مقال

جزاء الحاسدين

بقلم: خالد رمضان| كاتب مصري
يروي صاحب كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) تلك القصة الشهيرة عن الحسد فيقول: كان للخليفة المعتصم وزير أثير مقرب إليه. وذات يوم دخل أعرابي على الخليفة، وكان هذا الرجل ذا سليقة أدبية، وطرفة لغوية، وفصاحة جلية، يروي الأخبار، ويعرف الأشعار، وموارد الحكم والأمثال، والوقائع وأيام العرب المشهورة. وقد صادف هذا الأعرابي هوى لدى الخليفة، فقرّبه منه وأصبح أثيره. فحقد الوزير على الرجل البدوي، وحسده على ما وصل إليه من رتبة محمودة عند الخليفة. ودفع ذلك الحسد الوزير ليمكر بهذا البدوي البسيط، ويمحو اسمه ورسمه من قلب الخليفة، فدعاه إلى مأدبة طعام عنده، وزاد الثوم في الطعام، ثم أخبر الرجل ألا يقترب من الخليفة؛ فهو يبغض تلك الرائحة الكريهة. وأسرع الوزير إلى الخليفة ليوشي بالأعرابي، فمثل أمامه وقال: والله يا أمير المؤمنين لا أعلم من أين أبدأ؟
قال الخليفة:تكلم يا وزير
قال الوزير: سامحني يا مولاي، فأنا أستحيي منك.
فتعصب الخليفة وبدا الغضب على وجهه، وقال: ما الأمر أيها الوزير؟
فقال الوزير، وعلامات الامتعاض على صفحة وجهه:إن هذا الأعرابي يقول عنك يا مولاي : إنك أبخر (يعني رائحة فمك كريهة).
وللأسف لم يتبين الخليفة الأمر، وما كان منه إلا أن أمر أن يؤتى بالأعرابي، وبالفعل حضر الرجل.
وحينما مثل الأعرابي أمام الخليفة ودنا منه، وضع طرف عمامته على فمه كي لا يشتم الخليفة رائحة الثوم الكريهة من فيه.
فقال الخليفة في نفسه: لقد صدق الوزير فيما ذهب إليه. فأمر بكتاب يحمله الأعرابي إلى أحد عماله، وكتب فيه بأن يقتل حامل هذه الرسالة. ثم قال للأعرابي: ائتني بالرد. فخرج الأعرابي وفي الممر تلقاه الوزير، وقال له:ما هذا يا أعرابي؟
قال: رسالة حملنيها الخليفة لأحد عماله. فأكل الحقد قلب الوزير، وقال في نفسه: يثق به بعد الذي قلته عنه ؟! ثم قال للأعرابي: هاتها أنا سأوصلها بنفسي، وأريحك من هذا العناء يا أخي الحبيب.
وياللقدر! ذهب الوزير ولقى حتفه. وبعد أيام سأل الخليفة عن الوزير وعن الأعرابي، فأخبروه أن الأعرابي في المدينة. فتعجب الخليفة، وأمر بإحضاره، ثم سأله عن أمر الرسالة، فأخبره أن الوزير قد أخذها عنه. قال الخليفة للأعرابي: ما قصتك مع الوزير؟ فقص عليه قصة المأدبة، والثوم. فقال الخليفة: لذلك كنت تخفي فمك؟ قال الرجل: نعم يا مولاي. فقال الخليفة كلمته المشهورة: لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله.
اصبر على كيد الحسود
فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله
إن الحسد نار حارقة، تبدأ بصاحبها الذي أججها، وأوراها، فكان وقودها وغذاءها. ومن أدلة ذلك إبليس وما ناله جرّاء حسده لٱدم – عليه السلام – حتى نال لعنة الله، فقال تعالى: “وأن عليك لعنتي إلى يوم الدين” أما ٱدم فتاب الله عليه “وعصى ٱدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى”
وأيضا ما امتدت يد قابيل لأخيه هابيل بالقتل إلا بسبب حسده له، وحنقه على ما رزقه الله، فما نال إلا الخسران المبين “فأصبح من النادمين”. وما تمادى صناديد الكفر في عتوهم ونفورهم وطغيانهم إلا للحسد الكامن في صدورهم، وما وجدوه على النبي – صلى الله عليه وسلم-، فقالوا :“أهذا الذي بعث الله رسولا”، وزادوا في حسدهم وغلّهم فقالوا: “لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم”؛ فجاءهم الجواب من ربهم“أهم يقسمون رحمة ربك”

إن الحاسد يستكثر نعمة الله عليك، ويرى أنك لست أهلا لها، بل يرى أنه أحق بها منك.فيكون بفعله هذا أقرب للكفر؛ لأنه يتهم الخالق – ضمنيا – بعدم العدل -حاشاه- فتفوح من عينيه رائحة البغض، وتشم من كلماته نتانة القول، وترى من أفعاله سوء المنكرات، وما تخفي صدورهم أكبر؛ ثم يطلق لسانه المسموم في تشويه القامات، وذم الأعلام والنعمات، فيحقر ذوي المكانات المرموقة، ويضع من ذوي الأسماء المعروفة، فيجمع قواه لتصيّد أخطائهم، وتتبّع زلاتهم، واقتفاء عثراتهم حتى أبواب ديارهم. وهذا الحاسد لا يهدأ له قلب، ولا يرقأ له دمع حتى تزول نعمتك، وتنطفئ سطوتك، وتندثر مكانتك.
نقول له: هوّن عليك يا مسكين، فلن تحرق إلا صدرك، ولن تقتل إلا نفسك، وانظر إلى من كانوا مُثُلك العليا في الحسد والضغينة، هل نالوا إلا عاقبة الخسران المبين؟ “وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله”. فحاول أن تطهر نفسك مما ابتليت به، وألا تجعل للشيطان عليك سبيلا.
أما أنت أيها المحسود فأقول لك: اعلم أنه لا يخلو جسد من حسد، واعلم أيضا أن كل ذي نعمة محسود، وأنه قد يسخّر الله لك ذلك الحسود لنفعك، ورفع قدرك، فيعرّف الناس بك، ويدعوهم إليك، ويشوّقهم لرؤياك وهو لا يدري، كما يقول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت.. أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت..ما كان يعرف طيب عرف العود
ونختم بالحكمة القائلة: لاحيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، ولا سلامة من ألسنة الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى