تاريخ

التحولات الحضارية لفترة الخلافة الراشدة

د. أحمد حسين عثمان | دكتوراه في المقارنات التشريعية
بعد أن أنهيت قراءة كتاب” (الخلافة الراشدة) نشأة الدولة وتحولات السطة ومعالم البناء الحضاري” للدكتور أحمد محمود، والذي طبع في دار تراث لصاحبها المحقق السيد: إسلام مصطفى؛ أحسستأن النقطة التي يجب أن أقف أمامها قليلا من حيث الكتابة -مع أنها عميقة من حيث البنية المعرفية- هي آخر ثلاث كلمات في عنوان الكتا بـ(معالم البناء الحضاري)، فالذي يجب أن نبرزه أما التيار الحداثي، والاستشراقي غير المنصف هو ما قدمته الخلافة الراشدة من معالم حضارية للعالم أجمع .
إن الدرس التاريخي لايفسده شيء كما تفسده القرءة التي تسوقها الأيدلوجية ولا تشغلها الحقيقة التاريخية المجردة، وكلنا يعلم كم يتصيد المناهضون لحضارتنا النصوص والروايات ويقطعونها عن سياقها ؛ ليفرضوا استنتاجا فكريا مغلفا بثوب الكذب .
وما أريده في السطور القليلة القادمة هو الوقوف أمام التحولات الحضارية التي شكلتها الخلافة الراشدة بما تحمله من أيديولوجية إسلامية ، فدراسة الخلاقة الراشدة وتاريخها السياسي والعمراني –كما يشير الكاتب – لا يزال مصدرًا للهداية والنور، وقاعدة صالحة لأن ينطلق منها المسلمون في العصر الحاضرة لمواجهة المشكلات.
وقبل أن نبرز النقاط الأساسية في التحول علينا أن نفرق بين محورين:المحور المادي الذي قام عليه هذا العصر ـ فهذا اندثر وتجاوزه العلم ، ولا يمكن إعادته ، والمحور الروحي والأخلاقي، وهذا ما يجب استدعاوه وتفعيله من جديد .
أي أن المكون المعنوي لهذه الفترة هو ما يشغلنا، وهو ما يمكن أن نصحبه معنا في أي عصر مهما بلغ تطوره المادي وتقدمه التكنولوجي .
الإسهامات الحضارية في فترة الخلافة الراشدة
أولا- هدم سياج القبيلة والعصبية ، وهو داء لايزال يطل علينا من حين لآخر تحت مسميات مختلفة ، وقد كان لها أساس في التشكيل الأخلاقي ،فقد كانوا يغيثون فردهم ظالمًا أو مظلومًا ، ولايسألون أخاهم حين يندبهم في النائيات على ما قال برهانا .حتى جاء الإسلام وأقام تكتلا عربيًا على قلب رجل واحد؛ لأن النهضة ولو بين أناس في غاية الذكاء يقتلها التفرق والتشرذم والعنصرية ، ولاتزال هذه القضية التي أراد الإسلام هدمها سببًا للفتن والحروب في عوالم متحضرة، وحرب البيض والسود ليست منا ببعيد في الولايات المتحدة، والثأر في صعيد بلادنا لم تخمد جذوته حتى اليوم .
إن هذا هو أخطر تحول حضاري في فترة مهدة الخلافة، فالعرب لم تتخيل يوما ما أن يكون سواسية مع العبيد في الحقوق والواجبات. .
ثانيا-ترسيخ قاعدة الشورى للوصلول إلى أفضل الحلول ، فالرسول(ﷺ) لم يفرض علينا خليفة بعينه، بل اكتفى بالتلميح ، وأوكل الاختيار للأمة، وفعل الصحابة بعده ، وهو تحول حضاري يقضي على قضية ( الفرعونية ) فلم يصبح هناك شخص لايرينا إلا مايرى ، ولم يصبح هناك عقل أوحد يفكر ، والبقية رعاع لاقيمة لهم ، ومعلوم أنه كلما كثرت العقول حول قضية ما؛ تقل الأخطاء، فالإنسان لا يحيط علمًا بكل الجوانب، ويعتريه السهو، وتعتريه الغفلة.ولا يعني ذلك أن الشرع أوكل للبشر إدارة شئون حياتهم بدون منهج ،فالشارع ما سكت عن مسألة إلا ووضع قبلها في الإطار العام شبكة محكمة من المفاهيم النظرية، التي تقود المستنبط إلى طريق سديد عملي لها لا يخرج عن مقصد المشرع ، وإن اختلفت الأشكال التي توصلوا إليها. .
-ثالثا-القضاء على مفهوم التوريث في الحكم ، وجعل الاعتبار لاختيار الأصلح دنيا ودينًا ، كما فعل عمر –رضي الله عنه- في جعل الاختيار بين خيرة الصحابة ، وإخراج ابنه من دائرة الاختيار ، وهو تحول حضاري قضى على مفهوم الأسرة الحاكمة ، وأن الموك لا يلدون إلا ملوكًا، ولعل الدول المتحضرة اليوم أدركت خطورة هذا الأمر ، فبعضها لغى نظام الملكية ، وبعضهم فصل بين الملك والحكم ، وجعل الحكم للأصلح؛ إدراكًا منهم أن الكفاءة والشورى هي الأساس في إقامة المجتمع الناجح.
-رابعًا-إنشاء هيئة مستقيمة أعلى من الحاكم تكون لها الكلمة ، كما هو في جماعة أهل الحل والعقد . يقول أبو بكر ” وإن أسأت فقوموني”، وهو تحول حضاري استطاع أن يجعل الحاكم غير مطلق الرأي ، يفعل ما يشاء دون محاسبة، وأظن الحضارات السابقة لم تعرف هذه الطريقة ؛ وأن الخلافة الراشدة هي التي أرست قواعدها ، فمجالس محاسبة الحاكم في لندن أو في الكنيست الإسرائيلي مفعلة بصورة قوية ، وللأسف لا نجد مثل هذه القوة في مجتمعاتنا الإسلامية.
خامسا-إبراز دور الحاكم في المساواة والعدل والحفاظ على البعد الأخلاقي للمجتمع ، فليس الحاكم مصدرًا للغلال أو السيوف، وحسب، بل هو الذي يضع بذور الأخلاق ؛ليحصد المجتمع نتاءجها ،وخطبة أبي بكر وعمر في مهد خلافتهما معلومة لكل شخص .
سادسا- قلب مفهوم الحكموجعله مسؤلية تجاه الشعب،لابوصفة سلطة مطلقة فوق الشعب أو مسلطًا عليهم ، فضربوا لنا مثلًا في تقشف الخليفة مع ثراء الشعب، ومثلا في مراقبة الأسواق ومحاسبة الولاة ، وهذا تحول حضاري يتمثلفي انصهار الحاكم في حياة المحكوم لا أن تجد حياة الحاكم غير متأثرة في مظهرها ومأكلها ومركبها بالحياة العامة، فالناس جوعى أو شبعي وهو محافظ على غناه وأوبهته .إن هذا المفهوم الحضاري يجعل الحكم والخلافة مسؤلية كبيرة وليست فقط منصبا سياسيًا منفصلًا عن مهامه ، له كل الامتيازات التي ليست لفرد من رعيته.
-سابعا-تغير مفهوم الغزو والقتال: إن هذه الفتوحات كسرت رتابة التاريخ فهي تعد أهم حركة فتوحات على مستوى العالم بالنظر إإلى التأثيرات الجذرية التي أحدثتها على المستوى: الثقافي، والاجتماعي، والديني، والفكري ، فقديمًا كانت الغزوات من أجل السيطرة وبسط السلطات وتكثير الخيرات ، بصرف النظر عما تخلفه من قتل للذراريـ وحرق للزرع ، وإخماد للفكر ،فأحدثت الخلافة تحولًا حضاريًا ، وأضافت مفهومًا آخر قائم على إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، والقضاء على الرق والعبودية ، والعمل على رفع لواء العدل على أعناق البغي والظلم حتى لو كان ذلك بين المؤمنين ، فنحن مأمورون بقتال الفئة التي تبغي حتى ترجع إلى أمر الله ( تعالى ) . وإذا أردنا أن نظهر ميزة تلك الفتوحات وتحولاتها فهي تتلخص في الآتي :
أ-فهي أول فتوحات الغرض منها فكري وهو نشر الدعوة .
ب- أول فتوحات تزيد المغزوين ثراء في الفكر والمال .
ج- أول فتوحات أزالت الرق والعبودية والظلم .
إن هناك من يقول إن الدافع الاقتصادي هو وحده المحرك لفكرة الفتوح إبان عصر الخلافة، وأن الفتوحات كانت نوعا من أنواع الهجرة العربية المعتادة بحثًا عن سبل الحياة.، وكثير من المستشرقين يردد ذلك، – ولعل الخلل المنهجي في هذه القضية يكمن وراء اعتقادهم أن الدعوة نزلت للعرب دون سواهم.– ثانيا هو خلل في فهم دوافع النفس؛ لأن الفتوح ذات غبن كبير، والمكاسب غير مضمونة، ولربما أسلم القوم ولربما… ولربما …، فلو كان الدافع الاقتصادي هو المحرك؛ لما تحركوا وكل هذه الاحتمالات في مخيلتهم، ولسمعنا مساوماتهم على الغنائم وخلافات لا حصر لها .
يقول المشترق الفرنسي : كلود كاهن “إن مصدر قوة العرب في حرارة الإيمان الديني التي سرعان ما أذكاها وألهبها لدى الذين لم تكن متأججة لديهم أول الأمر لا الغنائم الثمينة التي سوف يجنونها من الحرب فحسب ، بل كون هذه الغنائم ذاتها دليلا على العون الآتي من لدن الله ”
إن الدافع الحقيقي هو الدافع الديني .فهناك عشرات النصوص التي تنص على الدعوة ، وتضع لها الثواب الجزيل في الآخرة،وتلك النصوص قد أذهلت كل نفس تغلغل في قلبها الإيمان عن الدنيا وفنائها، وعن الروح وجسدها .
يقول جمال حمدان ” هي إمبراطورية تحريرية لكل معنى الكلمة، فهي التي حررت كل هذه المناطق من ربقة الاستعمار الروماني أو الفارسي المتداعي ، واضطهاده الوثني ، وابتزازه المادي ، وبعدها لم تعرف الدولة الجديدة عنصريا أو حاجزا وثنيًا ، بل كانت وحدة مفتوحة من الاختلاط والتزاوج الحر ، وما عرفت قط شعوبية أو حاجزًا حضاريًا حيث كانت وسطا حضاريًا متجانسًا مشاعا للجميع ”
لقد جلب الإسلام إلى تلك الشعوب رسالة دينية جديدة لا تقوم على السلب والاستعباد.
يقول (ربرت جورج ويلز) في كتابه معالم تاريخ الإنسانية “فقد كان يستوى لدى شعوب البلاد التي غلبت عليها تلك الجيوش أن تؤدي الضرائب إلى بيزنطة، أو فارس، أو تؤديها إلى دولة الإسلام في المدينة ، فلئن اضطروا إلى المفاضلة بين سادتهم القدماء، وسادتهم الجدد؛ كانت المفاضلة بغير شك في صالح العرب ، فهم أنظف الطرفين وأطهرهما بشكل ظاهر، وكانوا أوسع رحمة وأكثر عدلًا”
ويكمل في نفس السياق ، لقد ساد الإسلام لأنه كان خير نظام سياسي واجتماعي استطاعت تلك الأيام تقديمه، لقد ساد؛ لأنه كان يجد في كل مكان شعوبًا تبلد حسها سياسيًا ، تسلب وتظلم وتخوف ولا تعلم ولا تنظم ، كما وجدوا حكومات أنانية سقيمة لا اتصال بينها وبين شعوبها بأي حال “
سابعا- الارتقاء العقلي بالأمم، فالقرأن أشعل في العقول جذوة التفكر، والتدبر، والنظر في قصص التاريخ ، والإفادة من أحوال من قبلنا ، فنهضت الهمم، وظهر ت ثلاث اتجاهات : اتجاه يعتني بالدين والفقه وعلوم فهمه، واتجاه يعتني بالتاريخ ، واتجاه يعتني بعلوم الطب والمنطق والكيمياء ، ولم تكن تلك الحقول مقصورة على العقل العربي بل استطاعت الخلافة في أعظم تحولاتها أن تجعل الحضارة العربية قاسمًا مشتركًا بين العرب وغيرهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى