بقلم: إبراهيم محمد الهمداني
الكفارة فريضة ربانية، جعلها الله تعالى وسيلة لستر الذنوب ومحوها، بوصفها قربة إلى الله، مساعدة لقبول توبة العبد، في فريضة تركها، أو ذنب ارتكبه، كأن يترك فريضة الصيام، لعذر عدم الاستطاعة،أو يذنب بحنث يمين، أو نحوها، وأداء الكفارة فيه تهذيب للنفس، وكسر شهواتها ونزواتها وتكبرها على الله تعالى، حين تجرأت على انتهاك حدوده، فجعلت الكفارة، لأن التوبة القلبية لم تعد كافية، ويجب أن تصاحبها عقوبة تأديبية، يؤديها الإنسان خاضعا منكسرا، ليستشعر عِظم ذنبه، ويحرص على التكفير – بإطعام المساكين مثلا – متوسلا إلى الله بالامتثال لأمره، وبمقام هؤلاء المساكين عنده.
تعد الكفارة بمثابة الفدية من عقوبة الذنب، حيث تُعزز التوبة القلبية (الندم والاستغفار)، بالتوبة الفعلية العملية، ومنها كفارات الإطعام للمساكين، التي تقدم صورة نموذجية، من صور التكافل الاجتماعي العملي، تتجلى فيه الرغبة الصادقة في التوبة، المصحوبة بروحية العطاء، بما من شأنه تأديب وتهذيب النفس البشرية، وكسر جموحها وطموحها، وإسعاد الفقراء والمساكين والمحتاجين، بذلك العطاء، الذي يفتدي به المذنب نفسه، من غضب الله وسخطه وعقابه.
جعل الله تعالى معظم الكفارات، تدور في الأموال(كالإطعام والإكساء والعتق)، ولم يقدم البديل البدني (الصيام)، إلا في حال العجز عن الأداء المالي، ما يعني أن المال يصلح لافتداء الأبدان في الحياة الدنيا، وإنقاذ الأرواح من سخط الله وعذابه، بينما هو في الآخرة غير مقبول مطلقا، ولن يقبل مهما كان حجمه ومقداره، يقول تعالى:- “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ”. آل عمران- آية (91).
ولهذا جعل الله تعالى الإنفاق سبيلا لتفادي موجبات عذابه، وبابا إلى نيل مرضاته وغفرانه، والفوز بالمقام الأعلى في جناته، وجعل الإطعام طريقا إلى عفوه ومفغرته، وكفارة لما عَظُمَ وجلَّ من الذنوب، التي لا تكفي التوبة القلبية، للتخلص من تبعاتها، فوجب على المذنب تقديم قربة لله تعالى، تكون جبرا لتوبته القلبية، ومصداقا لندمه وعزمه عدم العودة لما كان منه، وقد وردت كفارة الإطعام، في عدة مواضع من القرآن الكريم، منها:-
١- كفارة اليمين، في قوله تعالى:- “لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ”. (المائدة:٨٩)، حيث تصدر الإطعام قائمة خيارات التكفير.
٢- كفارة إفطار المريض والمسن، في شهر رمضان، رغم الاستطاعة، في قوله تعالى:- “أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ”. (البقرة:١٨٤)
يقول المولى العلامة، العالم الرباني السيد بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه:- “﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ مع المرض والسفر إذا أفطروا ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ وفي قراءة نافع: ﴿طَعَامُ مَسَاكِينٍ﴾ وطعام المسكين لليوم الواحد، فوجبت عليهم الفدية؛ لأنهم أفطروا وهم يطيقون الصيام لعدم شدة المرض أو صعوبة السفر”.
٣- كفارة قتل المحرم للصيد، في قوله تعالى:- “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ”. (المائدة:٩٥)
وهنا جاءت كفارة الإطعام، في المقام الثاني، على سبيل التخيير، بين كفارة تقديم هدي بالغ الكعبة، يماثل ويساوي ما قتل من النعم، وكفارة الصيام الذي يعدل ذلك.
٤- كفارة الظهار، في قوله تعالى:- “وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ (٣) فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ”.(٤) سورة المجادلة.
وفي هذا المقام وردت كفارة الإطعام، بوصفها الخيار الأخير في قائمة الكفارات، وسواء تقدمت أو تأخرت، فكل ذلك يدل على أهميتها، ومكانتها في الشريعة الإسلامية، فإن تقدمت فذلك دلالة على أولويتها، وضرورة المبادرة بها أولا، ولا يحق للمكلف الانتقال إلى الخيار الثاني أو الثالث، إلا إذا ثبت عجزه عن الإطعام، وكذلك الحال إن تأخرت، فذلك دلالة على وجوبها المطلق، كونها آخر الخيارات والحلول، التي ينقذ بها الإنسان نفسه، ويفتدي بها جرمه، ويؤكد بها توبته وندمه.
وقد نسب الطعام للمساكين، تأكيدا لدلالة الاختصاص، وعلاوة على ما في الإطعام، من مكارم الأخلاق وحميد الصفات، وتعزيز قيم الإخاء والتكافل الاجتماعي، فهو أيضا يبين حاجة المجتمع لهؤلاء المساكين، كونهم طريق خلاصه، وباب قبول توبته ونجاته، وهذا ما يوجب على جميع أبناء المجتمع، المسارعة في إطعامهم وقضاء حوائجهم، بنفوس ممتنة راضية، في كل وقت، وخاصة في أوقات الشدة والحاجة، فبهم دون غيرهم، تُقْتَحَمَ العقبة، وما أدراك ما العقبة.