تجاعيد الماء (13)

(صدقين)

سوسن صالحة أحمد| كاتبة وشاعرة سورية تقيم في كندا

على مقربة صدقين مني، أسير بروح مرتبكة، تنتعل دعاء الغفران، صدقٌ أحتفظ به لنفسي لأكون أنا، وصدقٌ ما بيني وبين نفسي، أيضًا لأكون أنا.
مرتبكة هي الروح ما بيني وبيني، وابتهالاتي وصلاتي لا تجيد فن مراوغتها ولا رفع الدعاء إليها، ولا أراها تستجيب إلا لإرادتها.
في حِصني القديم، بعض أوراق رميتها عمدًا، كان لابد من إهمالها وحتى نسيانها بكل ما فيها من خطوط رُسِمَت بألوان أشتهيها، ولوحات ابتكرتها مُخيلتي الأنثى، أطرتها بضفائر لقصائد لم تأتِ على سمعها رغم طربها بها، وليبقى ذلك الحِصن منيعًا، وضعتها بعيدًا عن النظر، في زاوية لاتصل إليها شمس، ولا يسطع عليها ضوء قمر.
اعتقدت الصندوق قد تلف من غبار تراكم عليه بفعل نسيان مقصود، ما دريت أن الأشياء حتى لو كانت منسيةً تنطقُ حينَ تُسْتَنْطق، والغبار حينَ تأتيه ريح عاتية لابُد يتطاير ويتبعثر، يستسلم الصندوق لمفتاح الدهشة والحضور الأنيق حينَ يلامس قفله حتّى أدق تفاصيله.
خلتُ أن الأوراق واللوحات عادت لمعرض الحياة من جديد، بصدق ما تركته ولا تركني، أتى على حجم صدق أحلامي قبل رمي أوراقها في ذلك الصندوق.
عجبتُ من نفسي، كيف أجلت كل تلك الأحلام! ؟ وقد رأيتُ ألوانًا ممزوجة ببعضٍ من حياةٍ غائبةٍ، حياة أعطت معنىً فريدًا غريبًا وطيبًا للحياة، أجلتها حينَ كان لابد من تأجيلها، فأحلام الكبار دومًا مؤجلة حينَ يكون في تحقيقها احتمال هدمٍ لأحلام الطفولة الناعمة، ليس لأنّ فيها هدمٌ فعلا، بل لأنّ المتعارف عليه بات يرى هكذا حتّى ولو لم يكن، حتى ولو كان العكس هو الصحيح، لكن هيهات أن نفارق ما امتزج بنا وامتزجنا به، لنكون، نحن نحن ما نريد.
ما همني عودة الغُبار على الصندوق الذي أغلقته على أوراقي من جديد وأضفت إليها أوراقًا أخرى هي عهد ووعد( أضحك حينَ أذكر هاتين الكلمتين)، عهد للصدق الذي أحتفظ به لنفسي، ووعد للصدق الذي بيني وبين نفسي.
ما همني أن يعيش في زوايا العتم والنسيان المقصود وبشدة أكبر من سابقتها، فعتو الريح لن يقف في طريقه شيئا، والنور حين يكون مصدره حراً، سيمنح الحرية لكل ما يقع عليه.
هي روحي لا تهدأ، لا تجد خطوًا نحو نسيان النطق بما صمتت عنه سنين طوال، وهي تجرمني وتقتل على لساني باقي الكلمات.
أكانت خطيئتي؟ !
أم خطيئة الريح التي أتت على أرضٍ ما عاينت الهبوب من قبل؟ !
أم خطيئتنا معًا؟ !
ربما هي خطيئة الصمتِ؟ !
أو، هل هي أصلا خطيئة؟ !
أفكار تأتي على صبر أنايَ فتُحيله إلى سخط على ذاتٍ هي ذاتي
هل هناكَ أحلام مشروعة وأحلام بموجب التحريم؟ !
أعلم أن الإجابة ليست مُستعصية، هناك أحلام يُشرَّعُ تحقيقها وأخرى يُحَرَّمُ تحقيقها، وما بين المشرع والمحرم تصرخ الأنا في جدلية كينونتها، تهد النفس وتربكها في برمجة الحياة الاجتماعية وحكم العادة والمتعارف عليه والواجب والفرض وما يلزم وما لا يلزم، وما بين يصير ولا يصير، يصح ولا يصح. .
وبين ما يليق وما لا يليق تضيع الفطرة.
والمهم في هذا كله، والمجتمع وفرضياته للهدم والبناء، أن تلك العصافير الصغيرة مهما كبرت وقويت أجنحتها ستبقى تعود لعشها الذي أعانها على الطيران ومنه كانت خفقتها الأولى حتى استقامت أجنحتها، ولها أن تجد في كل عودة من يرضى أن تتكسر أجنحته ليحتفظ لها بقدرة الطيران في فضاء اعتاد هكذا الصورة وما اعترف بالتغيير ولا التغير في ألوان ظلمًا مزجها حتى ابيضت، فقدت حقيقتها وحملت قيمة ليست هي، هكذا نعتقد أن ( تلك العصافير) ستستمر لتحقق أحلامها بالوصول إلى فضاءات ملونة ما استطاع الكبار الوصول إليها، دون شرط أن تتطابق الأحلام في كنهها.
ما بيني وبيني ترتبك روحي، أحتاجني جدًا لأنسى ماءً أتى على عطشي المنسي بغفلةٍ مني، وما كنتُ أبحث عنه، أحتاجني لأسامح نفسي في بيان الصدقين فيها، العطش شعور، ومن منا يبقى ريانًا؟ !
أحتاجني أكثر لأعودَ لي، لأستطيع البقاء كما اعتادوني لهم، لهم وحدهم ولو دوني.
سأشرب نصف الكأس على عطشين، وأعتذر لهم ومني لأني انحنيت لريحٍ كاذبة، وما كذبت، وأنا لا أميز بين الصدق والكذب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى