عن الفن والتطبيع والضرورة الإنسانية والوطنية

خالد جمعة | فلسطين

المثقف أو الفنان عليه أن يعرف الحقيقة دائما، حتى وإن لم يستطع أن يقف في وجه الخطأ، فعلى الأقل عليه أن يظل محتفظا ومتمسكا بمعرفته للحقيقة، على الأخص الحقيقة الوطنية.

فيما يتعلق بالفن، وعلاقته بالحياة، فإن الفن نشأ كضرورة ضد الفناء، كي يستطيع الإنسان، حتى حين كان يسكن الكهوف، أن يفهم الحياة، ويخلد ذاته ومشاعره التي لم تكن تحيط بها اللغة، ومهما اختلفت أساليب وطرق الفن عبر التاريخ، إلا أنها في المجمل العام بقيت تدافع عن الحق مقابل الباطل، عن الجمال مقابل القبح، عن التسامح مقابل الضغينة، عن الحياة مقابل الموت.

يمكن للسياسي أن يناور، أن يخون، أن يستسلم، أن يبرر ما يفعله تحت مظلة المصالح القومية أو الاقتصادية أو حتى الشخصية، وهذا السياسي عادة ما يكون ديكتاتورا يفرض رأيه بالقوة العسكرية والأمنية على معارضيه، أما حين يتعلق الأمر بالفن، فإن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يلعب الفن في ملعب السياسة المصلحية، ويصبح نصيراً لها بالمعنى البراغماتي للكلمة، وخصوصاً إذا كان الفنان الذي يقوم بهذا العمل يتمتع بشعبية وجماهيرية ترى فيه نموذجا يمكن أن يحتذى به.

لا تتعلق المسألة تحديداً بحسين الجسمي، أو بالمغني الذي تجرأ وغنى “خذني زيارة لتل أبيب”، بل تتعلق بروح الفن ووظيفته السامية في الحياة، فلو وضعنا الإسلام والعروبة جانباً، ولو وضعنا حتى الشعب الفلسطيني كله بعذاباته جانباً، ولم نذكر المجازر وهدم البيوت والاعتقالات ومصادرة الأراضي والتحكم في الاقتصاد ولقمة العيش والحركة… إلخ، ولو غضضنا الطرف عن لبنان واحتلال أجزاء منها من قبل إسرائيل، وقصف إسرائيل لمحطات الكهرباء والمنشآت الحيوية خلال اعتداءاتها على لبنان، ونسينا قصف إسرائيل للمفاعل العراقي عام 1981، واغتيالها لعلماء مصريين وعراقيين، واغتيالها لقادة عرب وفلسطينيين ولبنانيين، وتزويرها الواضح للتاريخ القريب والبعيد، لو تجاوزنا كل هذا، ألا يرى هؤلاء الفنانون الطبيعة العنصرية لهذه الدولة التي تدعي أنها دولة متقدمة وتتمسك بأسطورة الوعد الإلهي في كتاب تمت صياغته بالاعتماد على الأساطير البابلية والسامرية بعد وفاة نبيهم بأكثر من عشرة قرون؟

ماذا قدمت إسرائيل للإمارات في أقل من شهر على توقيع الاتفاق المهين حتى تصل المسألة إلى الفن؟ إلى مقالات عن السينما الإسرائيلية والغناء الإسرائيلي، والتغني بجمال المدن التي أقيمت على أنقاض قرى أبي وجدي وأعمامي؟ ما هي النقطة الحرجة التي تحولت فيها إسرائيل من عدو إلى صديق، بل إلى دولة حبيبة يتم التغني بها كما تغنى قيس بليلى، بل قد تفوق فن الإمارات على قيس من نواح عدة، فأين يكمن سر هذا التحول؟

من آمن بالله وباليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، فإذا لم تكن قادرا على مقاومة ما يحدث في بلادك، فعلى الأقل لا تساهم فيه، أما مساهمتك فيه فهذا لا يحمل إلا معنى واحدا: أنك جزء من هذا المشروع الذي تقام أعمدته على عظام الشهداء الفلسطينيين واللبنانيين والسورييين والمصريين والسعودييين والعراقيين الذين استشهدوا في سبيل فلسطين منذ عام 1948 إلى اليوم، ومعناه أنك بلا بوصله توجه فنك نحو الحق والعدل والخير والجمال، فقد يتغير مفهوم القيم بين زمن وآخر، لكن القيمة نفسها لا تتغير، فمهما تغيرت المفاهيم، فلن يكون من يطلق النار على طفل ويرديه قتيلا إلا قاتلا، وليس مشهد محمد الدرة بعيدا حتى ننسى أو تنسوا.

لقد كتب نقاد كثيرون ضد عبد الحليم حافظ لأنه غنى لجمال عبد الناصر وللثورة في مصر، هذا وعبد الحليم يغني لرئيس بلده ولثورة في بلده، وإن كان مع من كتبوا بعض الحق، فكيف يمكن تقييم من يغني لأعداء كانوا بالأمس مصنفين من قبل من يغنون لهم اليوم بأنهم عنصريون وفاشيون وقتلة؟

بئس الفن الذي لا يقف مع العدالة والحق والخير والجمال، بئس الفن الذي يغني بغير لغة الضمير والمسؤولية الأخلاقية تجاه الأحداث، بئس الفن الذي يقلب الحقائق ويحول مجرماً وسارقاً للأراضي والتراث والموسيقى والأزياء والأكلات والمواقع التراثية، يحوله إلى صديق لا يقدم له الاقتصاد على طبق من ذهب فحسب، بل يدخله إلى روحه بالغناء عنه ومعه ولأجله.

نحن الفلسطينيون نكذب إذا قلنا إننا لسنا حزينين مما يحدث، إننا نعتصر ألماً، وينتابنا شعور بأننا متروكون في العراء أمام هجمة الغول الذي برأس أمريكي وذراعين إسرائيليين وأقدام عربية وقلب أوروبي…

لقد خُذلنا كثيرا من قبل، خذلنا حين حاربنا القوة العاتية لإسرائيل في عام 1982 دون أن نسمع صوتا عربيا واحدا لثمانين يوما، خذلنا في اعتداءات إسرائيل على غزة وعلى جنين وعلى الخليل ورام الله وبيت لحم، لكن هذا كله كوم، وأن يقوم الفن بخيانتنا والتخلي عنا، كوم آخر، لأننا كنا دائما نلوم الأنظمة العربية التي لم يساندها الفن بعد أن وقعت معاهدات سلام مع إسرائيل، فلم تغن مصر لإسرائيل، ولم تفعل الأردن ذلك، ولم يرد في أدبيات كلا البلدين ما يعبر عن حب إسرائيل والتسامح مع ما تفعله بالشعب الفلسطيني، أما ما حدث خلال أقل من شهر مع فنانين من الإمارات، فهذا ليس عارا فقط، بل هو التحول الواضح من الجانب الإنساني والأخلاقي، إلى الجانب الذي لا يحفل بعذابات البشرية ولا بالظلم الواقع عليها، ليس في فلسطين وحدها، بل في أي مكان في العالم، لأن من يفقد الإحساس بالظلم في مكان، لن يستعيده في مكان آخر حتى آخر الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى