جميلة..! وقتها سوف تدرك أن الموضوع ليس مجرد تمثال أو لوحة أو جدارية نُحتت على جدار، إنما هي حضارة مكتملة الأركان باقية عبر آلاف السنين قبل الميلاد ومازالت للآن يَنهلُ منها العالم ويقف أحياناً عاجزاً عن تفسير البعض منها، يظنُ أنه قد عَرِفَ أسرارها وخباياها لكن سرعان ما يكتشف أن في جُعبتُها الكثيرُ والكثير لم يعرف عنه شيئاً.

إن هذا الفن ظَلَّ باقياً معبراً عن حضارة من أعظم الحضارات وأكثرها إنسانية من العالم كله، تكشف عن أصوات محاطة بالغموض والسرية التامةالتي سوف تسمعها وتعيها الأجيال على مر الزمان.

إن الفن في مجمله لهو عالم إنساني يفلت أحياناً كثيرة من تحت عباءة الطبيعة ولا يخضع في معاييره لأحكام الواقع وهذا بالفعل ماحدثَ في العصور الوسطى القديمة في عهد المجدد الثائر إخناتون الذي لم يجدد ويطور في الثقافة والفن فقط بل وفي كل ما تشتمل عليه أمور الحياة، فأصبح الفن أقرَبُ إلى النزعة الفردية وأكثر تحرراً وانطلاقاً وأكثر استمتاعاً بالطبيعة، هذا ما مَرَ به الفن المصري القديم في العصور الوسطى – خاصةً في تلك الحقبة التي حكمها إخناتون – وبالرغم من تحرره وانطلاقه إلا أنه ظلَ محافظاً على كلاسيكيته.

لقد تأثرت البلدان والإنسانية بالحضارة الفرعونية وحاولوا تشييد القصور واكتسبوا مهارة عالية في فن المعمار والحرف المختلفة واستخدموا أنظمة متعددة للكتابة، ومن أبرز تلك المدن التي تأثرت بالفنون والثقافة مدينة ” كريت” ولكن تأثُرها أخذ الطابع الأوروبي وصُنِفت فيما بعد بأنها أول حضارة شهدتها أوروبا كما أُطلِقَ عليها حضارة ” العصر البرونزي ” وإن صح التعبير لأطلقنا عليه وبجدارة – ” أسطورة الفن الكريتي ” – وهو أحد أهم وأعظم العصور الفنية والثقافية في التاريخوقد دام ذلك العصر من عام 3000 ) ق.م إلى عام 1100 ق.م) تقريباً، وبالرغم من تأثر العالم بالحضارة الفرعونية القديمة والحضارة البابلية إلا إن هذه المدينة اتسمَ الفن فيها بالميل الشديد إلى الموضوعات الدنيوية والملحمية مؤكداً على صفات الفروسية التي كانت من أهم السمات في ” الثقافة المينوية نسبةً إلى الملك مينوس ” وهو شخصية أسطورية تدور حولها أقدم وأروع أساطير جزيرة كريت وهذا الأسلوب الملوكي الممزوج بالفروسية قد يَسرَ أساليب الحياة عموماً وجعلها أقلَ جٌموداً وأكثر تلقائية ومرونة وأصبح إختيار الموضوعات يعتمد على الجرأة والتخلي عن الرسمية الحادة والكلاسيكية التي كان يمتاز بها الفن المصري القديم.

لقد كانت الدينامية هي السياق الأساسي لإسلوب الفن الكريتي ولا أعني بأن المسألة في إختيار الموضوع وحسب إنما أيضاً الترتيب العشوائي للموضوعات والأيقونات هو ما أسبغ عليه صفة التحرر والمرونة التي وُصِفت بلفظ أوروبية أي المتحررة من أي قيود كالتي فُرِضت على الفن المصري القديم وسارَ على الدرب المحافظ دائماً على المبادئ والأصالة والتمسك بكل ما هو قديم وذلك لا ينفي جماله وبراعته وقوته وشخصيته الفنية المنفردة والمتفردة في آنٍ واحد.

لم يكن مبدأ الفنان الكريتي التركيز والتفاوت على الأشخاص لكنه كان يُفضل مبدأ إمتلاء المادة الموضوعة وغزارتها، فلم يَكن ملتزم بالترتيب الهندسي في الزخارف والرسومات بل كان متحرراً من كل قهر شكلي متجاهلاً التفخيم والتعظيم حتى المنظور والظل كانت موضوعاتهم تفتقر إليها كل الإفتقار، وكانت الألوان بسيطة والأشكال المرسومة تميل إلى الشكل البشري الذي كان أشد توغلاً وتعمقاً في كل تصميماتهم أكثر من أشكال الحيوانات وذلك في بداية العصر الكريتي ” العصر البرونزي “، وإذا ما تطرقنا إلى أواسط هذا العصر أو النصف الثاني من هذه الألف الثانية من حقبة ” العصر البرونزي في مسماه والذهبي في مستوى وغزارة الثقافة فيه والفن” لوجدناه يزداد تجريداً للأشياء ويضعها في قالبوإطار هندسي أكثر منه ميلاً للطبيعة، وقد يرجع ذلك إلى غزو بعض القبائل الهيلينية للإقليم الإغريقي من ناحية الشمال.

أما في العصر البرونزي الحديث فقد إكتسب الفن الكريتي صفة خاصة مميزة تستطيع من خلاله أن تكتشف شيئاً هاماً هو أن وسائلهم بالرغم من بساطتها ووضوحها إلا أنها كانت سابقة لكل العصور في الحداثة العصرية فكانت نواة للفن العصري الحديث وملهمة له،  لها السبق في عدة نواحي من خلال ظهور الفن الصناعي الحديث وكان إنتاجهم غزير جداً وكأن مصنعاً مزوداً بآلات هو من ينتج نفس التيمة ونفس المنتج بشكل غير موحد وغير نمطي قد لا يستطيع التحليل العلمي وصفه بطريقة شاملة وجامعة.

إنه التحرر والإنطلاق نحو آفاق فسيحة بعيدة مترامية الأرجاء وبغير وجهة معينة ولكنها تعرفُ جيداً طريقها المهم هو الطيران إلى فضاء فسيح.

آنية خزفية يبدو عليها التنوع في الرسومات والأشكال ولكن عندما تتأملها ستجدها منحوتة من الصخور اللينة تسمى الستياتيت (الحجر الصابوني) وهي موجودة في متحف هيراكليون الأثري.

لوحة من اللوحات المينوسية (تصوير جصي، وهو تقنية للرسم على الجدران بإستخدام الجص)،وهي عبارة عن كائن اسطوري جسمه كالأسد ورأسه وجناحه كالعقاب، وُجِدَت في مصر تعود إلى الأسرة المصرية الثامنة وهذا دليل على إنخراط مصر مع بلدان الشرق المتوسط وإزدهار التبادل الثقافي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى