تجليات الذات الراثية في مجموعة:الخلاص إلى مشارف الحناء للشاعر الدكتور رعد البصري
د. أمل سلمان | ناقدة وأكاديمية عراقية
شاعر من البصرة الفيحاء، مدينة الحناء يرنو صوب الخلاص إلى مشارف الحناء،بعدما يأس من الوصول إليها، وشتان ما بين الخلاص والوصول ،في صورانزياحية بديعة يضعنا الشاعر رعد البصري في مجموعته المعنونة، بـ(لخلاص إلى مشارف الحناء)، الصادرة عن دار أفاتار للطباعة والنشر في القاهرة سنة ٢٠٢٢م ، أمام رحلة في رثاء الذات من خلال رثاء الآخر أولا،وتقلبات هذه الذات وطموحاتها المكبوته ثانيا ،محاولا ايجاد فسحة أمل ومدينة مترعة بالأخضرار تحتضنه ترتاح النفس بها من حمولتها التي أرهقتها بعد مسيرة كدٍ وعناءٍ، فقدَ فيها ما فقد، الوطن والأهل والحبيبة،وهو بهذا يعيد إحياء غرض الرثاء، هذا الغرض الشعري القديم الذي ناله التهميش والإقصاء بسبب من ميله نحو العاطفة المصطنعة والبكاء البارد، إلا أن البصري، صاغ منه صورا تفيض عاطفة وصدقا وأجرى دمعة حرّى كيف لا ، وهو يرثي الوالد والأم والوطن والمدينة والحبيبة الغائبة، وقد أجاد في ذلك بفضل ما يمتلكه من موهبة شعرية فذة، زيادة على إمكانات علمية ومعرفية ونقدية، فرفع قدر المبنى وزاد شرف المعنى، يقوّي عضد شاعريته معرفته بالأوزان “شاعرا” وبنقد الشعر أكاديميا مثلما وصفه الأستاذ الدكتور صبحي ناصر حسين،وقد ساعده كل ذلك على الانفلات من اللغة المباشرة وترهلها إلى الاختيار الموفق التي تجسّد المعنى وترمي إلى دلالات الإمساك بسماتها الجمالية وربُّما كانت مراثيه هي الملمح الأسلوبي الأبرز في هذه المدونة وهذا لا يعني بالضرورة أنّها خلتْ من اغراض أخرى ، إذ نجد نصه المعنون ب )أحصي جمالك (، يعارض فيها قصيدة الشاعر الحصريّ القيروانيّ التي مطلعها:
يا ليلُ الصبّ متى غده
أقيام الساعة موعده ؟
يقول البصري معارضا :
يا ليلُ الصبّ أتى غده
كالأمس يذوبُ توردُهُ
ونجد في هذه المدونة قصيدته في مدح الإمام علي )ع ( وغيرها،من النصوص التي لم تكتسب طابع الرثاء .
يرسم البصري في مراثيه صورة للذات الفاقدة وهو يسجل اغترابات روحه حيث يداهمه اليأس والوحدة والفقد فيحيل ذاته إلى نص مرئي يستطيع المتلقي النفاذ إليه وكشفه أو التمرئي فيه بحسب ما أشار إلى ذلك الناقد الدكتور سمير الخليل وهو يقدم هذه المجموعة ، وقد جاءت مراثيه في هذه المدونة على مستويين:
الأول: رثاء الذات من خلال رثاء الآخر ، المتمثل في الأب والأم والوطن والمدينة والحبيبة .
والثاني : رثاء الذات من خلال تقلباتها ولواعجها وطموحاتها .
فأما المستوى الأول فقد ضمّنه أغلب قصائد المجموعة من قبيل قصائده ،إلى والدي، ووليّ أمر الطيب، وإلى أمي أو إلى شبه نبيَّة ،وخذ أربعيني، ولها للوطن ولي ووطني تأريخ ، وللعراق ودجلة، ونصب الحرية ..حرية النصب، وإلى روح الشهيد، ورسالة دسستها في كف الجواهري الكبير قبل رحيله، والرافدان ومصر ، والموشحة البصرية، ونخلتي وغيرها ، اتسمّت نصوص هذه المجموعة بطغيان العاطفة وصدقها ونبل معانيها الإنسانية التي تجعل القارىءمعها يستشعر الإحساس ذاته . نقرا في رثاء والده .
لمّا عزَّت عن ذكراك التعبى الأسماء
تذكرت
آخر أصواتك كان اسمي
أنا منْ؟
جاء الصوت
(رعودي حبيبي )
وفرحت كأني طفل
لا يملك إلا الفرحة
في ذكرى الزهو أمام البيت
لم أدرِ بأني كنت على شفتيك
صحوة موت …
وأكثر ما نقرأ في هذا المستوى قصائد في رثاء والده ، تلامس في صدق حرارتها ولوعتها كل شخص فقد والده يقول في قصيدته (وليّ أمرِ الطيب)
مستوحشون بعد صوتك البهي
يا أُلفتنا
وميتون نحن يا ملاذنا
أحياءٌ لكن كلُّنا
يحمل فوق راحتيه نعْشَهْ
فصلّ يا أبي لنا
إذا رجعنا عنك خطوة
صلاة وحشة
صورة بديعة يرسم بها حالهم بعد فقدان الوالد، العون والسند فهم ميتون مجازا_ إن صح التعبير _ ويلتمس من والده أن يصلي لهم وهو الميت، صلاة الوحشة !! وفي مناجاة أمه، يناجيها بقوله “آه يمّه “متخذا من أساليب البديع من قبل تكرارالفعل والحرف والإتكاء على الجناس في قوله (دمعي ودمي والتعب والعتب) أدوات سبك نصي تجعل نصوصه إيقونة للإحساس ، نقرأ
أدمنتُ حضورك في دمِعي ودمي
أدمنت الصوتَ
التعب
العتب
الحبَّ
من سوف يخلصني من مُتعة أدماني .
وبذات الوجع وصدق العاطفة ، يرثي وطنه العراق ، بلد الحضارات والخيرات وهو يراه يتمزق ما بين ضرس وناب يقول في مرثيته (وطني تأريخ):
تسابق شانؤوك وأنت كنزٌ
وعافَك شاربوك وأنت وشْلُ
تشاطِرُنا المذلة قوت يوم
ونهتف للمدى هيهاتِ ذلُ
ويسأل طين هذا الوطن العريق معاتبا إياه عتابا مرا :
أسائِلُ طينك الموءودَ ألفا
لماذا يكتب التأريخ وحلُ
تموت حضارة وأموت حُلكا
فمن مِنا على الموتين أصْلُ
أجبني أيٌها الطينُ المُعلى
أجبني أيُّها النجم الأذلُّ .
وقد ضمّن نصه هذا رموزا وإشارات وإحالات غاية في البداعة من قبيل ، العجل والعنكبوت والنمل وغيرها .
وفي رثاء الحب المفقود لا يبتعد البصري عن تلك العاطفة المشبوبة المغلفة حزنا وآسى وهو يرنو إلى الحبيبة وهي تصد وتبتعد يقول في نصه كبرنا:
تقول فاغضض إذا أبصرتني وأنا
كلّي _ إذا أقبلت في دربها _ مُقلُ
أمام عينيك إني عفت أسلحتي
مالي بسربِ على أجفانها قِبلُ
من بعد خمسين لم ألق التي جمحت
كالأمنيات وراحتْ فيّ ترتحلُ
ولم تكن مدينة البصرة بعيدة عن مراثيه فقد خصها بموشحة اتسمت بالعذوبة والشاعرية سمّاها (الموشحة البصرية)، أبدع فيها فنا كاد أن يغيب في شعرنا المعاصر بسبب من موسيقاها الداخلية المختلفة والتي لا يجيدها إلا القليل ومن ضمنهم شاعرنا البصري ،وربما يكون من التجني أن نضع الموشحة هذه في خانة مراثي رعد البصري ، لأن لغتها تفيض حبا وعشقا وتودد للحبيبة المدينة التي لم تكن بمنأى عن التخريب والفساد، وقد ضمنها في خاتمتها بعض الأناشيد التي تناجي بها الأمهات أولادهن وهن يهززن مهده ليناموا ويغفوا يقول :
أعنّي أيُّها القلبُ المعنّى
ولا تهجرْ محبّا منك أدنى
يقوم الليل قد غنّاك لحنا
( لأني رابح جنّتك بس نارك البِيّةْ تصْولْ
لا عدوّك يا بعدْ رُوحي عليل ولا سِكنْ جوْلْ )
وقد إنمازت قصائد هذا المستوى باللغة الشعرية العذبة التي تتصاعد وتيرة فتراها بأعلى درجات البلاغة ويضمّنها وتيرة آخرى أغاني شعبية سبعينية تضيف عليها جمالا آخر يأسر الألباب وترتاح لها الأرواح.وأما المستوى الثاني لتلك المراثي ، فقد جاءت موزعة داخل النصوص في المستوى الأول ، ففي سبيل المثال، نقرا في قصيدته المعنونة ب (أحبك) بعد خمسين:
أخمسين يا بعد روحي
وأنت الدموع التي
تلوذ المآقي بأعتابها
فأنت الزمان البخيل
وأنت المكان الذي لا أسمي
وكلي انتظار
وإن كان بعض اللقاء
هو المستحيل
ولم يكن لينفك من شعور الاغتراب وهو في وطنه حيث يداهمه شعور اليأس والوحدة والفقد فيكشف ما مركوز من خفايا هذه الروح يقول :
يا دجلتي لا المنحنى
لا ماء يرويه اغترابي
يا دجلتي أنا مثل ما
ئك في الدنوّ كما السراب
………..
بيتي ونهري توأما
ن وتشتكي ضمأ قِرابي
والمتأمل لسياقات نصوصه الأخرى يجدها تعوّل على اختيار المفردات ذات البعد النفسي من حنين وحزن وشوق وفقد ووجع وغربة، حتى باتت تلك المفردات بمثابة إشارات نفسية تعبر عما يختلج في اعماقة وما يضمره إحساسه ، فتحركت معانيه لغايات نفسية مقصودة ، اتسمت بالاختزال الدلالي والصور الشعرية المعبرة ، وجاءت لغته رشيقة شفافة أنيقة ، تميل إلى استعمال ما هو متداول من ألفاظ ومفردات محببة يضعها في سياقات مختلفة، فكانت لغة تجمع بين الترف والبساطة في التعبير .
وأخيرا أقول : كثيرة هي المجاميع الشعرية التي تصدر هنا وهناك ، لكن القليل منها ما يترك بصمة واثرا في روح المتلقي ، وهذا ما فعلته مدونة (الخلاص إلى مشارف الحنّاء ) فقد استمتعت جدا بقراءتها وفرادة أسلوب مبدعها وقدرته على الصياغة والحبك ، فجاءت متماسكة البناء عميقة المعاني ، بديعة الصور .أبارك للدكتور رعد البصري مدونته هذه متمنية له المزيد من العطاء والإبداع .