أفكار أولية عن الحُب

زكريا كردي باحث في الفلسفة | سوري مقيم في امستردام

قد يكتب الرجل عن الحب كتابا، ومع ذلك لا يستطيع أن يعبر عنه، ولكن كلمة عن الحب من المرأة تكفي لذلك كله . .”فيكتور هوجو”

– إنها المرة الثانية التي أجدُ في نفسي توقاً عارماً، كي أكتب عن “الحبْ .. وأحاول أن أقارب معناه، بأفكار أولية بسيطة، هي أقرب ما تكون الى حديث الذات عن نفسها.

رغم أني ما زلت أؤمن جيدا، بأن العقل الحصيف وجب عليه التهيّب من الخوض في هكذا مواضيع وجدانية، ذاتية، أنسانية خالصة.. كموضوع الحبْ.. وأن يتجنب تماماً اصدار أحكام العلم اليقين حولها.

يُخيل إليَّ أحياناً ان الحديث عن الحب ومحاولة فهمه ، أشبه ما يكون بمحاولة “عقل اللامعقول .. يقع الفهم فيها بمجرد أن يسأل المرء نفسه : ما هو الحب ..؟َ!

ما أعرفه جيداً، أنّ الحب – غالباً – ما يظهرنا بلبوس جنون العظمة ، ويعزز فينا رغبة التملك ، أو يفاقم نرجسيتنا..!! إلى درجة مؤذية. .

لكن مع ذلك نحن ندرك جيداً أيضاً ، أننا قد نفقد انسانيتنا تماماً، وتغيب ذواتنا الحيّة كليا عن حضن الوجود الحقيقي، اذا ما ابتعدنا عن نبضات ” الحب .. فهو السحر الوحيد الذي يعيدنا أطفالاً ..ويجعلنا حقيقيين ، وصادقين لفترات قصيرة للغاية.

ما أخاله الآن – بنزق الحائر وعجل العاشق – أن الحب لا يوجد لذاته وحسب ، وهو ليس بكافٍ عبده ، بل ظني هو أشبه ما يكون بنقطة المركز في دائرة وجود الإنسان ككل .. ليفيض فؤاد الإنسان إثر ذلك حياة وشغف ووجود حقيقي… وإلا .. دونه الفناء..

ولكن ما هو هذا الشعور الفريد الذي يُلوّن فينا كل مواضيع البصر من جديد؟

وما هي ماهية ذاك الإحساس العميق الذي يُعيد في أفهامنا صياغة الاهتمامات ، ويوزع الأولويات في مرامي البصيرة ..؟

أعتقد سوف ندرك أبعاد الإشكالية في الإجابة على ذاك السؤال الغامض، إذا ما عرفنا أن الإجابة على هذا السؤال بالتحديد ، لابدَّ وان يكون للعاطفة القول الفصل فيها ،

وأنه لن يكون لها أية قيمة معرفية – اي الإجابة – إذا لم تتضمن إنصاتاً جيدا وتصويرا حقيقيا وصادقا ، لما تجود به قريحة العاطفة المُجيبة، أو يُصوره بوح الوجدان في أعماق العاشق ..

علماً أن هذه الحقائق التي تقدمها العواطف ما هي إلا حالات ذهنية شعورية ، لا يمكن أن تخضع إلى سلطات العقل أو حدود المنطق التام ، أو جلاء الإفصاح والتعبير العلمي الدقيق..

دون أن تفقد الكثير من كينونتها أو من جوهرها..أو من بهاء سرّها وجاذبيتها وسموها ..

من أكثر الحقائق التي لا يريد أحداً من العشاق ان يصدقها هي أن الحب لا يدوم ..

نعم ، انها الحقيقة التي يدركها الانسان .. لكن لا يطيق أن يُصدقها ..

تماماً كما انه يدرك حقيقة، إن الموت سيطال كل إنسان لكن لا يريد أن يصدق أنه سيطال أحباءه يوماً ما ..

أجل ..الحب ليس خالداً ..وليس هناك نار حب ، أو شمس محبة تدوم حرارتها للأبد، ولن تبقى.. طوال العمر كما هي كما يتغنى بها الشعراء والغاوون ..

لأنّ جسر الحب – في اعتقادي – فعالية مُتجددة .. لعاطفة نشطة.. وصلت بين ضفتين على الأقل ..

لكن – وللحق – الحب لا يمكنه أن يبقى للأبد ، لأنه يتطلب دائماً.. رائحة جديدة وعمر جديد ولغة جديدة، وفيوض خرافية من المشاعر الصادقة والمقبولة على الدوام .. الخ

وهي قدرات لا يمتلكها الإنسان إلا في جنان الوهم، كما أنها أمور لا تحظى بها سوى الآلهة التي تسكن أولمب الخيال…وحسب.

وكما هو معلوم فقد وضع العرب للحب أسماء كثيرة منها: المحبّة، والهوى، والصبوة، والشغف، والوجد، والعشق، والنجوى، والشوق والوصب والاستكانة، والود والخُلّة والغرام والهُيام

وعرّف الأقدمون الحب.. بالميل وبالإرادة المخصوصة وبالإيثار؛ ورأوا المحبّة بالشّهوة والميل ورّغبة النّفس.. على حد تعبير الفيلسوف الرازي

ويحسب الويكيبيديا جاء في المعاجم الفلسفيّة أنّ الحبّ (وهو في الفرنسية: Amour، وفي الإنجليزية Love، وفي اللاتينية Amor)، له معنيان:

معنى خاص : وهو أن الحبّ عاطفة تجذب شخصاً نحو شخص من الجنس الآخر، فمصدرها الأوّل الميل الجنسي. معنى عام: و هو أنّ الحبّ عاطفة يؤدّي تنشيطها إلى نوع من أنواع اللذّة، ماديّة كانت أو معنويّة

. والحب هو الميل إلى الشيء السار، والغرض منه إرضاء الحاجات الماديّة أو الروحيّة، وهو مترتّب على تخيّل كمال في الشيء السار أو النافع يفضي إلى انجذاب الإرادة إليه، كمحبّة العاشق لمعشوقه،

أما في العصر الحديث – وحسب فهمي – فقد تجاوزت أفكار عالم النفس الاجتماعي المرموق إريك فروم

أفكار عالم النفس الطبيب فرويد ، الذي أقام الحب على أساس الدافعية الفردية، والحاجة النفسية لإشباعه، ومن ثم الارتباط الوثيق بالدافع الجنسي، مؤكدا – أي فروم – أن جذور الحب تكمن في الحاجة إلى الانتماء.

ويؤكد إريك فروم في كتابه ” فن الحب “، أن ماهية الحب هي الرغبة للاندماج مع شخص آخر ، وهي أشد عواطفه جوهرية، بل أنها القوة التي تبقي الجنس البشري متماسكا ،وكذلك القبيلة والأسرة والمجتمع، والفشل في تحقيق هذا الاندماج يعني الجنون والدمار للذات أو الدمار للآخرين، بدون حب ما كان يمكن للإنسانية أن توجد يوما واحدا .

وبحسب اعتقادي، فأن الحديث عن فهم سلوك الحب وحقيقته، أو إدراك كنه الشعور بالرغبة والميل بين اثنين، لهو أمر شائك وبالغ الصعوبة، ويبقى صدق المقال مرهون بتلمس التجربة الذاتية، لأي باحث أو كاتب في هذا الشأن الوجداني العميق والمعقد ..

الجِديّة المفرطة والبُعد الطوعي هما مَقتلة الحب، أما الصمت في حضور المحبوب فهو المكان الأمثل لبزوغ الخيال واشتداد فاعليته في إيقاظ جنون الرغبة في أعماقنا الدفينة، والخيال يتيح لنا خداع الذات بشكل رضي، وتزداد خصوبته أكثر، كُلّما كان الشريك ذا حيوية غير مفهومة، أو ذا تصرفات لا منطقية

.. وأما الإصرار على معرفة حقيقة الطرف الآخر، والانشغال بإكتشاف أعماقه بدقة، أما لغاية إرضائه أو لرغبة في السيطرة عليه، وانصراف المُحب عن أن يلتمس الحب خارج حدود ذاته ، يعتبر برأي السبب الأبرز الذي يُبعد المحبوب عنا ..

إن محاولة الحبيب رسم الحدود لموضوع الحب أو تأطيره، إنما يفتّتُ من غلوائه، ويجعله عُرضة للاستلاب التام من قِبلِ المحبوب..

صفوة القول :

من الطبيعي جداَ أن ينتهي الحب، لأن القلوب تتغير وتميل وفقاً للأهواء والاتجاهات ذات النشاط الانفعالي، ولأن جدول الرغبات للكائن الحي مرتبط بمجرى الواقع الذي لا يتوقف ولا يثبت على حال ..

لكن من المؤلم أن نعلم أن نهايات الحب تعيدنا القهقرى إلى وحدتنا القاسية، والعودة إلى معايشة برودة الحقيقة، ويباس الواقع، وكبو للفاعلية الإنسانية..

في النهاية، وأياً كان ذاك الوهم أو الخيال أو الشعور باللذة، يبقى الحب هو العَناءُ الوحيد للبرهنة على الوعي الحي ، الذي يَستحق منا دوماً المحاولة فيه ، و هو الظل الضروري الذي يُعيد إلى النفس الإنسانية توازنها المفقود في هذه الحياة ..

وللحديث بقية ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى