مديح يبحث عن ظلٍّ عالٍ
يونس الهديدي| كاتب مغربي
يبدو الشِّعر في ارتباطه بقضايا التحرّر حالة فريدة من نوعها، ذلك لأنه في طور نسيج المقاومة الثقافية التي يُشكِّلها ويراهن عليها؛ يقف مليًّا أمام سؤال الجدوى. فهل بمقدور الشِّعر في أفقه الحماسي أن يؤسِس فعلًا تحرّرٍيًّا؟ أليس في وسع القصيدة أن تغيِّر ماضيًّا – على حد تعبير “محمود درويش” أم أن النسيج الشِّعري لا يعدو كونه ترجمةً لعجز المهزوم عسكريًّا؟
ونحن نفتح صفحات شعر القضية الحماسي بدءًا من دفاتر “فدوى طوقان” و “توفيق زياد” و “معين بسيسو” مرورًا بشعراء من فرط شهرتهم نعجز عن تعريفهم انتهاءً بدفاتر محمود درويش. نلحظ أن هناك قطيعة مع أشعار العرب الحماسيّة في العصرين الجاهلي والإسلامي. وقد فرضت مجموعة من الشروط هذه القطيعة، لعلّ أبرزها الشرط الشِّعري الذي يحكم سؤال الحداثة الشعريّة من جهة الشكل والمعنى والرمز، و الشرط السيّاسي الذي يحكم الدولة الحديثة ومقومات بنائها.
إن هذه الملاحظة تجعلنا نراجع ما قاله محمود درويش في ديوان جدارية (بيروت (2000) : رياض الريس للكتب والنشر.):
“سأحلُمُ ، لا لأُصْلِحَ مركباتِ الريحِ
أَو عَطَباً أَصابَ الروحَ
فالأسطورةُ اتَّخَذَتْ مكانَتَها / المكيدةَ
في سياق الواقعيّ . وليس في وُسْعِ القصيدة
أَن تُغَيِّرَ ماضياً يمضي ولا يمضي
ولا أَنْ تُوقِفَ الزلزالَ
لكني سأحلُمُ ،
رُبَّما اتسَعَتْ بلادٌ لي ، كما أَنا
واحداً من أَهل هذا البحر (..)”
يشكّل وضع السطر الشعري في سياقه داخل جدارية درويش، حالة قصوى من العجز الشِعري تم توظيفها عن وعي بوصفها جسرًا للحلم. وهذا في المتناول الشعري مادام الشاعر قال: ” يحاصرني واقعٌ لا أُجيد قراءته” (قصيدة: هو لا غيره). بمعنى آخر لا محيد للشاعر عن جُبّة الحلم أمام غموض الواقع الفلسطيني الذي بات عصيًّا على الحل. إن درويش المتهم بالإغراق في الواقعية من طرف الرمزيين و المبالغة في الرمزية من طرف دعاة الواقعيّة، وعى جيّدًا حدود الشّعر عبر تاريخه الحماسي في بناء فعل التحرر، فلم يكتفِ بالمباشرة والحماسة بل تجاوز سقفيهما إلى الحلم والأسطورة والغناء.
و لسنا هنا في معرض نقد أشعار أضحتْ جزءًا من الوجدان العربي و الإنساني، بل إن غاية ما نطمح له هو مطاردة السطر الشعري الدرويشي للوقوف على آلية خلق الفعل الثوري فيه. ولا يمكن بأية حال مقارنة القضية الفلسطينية بتشعّبها وعمقها وجذريّتها بقضايا الشاعر العربي في العصرين العباسي والأموي، ذاك الشاعر الذي يمتهن دور الآلة الإعلامية التي تهيّج الزحف الإسلامي على العالم، أو في الحد الأدنى يمتهن دور طبيب نفسي للسلطان.
لم يكن محمود درويش في تبنيه لقضية أهله العادلة والإنسانية متبنيًّا لسيف دولة جديد، ولا سجين بلاط الخلفاء في العصور الإسلامية السحيقة، وإنما كان يعبش حالة نزع ثقافي يوجه من خلالها شعره إلى :
1. المجتمع العالمي من خلال تعزيزه لرواية الأرض الفلسطينية، أو حتى في أشد الأحوال عتمةً تأسيسها من جديد وفي ذلك نجده يقول:
“عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ
الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ.
كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى
فلسْطِين.”
( قصيدة: على هذه الأرض)
ليس الربط بين البداية والنهاية إلا تعزيزًا لرواية الأرض التاريخيّة، أما فعل الصيرورة هنا فمن مُقتضيات التأسيس في خضم التحولات التي تعيشها قضية فلسطين، خاصة في مواجهتها لرواية صهيونية تتأسس ثقافيًا.
2. المجتمع الفلسطيني من خلال توطيد العلاقة الوجدانية بين الإنسان الفلسطيني وبين أرضه، فاستلهم الزيتون الفلسطيني واستلهم البحر واستلهم القرآن والإنجيل وغيرها من مقدرات فلسطين الثقافية و الطبيعية والتاريخية، وقد وصل به الاستلهام هذا، إلى حالة التشبث بهذه الأشياء وادعاء ملكيّتها و تهجيرها إلى حالة الخلود الشِّعري يقول في ذلك:
” هذا البحر لي
هذا الهواء الرّطْب لي
هذا الرصيف وما عليْهِ
من خطاي وسائلي المنويّ “ لي
ومحطّة الباصِ القديمة لي . ولي
شبحي وصاحبه . وآنية النحاس
وآية الكرسيّ ، والمفتاح لي
والباب والحرّاس والأجراس لي
لِي حذْوة الفرسِ التي
طارت عن الأسوار “ لي
ما كان لي . وقصاصة الورقِ التي
انتزِعتْ من الإنجيل لي
والملْح من أثر الدموع علي
جدار البيت لي”
( قصيدة: جدارية)
3. تصحيح الأخطاء الثورية من خلال الوعي بأزمة القيّادة الفلسطينية، وتكريس شخص القائد بوصفه مُوّحدًا للفلسطينيين بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، فرفع في “مديح الظل العالي” شخصيّة القائد إلى مستوى الأساطير وأعاد نغمة المتنبي مع سيف الدولة إلى الواجهة. ذلك ما كان في ملحمة مديح الظل العالي، فرغم نقده المباشر للتخاذل العربي وللحرب الأهلية في لبنان، وتوجيهه سهام الشِّعر للإمبريالية الأمريكية، رفع ياسر عرفات إلى مستوى القيّادة العُليا التي تتوحّد فيها شظايا جسد الضحية الفلسطينية وفي ذلك يقول:
“ماذا تريد؟!
سيادة فوق الرماد؟!
و أنت سيد روحنا يا سيد الكينونة المتحولة.
فاذهب.. فليس لك المكان و لا العروش المزبلة.
حرية التكوين أنت
و خالق الطرقات أنت
و أنت عكس المرحلة.
و اذهب فقيراً كالصلاة
و حافياً كالنهر في درب الحصى
و مؤجلاً كالقرنفلة.”
( قصيدة: مديح الظل العالي)
يصعب القول بالحماسيّة في شعر محمود درويش، فهو يعِي جيّدًّا انتقالاته الشعرية، ويعرف أكثر من سواه أنه في صراع ثقافي يحتاج إلى كرٍّ وفر، وأن حربه أكثر عمقًا من حمل السّلاح على ضرورته، مع أن هناك من زاوج بينهما. لذلك آمن الباحث عن ظلِّ عالٍ في عصرنا المُباح باستراتيجيته تلك، ورأى أنها وحدها الكفيلة في رهان الزمن، بتعرية المحتل أمام العالم بفضح إنسانيته الزائفة، وجعله في موقف محرج يخرج على إثره من حالة المظلومية المختلقة إلى حالة توحشه الطبيعي.