أدب

حين يحمل كيفهات أسعد المكان وتفاصيله معه في غربته

بقلم: عالية ميرزا
أنحن من يغادر الوطن، أم الوطن يلفظنا خارجاً بعد مخاض عسير ويقذف بنا دون رحمة في غياهب الغربة وتبعاتها؟.
أو اننا نغادر الوطن وهو يأبى مغادرتنا لاحتلاله الشرس لذاكرة الخلايا في تكويننا؟.
أية كانت الأسباب فإنني أرى الصعوبة لا تكمن في الهجرة، وقصدي هنا تغير البقعة الجغرافية، لكنها تكمن في كيفية التعامل مع فكرة الهجرة والاغتراب.


هناك ظاهرة خاصة يستفرد بها الكتاب السوريون من الاصول الكردية، وهذا استنتاج شخصي بحت توصلت اليه عن طريق قراءاتي لعدد لا بأس به من النتاجات الأدبية لهؤلاء الأدباء، أو عن طريق التواصل المباشر معهم ،ما يميز هذه النخبة هي ذلك الكم الهائل من الحرفية في تعاملهم مع اللغة العربية وصياغاتها ، تجدهم يلاعبونها بذكاء لاعب شطرنج ، حيث يرصون اللغة على رقعتها ويلاعبون مفرداتها وصورها في البلاغة والتورية والمجاز والتصوير بدراية وإتقان، ويبدعون وبمهارة تقنية فريدة مزاوجة المفردات والصور البلاغية والمخارج الصوتية بمفردات كردية متناغمة معها خلطاً وعجناً وتلقيحاً والمحصلة تكون كرنفالاً من الإيقاعات الموسيقية المنكهة بنكهة كردية تلبس فردانيتها بنوع من التحدي والشموخ.. من يدري قد يكون هذا نوع من استراتيجية دفاعية يمارسها اللاوعي غير معلن يقول فيها الكردي ، [حسناً أنك سلبتني لغة أمي وها أنا اهاجمك بنفس اسلحتك]


هناك ارواح تولد مسكونة بالشعر ،تتخذ منها مأوى لتدق أوتاد خيامها في مساحاتها الفسيحة، وتتسكع “بوهيمياً” في أزقتها.
زادها في هذه الرحلة هو الحس الفطري وفضولٍ طفولي وانجذاب لسحر العوالم الغامضة في إيقاع الكلمة وتلك الفوضى الكامنة فيها التي تمكنها من اغواء العالم وضمها بين ذراعيها.
-انا من الجيل الذي يعشق رائحة الكتب وعبق صفحاتها التي توصل للثمالة. أعشق أن أدفن نفسي فيها وأجد الأمان بين طياتها ، هناك فقط وفي تلك المساحة الغير المرئية أرخي قبضتي المحكمة من على عنق الزمن وأتركها تنساب مثل الضوء , انا قارئة للشعر ومتذوقة له ولست ناقدة وأتكلم فقط من منطلق جمالية النص الحسي والوجداني، الزمخشريات والقوالب الشعرية المعقدة أتركها لأصحابها المتخصصين فيها ، ولي وجهة نظر خاصة فيما يتعلق الامر بالكتابة للنخبة ونخبة النخبة ولا أنوي الدخول في هذا النقاش هنا، الآن .
عن طريق الصدفة تعرفت منذ عدة اشهر على الشاعر المغترب “كيفهات أسعد” الذي يعيش في السويد وهو من الكرد السوريين ،أهداني ديوانين من أعماله الشعرية أحدهما بعنوان-١ (لك وحدكِ اكتب)-٢ والثاني بعنوان ( هزائم رجل يشبهني)، ثم اطلعت على ديوانين آخرين لم يتم طبعهما لحد الآن واحدة تحت عنوان (آشتا) والأخر (حبرالأنوثة)وهذا ما سأبقى شاكرة له عليها.
-من صفاتي السيئة التي ربما يشاركني فيها الكثيرون هو إن لم يبهرني مدخل الكتاب وقصائده الأولى يصعب عليّ الاستمرار في القراءة على أمل إن القادم سيبهرني اكثر-
لكن لحسن الحظ وجدت نفسي أنساق وبقوة ناعمة الى عوالم هذا الشاعر ونصوصه السهلة الممتنعة ،
“ليومٍ يكسر فيه صمتك الوقور كتمثال برونز.
أرافق الناس بلهفة العاشق،
أعبر جسر القطار باتجاه قبة
“نظام الدين” الواقفة بتماهٍ كي أزيح عنها غبار عام كامل من الانتظار.
أنا الرائي أحاول تذكر شكل العشاق وهواجسهم؛ أهجس معهم،
مرهقة عيناي كثعلبين هاربين من أصوات القرويين،
كل فتيات القامشلي تأتين في معراجٍ لتلك القبة؛
كلهن يبحثن عن عشاقهن
يأتين مثل الحمام، ينقرن حبة ويطرن
كفقاعة صابون أو كمشة ملح في بحٍر مجنون،
يأتين ناصعات كالخطيئة،
ويغبن كحلٍم قصير،
كل ذلك اليوم لم أنبس بأي فرح غير التأمل والترقب،
أحمل جعبًة مليئة بالحسرة
كصائم ينتظر نحنحة “الملا قاسمو” من مكبر الصوت معلناً الغروب.
لغة تنساب كخرير الماء، ومفردات وجدانية تصطدم ببعضها لتخلق فضاءً تحلق في افقها الملايين من الشهب الراقصة في عالمٍ متناغم من الإيقاعات الشعرية التي تتداخل فيها مجموعة من نغمات متناسقة في التركيبة الهيكلية لبناء الجملة الشعرية ، صور جياشة ومفردات تتمرد وبوحشية على النمطية المتعجرفة. إحساس موهف وشفاف تجسد روح رجلٌ عاشق للوجود وبطريقة /كيفهاتية/خاصةً به وحده، يمتاز بفوضى وشقاوة الأطفال تارة ، واخرى بنزق المراهق وتمرد خيالاته.
حيث يقودنا الشاعر من خلال صوره الشعرية في رحلة مشوقة ليختصر فيها الزمان والمكان ويقود حواسنا الى مدينته قامشلو ليسرد لنا تفاصيلها التي مازالت نابضة في أحلامه، وينشط حاسة الشم لدى القارئ كي يستنشق ملء صدره رائحة الخزامي والسماق.
“قامشلي المليئة بالعربات التي تجرها صيحات لرجال،
مشحونون بالجرح،
مشحونون بالأغاني الغاضبة والغمام.
المليئة بالعربات،
التي يدفعها رجال منقوش على أكفهم رنين عجلاتها،
ورماد العشائر، ينطفون برفق في حكايا سوق الجامع الكبير.
ينادون عاليا ًبأسماء سلالة النجوم،
نجمة نجمة.
قامشلي
في مكان ما ..
في زاوية ما على نهر جغجغ.
وادعةً “مقهى كربيس” موشومة في خصرها مثل كمان معطوب،
يأتيها الأغاوات كالجنود بعد معاركهم.
يغيب فيها حكاياتهم، دخان تبغهم و أحجار ” الرّجعة”
ينزعون فيها من المحاكم قدسيتها ومن التاريخ أصالته.
قامشلي،
المليئة ب ” حاجو آغا ،حسين آغا، و عبدي آغا “
بخطوات تهرول إلى أمواج قدميك،
قبل ان ترتكب إثم الوداع .
كي تودع الذكريات على حالها، وظلال الأشجار
وصوت الآذان ورائحة العشب وبكاء العجائز”
تمتاز نصوصه الشعرية بتصاعدً سردي يتسلق سلم النسق اللغوي ليثري بها الدلالات اللغوية ويحولها الى قوة كامنة في إغناء طاقاته التخيلية كتصاعد الصوت لسلم الموسيقي في الأصوات الاوبرالية المتمرسة .
ثم هناك العنصر الوصف المتناهي في دقة الصورة من الشعرية الذي يقود فيها أصابع المتلقي للإحساس الحي النابض للموصوف ، تجعلك تسمع صوت قامشلي في أغاني الغريب والعاشق.
الخاصية الجمالية في شعر كيفهات أسعد هو ان نصوصه تتيح لك حيزا يمكنك شد الرحال الى جزرها لتلقي هناك بجسدك عاريا على رمالها للوصول الى ذروت النشوة الروحية المبتغاة، ويجعل من يقرأ له أن يشعر انه يقف على نفس المسافة من البعد عن مركز الحياة بكل ما تحتويه من معاناة وجدانية بمختلف اطيافها.
“على شرفةِ هذا المساء
ما زلت ذاك الطفلَ
حين غفيتُ في حضن امرأة،
جَرَّتْ قاراتٍ من الأنوثة،
ورمت بفتاتٍ الندى على نسلِ حوريةٍ هاربةٍ من شتاءات الشرق.
أحدّق في مرايا جسدها،
في قلقي الهش،
أرمي برأسي في حضنها،
أحكي لها قصصاً لن تُحكى ،
أحدق في الخصلة النازلة بين نهديها،
نهداها العاشقان يجلسان على بحر من مرمر،
كقصيدة وأختها.
ربما طفل جميل انا،
شاعرٌ فوضوي ربما.
سأضيئ ليلي بك.
أهبط كآدم جديد لأزرع سنابلي
وشلالات النرجس .
أحلم لمرة واحدة فقط
أن نتبادل الشفاه و الأسامي،
ونعبر الصحراء معاً ببساتينك.
على شرفة هذا المساء
اشحذ همتي الحبلى بالشوق
الملأى بالانكسارات، الندى والاقحوان،
لأعيد فصول عمري كضوء خافت،
كقبطانٍ مجنون لمركب سكران .
بعدها انطفئ في جسدك كخنجر
أنطفئ كقنديل تعب”.
عنصر الخيال عنده فطري متمرد يجيد ترويضه لينّسقه مع لغة تمرن عليها وصقلها بدراية على مدى سنين خبرته الطويلة بدأها في قامشلو، مرورا بمحطات عديدة واستمر في السويد، هو يجيد تفتيت رؤياه الشعرية وتركيبه كقطع اللوغو(LEGO) في تناسق لغوي ويوظفها بتأني في سياقاته وتركيباته الصورية الحسية ، لتتحول النص الى تراتيل موسيقية تتزاوج مع جميع انواع الحبال الصوتية التي تمر عليها.
وأخيراً كيفهات أسعد شاعر كلما قرأت له اكثر اكتشفت أبعاداً انسانية ووجودية اعمق لديه، كي تحس ويتجاوب دواخلك الوجدانية مع نصوصه عليك أن تلبس القصيدة تحت الجلد وتحديدا على طبقة الأدمة منها كي تتفاعل مع نبض الحزن الأنيق النابضة منها وتتحد معها. حين يقول:
“أناديك هل تسمعين كما الغابة تسمع،
والأشجار وماتعربش على جذورها من عوالق
الحشائش الموصولة من صيٍف ماٍض
إلى أسفار الصيف المتقوقع كما أذان الشياطين تسمع.
أناديك…
والطيور التي تأبطت تحت جناحيها حزني المعجون
بعطر المسافة والمشتهى، تسمع.
أناديك…
كُّل عاشٍق هنا هائم، حالم ملطخ بالرؤى،
وقصائدي المهداة إليك يسمع.
أناديك…
بخطاي السّرية إلى كل العناوين المرسومة على هذا
الجهاز،
وأنا أسير إليك
لامكان في جسدي
لازمان في جسدي
لا ربيع
لا خريف
لا نهر في جسدي،
لا جدول كلها تسمع”
_____
1) لك وحدكِ أكتب – مجموعة شعرية – كيفهات أسعد – الطبعة الأولى 2018 من منشورات (دار هـُنْ)
2) هزائم رجل يِشبهني – مجموعة شعرية – كيفهات أسعد – الطبعة الأولى 2019 من منشورات (دار الزمان)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى