قراءة في المجموعة القصصية :”أحلام مؤجلة” للقاص لحسن بنيعيش

د. عمر كناوي | ناقد
تعد المجموعة القصصية “أحلام مؤجلة”، أول عمل أدبي للكاتب والقاص لحسن بنيعيش، صدر عن مطبعة رشا برنت. الزيتون مكناس، في طبعته الأولى سنة 2016. وتتألف هذه المجموعة من 14 قصة. تبدأ بقصة “العودة”، وتنتهي بـ”ومضات وتأملات”.

1- حول العدد 14:
مع ورود عدد 14، الذي يشير إلى عدد مجموع القصص، يطرح السؤال التالي:كيف تمكن القاص من الاهتداء، في مجموعته القصصية”أحلام مؤجلة”، إلى تحديد مجموعته القصصية في 14 قصة، دون توقفه على رقم غيره.
وسواء كان الكاتب واعيا بهذا الاختيار العددي أم لا، فإن لهذا الرقم، في المحصلة النهائية، علاقة دلالية ورمزية ب”أحلام مؤجلة”، حيث أضحى الحلم فيها ملجأ الشاعر وكل الهاربين من واقع متدني ومهترئ، تصعب مواجهته و احتواؤه، دون اللجوء إلى الكتابة، كإحدى حيل مغالبته والانتصار عليه كما فعل الكاتب تماما عند الاهتداء لكتابة قصص “أحلام مؤجلة.”.

2- بين بداية الأحلام وتأجيلها:
تبدأ المجموعة القصصية بقصة “العودة”، التي يفترض أن يسبقها فعل الذهاب من نقطة (الراشيدة)، موطن البؤس وتهميش والحرمان، في اتجاه فضاءات مرتقبة من الأحلام والآمال العريضة. إننا مع بداية النهاية، لارتباطها برحلة استباقية تستفز القارئ، وتثير فيه سؤالا متاسلة حول مؤثثات النصوص، سواء في بعدها الزمني أو المكاني، أو على مستوى الشخوص ومجريات الأحداث وسديميتها. سؤالا مفاده: كيف يجوز الحديث عن موضوع العودة دونما إشارة إلى بداية الرحلة؟! وبين البداية والنهاية، أشواط حياة بالغة النكد والتعقيد.يقول في قصة الخيانة،(ص: 99):”كانت البداية تغري بأحلام وردية معسولة، وبحياة ملؤها الحب والحنان والمودة والسكن والرحمة”
إن لهذا النوع من الاستباق النصي، علاقة بتقنية من تقنيات الكتابة السردية، قد نسمى بداية النهاية، أو نهاية البداية. وهي تقنية في الكتابة، لجأ إليها مبدعون كثيرون ممن كتبوا في مجال السرد القصصي. كما فعل نجيب محفوظ في رواية “اللص والكلاب”، عندما أعلن في مستهل روايته عن خروج سعيد مهران من السج ، دون أي يدرك المتلقي أسباب الدخول، ومسببات دخول البطل إلى السجن والحكم الصادر في حقه. ومن شأن هذه التقنية أن تثير فضول القراء، فتدفعهم دفعا إلى السؤال والتساؤل، وتشعرهم بمسؤولية المشاركة في بناء النص.

3- حول مصطلح الأحلام :أنواعها،أبعادها،وظائفها:

ونحن نقارب المجموعة القصصية “أحلام مؤجلة”، وجب تحديد مفهوم الحلم وأنواعه ووظائفه وأبعاده الدلالية.
إن الحلم، سواء تعلق بحلم المنام، كما ورد في “تفسير الأحلام”(1899) لفيردناند دي سوسير، أو حلم اليقظة كما في “أحلام اليقظة”(…) لكاستون باشلار، يعد مدخلا من مداخل الكشف عن مكبوتات اللاشعور. والحلمان معا، يشكلان مجموعة من التخيلات التي تنتاب الإنسان أثناء نومه أو يقظته، فتساعده على تحرير مكبوتاته، وحل مشاكل حياته اليومية. ذلك أن الأحلام لن تكون إلا نتيجة لصراع نفسي بين رغبات الإنسان وصعوبة، بل واستحالة تحققها.
أما حلم الكتابة، فلن يكون إلا وسيلة يلجأ إليها الإنسان المقهور، والنفس البشرية، المغلوبة على أمرها، الميالة إلى معانقة الحرية، والجائعة لتحقيق الشبع، خاصة النفس التي يصعب إشباعها في الواقع. وهذا شأن الكاتب لحسن بنيعيش الذي حالت الظروف النفسية والاجتماعية دون تحقيق أحلامه في الشغل، وفي إشباع حلمه العاطفي كما في علاقته بزينب أو ما ورد في قصة “فاطمة الزهراء ورحلة النسيان”، وحلم أكبر يروم إنتشال مدينته الراشدية وأخواتها من واقع التهميش الكساد الاقتصادي والاجتماعي. فإذا كان لكاتب يجنح إلى ركوب مغامرة الحلم بأنواعه، إنما يسعى إلى تحرير نفسه من قيود الرقابة وعيون العسس، والانعتاق من مختلف مثبطات واقع بوذنيب. ولن يتحقق ذلك إلا بالكتابة، وتفك الأغلال وترفع القيود عن صاحبها. وتكسبه القدرة على فك الأغلال والتغلب على أحمال الواقع وتوالي خيباته. فأن يجد الأنسان نفسه كاتب، فكأنما يمارس طقوسا تعبدية، غاية في التأمل والتضرع، وارتقاء بالمبدع إلى عالم حالم يحرر نفسه والناس أجمعين من براثن الواقع وطابوهاته.
يقول غاستون باشلار في حديثه عن كوجيتو الحالم: “إذا كان الحلم ينزل إلى عمق كبير في أودية الكينونة السحيقة.. فإنه يحتفظ دوما، في كل مرة، بمعان اجتماعية” ( غاستون باشلار. شاعرية أحلام اليقظة. الطبعة الثانية 1993. ترجمة جورج سعد.المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت. ص: 127). يقول الكاتب عن لحظة الكتابة وفضلها: “من بحر المواجع، ومن خلف ضباب الهموم الممتدة، أعانق القلم لأسافر على جسر الكلمة الخائفة مني..”(ص :98.من قصة/ متاهات)
وأمام واقع الراشيدية، وسوداوية أحوال بوذنيب، سيقرر الكاتب السفر دونما استئذان، ودونما حاجة إلى رفيق، عله يحقق بعضا من أحلامه قبل أن يؤجلها. يقول في الغلاف الخلفي، مكررا ما جاء في ص: 37، ومعبرا في نصحه بالحرف والصورة “سافر وحيدا ولا تحاول أن تلتفت أبدا إلى الوراء”(أحلام مؤجلة.ص: 37). لتبقى رحلة الحلم ممتدة في الزمان والمكان، ويبقى القلم سيالا في طلبها، على امتداد مدينة الراشدية المنكوبة، وبوذنيب والريش والريصاني، فمحج إيملشيل وسجن تازممارت، ثم تاونات وفاس ومكناس، وصولا إلى بغداد والفلوجة، وسجن”أبو غريب” وفلسطين وسوريا وليبيا..إلخ. إنها فصول من رحلة العذاب في زمن عربي موبوء، يطبعه الغبش والتيه والعبث، وهي رحلة شبيهة، إلى حد كبير، برحلة العذاب التي استشعرها غالي شكري في كتاب :” الرواية العربية في رحلة العذاب” (1971)، أو رحلة تقترب قليلا او كثيرا من “رحلة الصيف والشتاء” لمحمد إدارغة، أورحلة “حلم سما بي”(2011) للشاعرة فاطمة الزهراء الخمليشي”، ف”أحلام مؤجلة” هذه، وغيرها من رحلات المآسي التي امتلأت بها الكتابات الشعرية والسردية العربية، مع تفاوت في الرؤى والتناول.
إلا أن ما يميز “أحلام مؤجلة”، هو شعور صاحبها بالوحدة المدمرة، وخيبة الأمل المروعة، منذ فضاءات الصبارات والصبار، كمايؤسس لذلك خطاب الإهداء، المشفوع بالصبر:” إلى أمي، وأبي العزيز إجلالا لمدرسة الصبر، والأخلاق المثالية الرفيعة”(أحلام مؤجلة.ص: 7)، حتى فضاءات عربية أوسع. لتبقى جروح رحلة الكتابة مفتوحة على امتداد الوطن العربي من المحيط ممثلا في واقع مغربي مترهل لا يقبل المهادنة، إلى الخليج بعد تقسيم الخليج واحتلال فلسطين وغزو العراق..)
في واقع عربي هذه مواصفاته، لا يمكن للأحلام إلا أن تكون مؤجلة “في انتظار حلم قد لا يتحقق”( أحلام مؤجلة.ص: 58)
ومما يؤكد هذه الأوضاع الملتهبة،
مجموعة من المخرجات النصية، التي تشهد مؤشراتها على الانهزامية وخيبة الأمل:
أ – مؤشرات الخيبة:
تمتد “أحلام مؤجلة”، في الزمان والمكان، واحدا ومائة صفحة ( 101 صفحة).
ومن تمظهراتها النصية:
– مأساة “الحراكة”، ضحايا قوارب الموت “، التي يعلل الكاتب سر مغامراتهم بقوله: “هم دفعهم الجوع والأمل بالوصول إلى أوربا.. ذلك الحلم المؤجل باستمرار.( ص: 31)
– “تبخرت الأحلام في سماء الضياع”( ص: 11)
-“السماء لم تمطر أمس وربما لن تمطر”(ص: 95)
– “هرع إلى المخدع الهاتفي ركب الأرقام دون جدوى”(ص: 45)
– “حتى الأفكار التي كنت أحلم بها أصبحت تتهاوى فوق رأسي كأوراق الخريف فلا العمل ولا المال ولا الاستقرار تحقق حتى الزواج بات مؤجلا باستمرار”( ص: 58)

وينتهي مصير السارد، ملتاعا، حين يعلن عن موت الحلم بقوله:
-“مات كل شيء، ضاعت الوردة والياسمين وسقطت أعمدة الخيمة وماتت الابتسامة”(ص:95)
– “رحلة الشقاء ممتدة أمامك، وأحزانك مترامية في كل جانب وسفرك اليوم طويل”(حديد).( أحلام مؤجلة. ص: 90)
– “لم يعد للحياة معنى”(ص: 93)
في خضم هذه الآفاق المظلمة، وهذه الحياة التعيسة، سيفتقر الحالم إلى كل أمل يرتجى، فيؤجل أحلامه، معلنا عن بداية تفاؤل حذر، يمزج فيه، بلغة شعرية حالمة، بين الألم والأمل. يقول في مونولوج داخلي:”أنت تعيش فرحة ممزوجة بألم لذيذ وتتمتع بأحلام اللقاء”(ص: 46)، اللقاء الذي ترتسم معالمه في “المدينة الجديدة كفضاء أوسع وأرحب لانطلاقة جديدة.. لاستقبال الحياة بدم جديد” (ص: 97. بتصرف).

إن أي واقع يراهن على هضم الحقوق ووأد الأحلام، لن ينعم أبدا بالاستقرار. يقول الكاتب، متسائلا في استغراب شديد اللهجة، عن مصير الضحايا والمظلومين ممن هم هنا وهناك وهنالك: “أيعقل أن يعدم الأبرياء وتخضب بدمائهم يد الجلاد الظالم”؟! (ص: 94).
ب- مؤشرات الأمل :
في خضم هذه الآفاق المظلمة، وتوالي الإحباطات وفقدان الأمل، تبدو هذه المؤشرات أقل حضورا وأبعد ما يكون عن الانفراج، مما استدعى الإعلان عن بداية تفاؤل حذر، يمتزج فيه الألم بالأمل، عبر عنهما الكاتب بصيغ شتى:
– بضمير الأنا، معلنا عن كرهه للصمت: “أكره الصمت حين يصير مؤامرة ضد الفرح”(أحلام مؤجلة.ص: 100)
– بضمير الغائب وبلغة شعرية حالمة:
– “أنت تعيش فرحة ممزوجة بألم لذيذ وتتمتع بأحلام اللقاء”
(ص: 46).
– كانت البداية تغري بأحلام وردية معسولة، وبحياة سعيدة ملؤها الحب والحنان والمودة والرحمة..(ص: 99)
– بضمير النحن:
“ننتقل من محطة إلى أخرى، نرحل بأحزاننا وهمومنا نجعل الطموح نصب أعيننا في كون المحطة الآتية أحسن من التي مضت”( أحلام مؤجلة. ص: 96)
وأمام هذا التباين الصارخ بين الأمل والخيبة، بين البداية والنهاية، تبقى المشاعر موزعة بين الفرحة والألم( وأنت تعيش فرحة ممزوجة بألم لذيذ” (ص: 46)، وبين ترقب الاستمتاع بلذاذة هذه الأحلام، التي سرعان ما تؤجل في انتظار الذي يأتي ولا يأتي.

ومما يؤشر على تأجيل الأحلام أو تبديدها، ما يحيل عليه منظر الغروب (لوحة الغلاف) في تشكلها وتأمل القابع أمامها، في علاقتها بصورة الكاتب الخلفية. فهما معا تشكلان بداية النهاية أو نهاية البداية. وتجسدان مشهدا وجوديا مختلا ومحيرا، يبعث على وجود اختلال في حياة الكاتب، وخيبته وتحسره على تأجيل أحلامه.

والآن، وبعد هذه الرحلة الطويلة من المكابدة والعناء، والرغبة في التحول والتغيير، هلا أمكن القول بالانفراج، بعد أن سدت في وجهه كل الآمال ، وأجلت كل الأحلام كما جاء في قوله بص:58 حين قال: “حتى الأفكار التي كنت أحلم بها أصبحت تتهاوى فوق رأسي كاوراق الخريف فلا العمل ولا المال ولا الاستقرار تحقق حتى الزواج بات مؤجلا باستمرار”(ص: 58)
وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن مجموعة “أحلام مؤجلة”، للقاص لحسن بنيعيش، جديرة بالقراءة والإمتاع، لما وفرته للقارئ من أبعاد دلالية ونقدية، وما تضمنته من شعرية آسرة.
بعد هذه الرحلة الماتعة، نتساءل: هل بقي من مشروع القاص لحسن بنيعيش “أحلام مؤجلة” ما يسمح بالتحقق؟

تنويه نقدي

^^قدمنا هذه الورقة النقدية، بمناسبة مشاركتنا في الاحتفاء الخاص بالقاص لحسن بنيعيش، وذلك يوم : 2022. 5 .28 بثانوية علال الفاسي الإعدادية/ نيابة مكناس.

^^الحديث عن اللغة العامية ودورها في الفن القصصي.
^^ وعن التناص ودوره في “أحلام مؤجلة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى