أدب

بلاغة العطف في سورة الواقعة

أ. سعيد مالك |مصر

سورة الواقعة من السور المكية التي زخرت بالتصوير البياني، والانتقال البديع بين المشاهد، مما يترك أثراً بالغاً في النفس. ومن أبرز مظاهر البلاغة فيها أسلوب العطف، حيث لم يأتِ العطف لمجرد الربط بين الألفاظ أو الجُمل، بل جاء أداة فنية مقصودة، تُؤدي دوراً دلالياً وإيقاعياً، يكشف عن إعجاز القرآن الكريم في تنسيق المعاني وترابطها.

أولاً: العطف في تقسيم مشاهد القيامة

افتتحت السورة بقول الله تعالى ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ* وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا﴾ (الواقعة: 1-5).العطف بالواو هنا يربط بين أهوال يوم القيامة على نحو تصاعدي، فالمشهد يبدأ بوقوع الواقعة، ثم ينتقل إلى وصفها، ثم إلى زلزلة الأرض، ثم إلى نسف الجبال. إنّ الواو لم تأتِ لترتيب زمني فحسب، بل لتجعل القارئ أمام سلسلة مترابطة من الصور المزلزلة، بحيث يتوالى وقعها على السمع والبصر وكأنها ضربات متلاحقة.

ثانياً: العطف في تقسيم أصناف الناس

قال تعالى:﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ (الواقعة: 7-10).

نلحظ هنا أن العطف بالواو قَسَّم البشرية إلى أصناف ثلاثة: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون. فجاء العطف ليُبرز التباين، مع الحفاظ على نسق واحد يوحي بالشمول والاستغراق، فلا يخرج أحد عن هذه الأقسام. وهذا الترابط بالعطف يُبرز شمولية التقسيم وعدالته، ويُشعر السامع أن المآل محسوم لا مهرب منه.

ثالثاً: العطف في بيان النعيم والعذاب

في عرض نعيم أصحاب اليمين، يقول تعالى:﴿فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ (الواقعة: 28-32).

وهنا تتجلى روعة العطف بالواو؛ إذ جاء ليجمع صوراً متتالية من مظاهر النعيم، فلا يترك للنفس فرصة للانقطاع، بل ينساب المعنى كجدول رقراق متدفق. إن الواو جعلت كل نعمة حلقة متصلة بالأخرى، بحيث تتشكل لوحة متكاملة للنعيم الأبدي.

  • وبالمقابل، في وصف عذاب أصحاب الشمال، قال تعالى:﴿فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ﴾ (الواقعة: 42-44).فالعطف هنا جمع بين ألوان من العذاب: حر السموم، وغليان الحميم، وظلّ دخاني خانق. فجاءت الواو لتزيد من وقع التهويل والتراكم، حتى كأن القارئ يتخيل العذاب يتلاحق على أصحاب الشمال من كل جانب.

رابعاً: العطف في الانتقال بين البراهين

قال تعالى:﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ** وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الواقعة: 58-62).العطف هنا جاء ليُراكم الأدلة: من خلق الإنسان، إلى تقدير الموت، إلى القدرة على البعث. وهكذا تشكّل سلسلة متماسكة من الحجج، يربطها العطف في نسق منطقي متدرج، يزيد من قوة الإقناع ويقطع مجال الشك.

 خامساً: الأثر البلاغي والإيقاعي للعطف:

  • التوكيد والتكثير: العطف بالواو أكسب المعاني قوة، فجمع الصور دون انقطاع، مما يُشعر السامع بغزارة النعم أو شدّة العذاب.
  • التوازن والإيقاع: تكرار العطف أعطى السورة إيقاعاً موسيقياً متوازناً، يملأ الأذن وقْعاً ويملأ النفس خشوعاً.
  • الانتقال السلس: العطف يسّر الانتقال بين المشاهد دون فجوة، فأحدث ترابطاً معنوياً وانسجاماً بيانياً.
  • الإحاطة والشمول: العطف أظهر شمولية التقسيمات، بحيث لايخرج أحد من البشر عن التصنيف، ولا يفوته مشهد من مشاهد القيامة.

فيتضح لنا أن بلاغة العطف في سورة الواقعة لم تكن مجرد أداة نحوية لربط الجمل، بل كانت وسيلة فنية مقصودة تخدم المعنى، وتمنحه قوة الإحاطة، وتكسب النص جمالاً إيقاعياً متجدداً. فالعطف هنا يُشبه خيوطاً ذهبية نسجت لوحة متكاملة: من أهوال القيامة، إلى أصناف الناس، إلى نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، ثم براهين القدرة الإلهية. وهكذا تبرز روعة البيان القرآني، الذي يجعل من الحرف الواحد أداة تأثير لا يُجارى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى