نعم.. أنا صاحب هذه الصورة

أسعد طه| كاتب صحفي وصانع أفلام وثائقية 

(1)
اُستدعى للتحقيق، يدخلونني الغرفة، يرفعون الكيس من على رأسي، لحظات صمت كأنها سنوات، يبلغني المحقِّق ببرود شديد أني سأصعق بالكهرباء، تخيلت أنهم سوف يستخدمون ذلك الهاتف العسكري الروسي المتعارف عليه في سجون العالم العربي، وهو الذي يولد شحنة كهربائية حين تدور عجلته.
لكن المحقق كان كريما معي، وطلب صعقي بتيار كهربائي مباشر من إمدادات الكهرباء المثبتة في حائط الغرفة، أكاد أفارق الحياة، أصرخ، أسمع المحقق يبلغني بتهكم أن ملاحظتي بشأن تعذيبي سوف يسجلها بكل أمانة في ملفي؛ لكنها لن تغير من الأمر شيئا.

(2)
الغريب في الأمر أن سجن “أبو غريب” الواقع (غرب بغداد)، وعلى بعد حوالي 30 كيلو مترا، قد بنته شركة أميركية في الخمسينيات، وها هو عام 2003 يصبح سجنا أميركيا سيئ السمعة، يزج فيه كل من يقاوم الأمريكان، الذين غزوا بلادي بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، تلك التي لم يجدها أحد حتى الآن.

السجن يتألف من 4 طوابق، كل طابق به 25 زنزانة، وتكمن غرفة التحقيق في الطابق الثاني، والمكان كله مرتع لشركات أمنية، ومرتزقة من ضباط شرطة ورجال استخبارات مطرودين أو متقاعدين، من دول عديدة من العالم، ويحتكر الأمريكان مهام حراس السجن.

وفي هذا الجحيم فإن مهمة الشركات الأمنية هي انتزاع المعلومات من المعتقل، وتقديمها إلى الجهات الحكومية الأميركية والبريطانية.

أما المترجمون فإن ألطفهم هم البوسنيون، ينطقون العربية الفصحى، طيبون للغاية، يتصرفون بمهنية دون أجندات خارجية على عكس المترجمين العرب، والعراقيين بالذات.

الحال نفسها هي حال الأطباء، أغلبهم يعاملوننا بقسوة، وقلة منهم تتعاطف معنا، وتحاول مداواتنا قدر استطاعتها، حتى إن بعضهم تضامن معنا بعد خروجنا من السجن، وقيامنا برفع دعاوى في أميركا، إلى حد تخلي بعضهم عن وظيفته والإدلاء بشهادته إلى جانبنا أمام القضاء الأميركي.

(3)
حفلة الاستقبال مرعبة، أقضي 5 أيام عاريا، مقيدا في وضعية غير مريحة بباب الزنزانة، يتناوبون علي، يتلذذون بتعذيبي، يضعون رأسي على الأرض، يقومون بتشغيل موسيقى عالية وصاخبة جدا باستخدام مكبرات صوت ضخمة مدة ساعة؛ لكنها تبقى في رأسي اليوم كله.

تتعدد صنوف التعذيب، يستهدفون إرادتنا، يعملون على كسرها بأي طريقة، أسأل نفسي هل يمكن أن يكون هؤلاء بشرا مثلنا؟ كيف لهم أن يفعلوا ذلك؟ من أين أتتهم فكرة حشرنا في صناديق معدنية؟ وتركنا هكذا في وضعية صعبة للغاية، ثم التبول علينا ورمينا بالقاذورات، وتصويب بنادقهم على رؤوسنا، وتجهيز الزناد ثم الصراخ: إعدام، أو وضع أشياء على أعضائنا الخاصة، وإدخال عصا مقشة فينا حتى ننزف دما، وصعقنا بالكهرباء في أماكن حساسة.

(4)
تمر الأيام ثقيلة في سجن أبو غريب، تحسب بالثواني وليس بالأيام، تعودت على طقوس التحقيق، تبدأ قبله بيوم كامل، يحرمونني فيه من النوم والطعام، ويقيدونني بوضع غير مريح، كرفع الأقدام، والوقوف على رؤوس الأصابع.

وعندما يحين الموعد يقتادونني إلى كبير المحققين، ذاك الذي ما إن تراه حتى تشعر أنه أكثر شخص يكرهك في العالم، يجلس بجانبه شخص آخر يبذل جهدا في إقناعك أنه متعاطف معك، وثالث مهمته أن يسجل ويكتب فقط، ولا تخلو جلسات التحقيق من وجود سيدة تقوم بحركات فاضحة، حتى ملابسها فاضحة، وأحيانا كانت تصر على تفتيش المعتقل في أماكن حساسة من جسده بحجة البحث عن وشم أو علامة.

يجري التحقيق عادة معي وأنا مغطى الرأس بكيس، تماما مثل الصورة التي شاهدتموها وأصبحت حديث العالم، وحينما تحين فقرة الكهرباء أشعر كأنها تتخلل جسمي كله، وأن عيني ستقلع من رأسي ويتطاير منها الشرر.

لكن لا مانع من التخلي أحيانا عن طقوس التحقيق، ففي إحدى الليالي، وبعد الهزيع الأول منه، يقتحم الحراس زنزانتي، يغرقونني بماء بارد، يدخل كبير المحققين ومعه عسكري ومترجم، يقول لي “ألم أعدك بإرسالك إلى غوانتنامو؟ أقدم لك كولونيل برادلي، مدير معتقل غوانتنامو، لقد قدم إليكم هنا، وسوف يتعامل معكم بما تعامل به مع المعتقلين في غوانتنامو”.

(4)

أفتخر بنفسي، بقدر ما كان لتعذيبهم من قسوة، بقدر ما قاومتهم ولم أدل بأي معلومة، يكره المحققون القوي منا، يكرهونه أكثر عندما يدركون أنه قاومهم كمحتلين لبلاده، ويحتقرون الضعيف، يحتقرون كل شخص يتوسل إليهم، وفي نهاية الأمر ينال الجميع حصته من التعذيب والأذى.

في هذا اليوم، حيث التقطت لي هذه الصورة، أتعرض لأبشع أنواع التعذيب، أسمع ضحكهم الهستيري، يشتد تنكيلهم بي، أعض على لساني بعنف، يتدفق الدم من فمي، يسيل على صدري، يستدعون الطبيب، يأمرني بالنوم على الأرض، يفتح فمي بمقدم حذائه، يرتدي قفازا أخضر، يمد يده إلى فمي، يرى الجرح، يخبرهم أن الأمر طبيعي، وأن الصعق الكهربائي تسبب فيه، وأن جميع المعتقلين قد مروا بهذه الحالة، ينصحهم بأن يكملوا عملهم.

“لماذا تعارضوننا وتقاوموننا؟ ونحن منحناكم حرية الرأي”، “كنا نبحث عن حرية التعبير؛ لكننا بتنا في معتقلكم هذا نبحث عن حرية التبول”، يدور الحديث سريعا بيني وبين المحقق، عادة لا تستمر جلسات التحقيق طويلا، يعذبونني خلالها، أشعر أنني مشلول، أفقد السيطرة تماما على جسدي، وهي حالة تدوم ما بين 5 دقائق إلى 20 دقيقة، وأؤكد لك أن المرء أثناء التعذيب يصل إلى حالة موت سريري كامل.

يعيدونني إلى زنازينهم، في الأيام العادية لم أكن أستطيع النوم أكثر من ساعتين متواصلتين، وحتى خلال هاتين الساعتين أبقى في حالة تشبه أحلام اليقظة، بين النوم والإفاقة منه.

أفتخر بنفسي، بقدر ما كان لتعذيبهم من قسوة، بقدر ما قاومتهم ولم أدل بأي معلومة، يكره المحققون القوي منا، يكرهونه أكثر عندما يدركون أنه قاومهم كمحتلين لبلاده، ويحتقرون الضعيف، يحتقرون كل شخص يتوسل إليهم، وفي نهاية الأمر ينال الجميع حصته من التعذيب والأذى.

(5)

أقضي في هذا الجحيم 70 يوما، يصر الصليب الأحمر على إطلاق سراح كل من سجلته القوائم الأميركية، وسجلته في القوائم محاربا مصابا، باعتبار أنه أسير حرب، خصوصا بعد أن أعلنت الخارجية الأميركية أن الحرب قد انتهت.

تمر الأيام، تتداخل الأحداث في بلادي، وتتعدد الأطراف، وتتنوع السجون، يتبع بعضها الحكومة العراقية، وأخرى تخضع للقوات الأميركية، ألتقي أهالي معتقلين يحاولون دفع مبالغ مالية حتى ينقل أبناؤهم من سجن يتبع الحكومة العراقية حيث العذاب الأشد، إلى سجن أميركي حيث العذاب أقل شدة.

أقوم بتأسيس جمعية ضحايا سجون الاحتلال، يتوسع عملي، ألتقي معتقلين من كل العالم، وخصوصا من الدول العربية، أصبح على قناعة بأن العنف والتطرف يخرج من زنازين التعذيب والإذلال والإهانة، التي يتعرض لها الإنسان بالسجون.

لكن الطريف، إذا صح أن نقول في هذا الأمر أن هناك ما هو طريف، أن ألتقي معتقلين سابقين من دول عربية، ضمتهم قضية تعارفوا على تسميتها بقضية بنك النقد الدولي، أسألهم متهكما هذا لا يعقل، هل حاولتم سرقة بنك؟ يقولون: لا، إنما الأمر كالآتي:

القروض المخصصة من قبل صندوق النقد الدولي للدول، التي تحارب الإرهاب، هي قروض ميسرة جدا، وللحصول عليها تقوم الدولة، أي دولة من دولنا، باعتقال مجموعة ما بطريقة عشوائية، وغالبا ما يكونون أناسا عاديين، أو طلاب جامعات، وتحت صنوف التعذيب يعترف المعتقلون بأمور لم يرتكبوها، ثم تتقدم الدولة لصندوق النقد بطلب قرض، بناء على ما تدعيه من مقاومة الإرهاب.

أتابع وأنا في مهجري ما يجري في بلدي، بالأحرى ما يجري في بلادنا، حيث الدائرة نفسها من الادعاءات والاتهامات الكاذبة، ثم استباحة الأرض والعرض، ثم الاعتقال والتعذيب، الأبرياء يسمونهم إرهابيين، والإرهابيون يسمونهم دعاة الحرية والديمقراطية، لذا فأنا ما زلت معتقلا.

(6)
أخضع بعد الإفراج عني لـ6 عمليات في اليد اليسرى، لدي كسر في عظمة الترقوة، وإصابة في الركبة تمنعني من القدرة على المشي دون عكازات، أبلغ من العمر 56 عاما؛ لكني لا أستطيع العمل، بل إنني الآن وبعد مرور 15 عاما على هذا الحدث الجلل، ما زلت لا أطيق النوم في الأماكن المغلقة أو المظلمة، تطاردني الذكريات والآلام.

أتذكر دائما ما جرى لي في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2003، حين توقفني القوات الأميركية وأنا في طريقي إلى عملي، يسألونني هل أنت “علي القيسي” أجيب بنعم، فيتم اعتقالي على الفور، وأعرف لاحقا أن القوات الأميركية قد لاحقتني شهرا كاملا؛ لأنني ببساطة قررت أن أكشف للعالم ما يقوم به الجيش الأميركي الغازي في بلادي، كنت أناضل بطرق سلمية من خلال التواصل مع وسائل الإعلام العالمية لكشف الجرائم، التي يرتكبها الاحتلال في العراق.

(7)
أتابع وأنا في مهجري ما يجري في بلدي، بالأحرى ما يجري في بلادنا، حيث الدائرة نفسها من الادعاءات والاتهامات الكاذبة، ثم استباحة الأرض والعرض، ثم الاعتقال والتعذيب، الأبرياء يسمونهم إرهابيين، والإرهابيون يسمونهم دعاة الحرية والديمقراطية، لذا فأنا ما زلت معتقلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى