القطن فرحة
د. محمود رمضان
بجلبابه الأبيض الفلاحي الواسع، بفتحته التي يبدو منها الصديري، استوقفني بابتسامة واسعة، رائقة، جميلة، وقال: فرحتنا الحقيقية يوم جمع القطن، سهرنا وتعبنا كثيراً من أجل هذه اللحظة المبهجة، نظل نرعاه من بذرته وريه وتسميده ورشه، تتفتح زهوره فتتفتح لنا كل أبواب الأمل والفرح، تتحول القرية كلها لفرح كبير، البنات والصبايا هن أساس ومنبع الفرحة، حتى السيدات العجائز يتقدمن الصفوف لجني القطن واستعادة فرحتهن الطفولية واجترار الذكريات المبهجة من مخزونها السرمدي.
مصر غنية بثرواتها الزراعية، ومهما كانت العقبات نظل نزرع القطن ونتعهده بالرعاية والعناية لنحصد الفرح يوم جنيه، فنزوج البنات وتعم الأفراح في دور قريتنا الآمنة الوديعة التي يحتضنها النيل بحب.
زرعنا القطن طويل التيلة (كرنك ومنوف)، غيرنا زرع القطن قصير إلى متوسط التيلة (أشمونى، جيزة وزاجورا)، لكن الجميع يفرح بظهور البراعم ويضيء القطن بنوره الأبيض على الجميع.
جمع القطن عيد وفرح وبهجة للجميع، ولاتزال بناتنا يغنين الأغنية المحببة لهن أثناء جنيه، والتي ورثنها عن جداتهن، «نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل، اجمعوا يا بنات النيل يلا، دا قطن جميل ألف ماشالله»، الكل يغنيها بحب وجمال رائق، وبصوت الصبايا الحسان ووجوههن المشرقة الصبوحة التي لم تلوثها مساحيق التجميل، جمال رباني.
يحكي لي سيدي (جدي) أنه كان شغوفاً بالاستماع لأغنية «القطن فتح» التي شدت بها أم كلثوم في الزمن الجميل، وكان ذلك عام 1942 ، كانت الحياة برائحة الحب والنقاء والصفاء، وكان الشاعر أحمد رامي يجلس في حقل أثناء جني القطن، ورأى الفرحة تفيض من القلوب قبل العيون، فكتب الأغنية التي مازلنا نحبها إلى الآن:
القطن فتح هنا البال
والرزق جه وصفالنا البال
اجمعوا خيره مالناش غيره
يغني البلد ويهني الحال
أبيض منور على عوده
يحيي الأمل عند وجوده
جل اللي بيديه ويعيده
ويغير الحال بعد الحال
كانت له يوم شنه ورنه
عمر بيوتنا وصهللنا
يارب يحيي لنا أملنا
وتخلي مصر في أسعد حال
ياللي سهرت الليل ترعاه
وفضلت تروي وتستناه
آن الأوان والرزق اهو جاء
يارب جود وأسعد دي الحال
وبعد جني القطن وبيع المحصول يأتي موسم تزويج البنات، لأبناء عمومتهن أو أخوالهن أو خالاتهن، القرية كلها تشرق بالفرح في كل دار، بين فتيات سيتزوجن، وبين رزق وفير أكرم الله به الجميع، وتتحول القرية إلى سرادق كبير للأفراح والليالي الملاح.