خالد خليفة يغادرنا وحيدا.. في عالم احترف الصمم كي لايسمع صوت الحرية
فاتن حمودي|كاتبة وأديبة سورية
الروائي والسيناريست خالد خليفة: يغادرنا وحيدا على أريكته وسط ليل دمشق المريب
الموت قمر مكتمل، يضيء علينا و يحصدنا واحدا تلو الآخر، فرادى وجماعات، فكأن الليل و الموت يعرفاننا جيدا، الليل الذي نعيشه، لنسقط أخيرا في الغياب الحتمي، ولأن “الموت عمل شاق”، كما قال الروائي خالد خليفة، الذي فُجعنا به، والذي توفي في منزله بدمشق وحيدا تماما وعلى أريكته.. نحن نموت وكفى، نموت محاصرين بالمحرقة، والعزلة الأضطرارية، والبحث عن منأى في المنافي، مسورين بالقلق و حمى السؤال.
التقيت خالد خليفة في فرح الصديقة ألما عنتبلي، قطعنا دربا من أبوظبي إلى دمشق ومن ثم إلى حلب، هناك مضينا إلى حارات حلب، و ذاك البيت العربي الذي جمعه الحب، كان خالد و ألما و أيفا، صبايا و شباب يرقصون، فترقص معهم النجوم، وكأننا في فيلم أو رواية، كان خالد يضج بالفرح و الحياة، يغني القدود، و يزداد سمرة وجنونا، كان الرقص لغة الجسد و الفرح و العشق والجنون.
دخل عام 2011، ودخل معه الليل والموت، وهكذا باتت المرثيات في الشعر، وأصبحت مفردة الموت تخيم على الحياة، وتمشي في النصوص والكتابات السردية، نعم الموت عمل شاق.
في ظل هذا المشهد التراجيدي، كتب الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة روايته، “الموت عمل شاق” بعد “مديح الكراهية” و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”حارس الخديعة”، و”دفاتر القرباط”، هكذا كان الموت والطريق من دمشق إلى حلب، ومن حلب إلى الحسكة والقامشلي والدير والرقة و درعا، وحمص و السويداء، ليمتد هذا الظل الثقيل إلى بيروت، يا للسخرية المرة.
تتمحور الرواية حول وصية طالما سمعناها في بيوتنا، من أهلنا و أجدادنا، وهي طلب الأب المحتضر “عبد اللطيف السالم”، من ابنه بلبل” أن يدفنه بقريته العنابية بجانب أخته ليلى.
فهل هو الخوف من الوحدة بعد الموت، أم هو البحث عن الطمأنينة، و ربما بيت أخر وحارة وجادة هي جادة الموت، هكذا يهزم الجسد، لاشي سوى الكتابة، الكتابة هي الحياة في كل تداعياتها، هي القنديل في هذه العتمة المريبة و الليل الحالك.
يحاول الابن بلبل، أن ينفذ الوصية، الوصية التي تشكل في الزمن والمكان السوري مأزقا حقيقيا، وهنا تبدأ اللعبة، وسط مكان ممزق، حواجز، أحتلالات، صراعات، فالعبور من مكان إلى آخر يعني التحرك وسط حقل ألغام.
في هذه التراجيديا، ثمة من أختار البحر قبرا شاسعا، و ثمة من أختار القبر بجوار أخته، و في قريته، وهنا تتحوّل المهمة إلى شيء كارثي، و يتحول السرد إلى كاميرا تصور المدن و القرى و العيون، هكذا قرأ خالد خليفة الموت، والذي تحوّل إلى تيمة نقرأ من خلالها التاريخ، والحرب ومألات البشر.
و تواصل نتاجه الإبداعي الذي يرصد القمع الذي تعرّض له المجتمع السوري، في عمله “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، الرواية التي حملت الكثير من الأسئلة الوجودية والمصيرية، قلق الإنسان وخوفه، خراب الحياة العربية، الأنظمة الأستبدادية، محو الهوية، في هذه الرواية كتب بجرأة و لغة وجدانية عالية، كل ما هو مسكوت عنه في الحياة العربية عامّة والحياة السورية خاصّة.
هكذا يحمل الكاتب الوجع السوري، وما يمارس على الإنسان من قمع و قتل، “لاسكاكين في مطابخ المدينة”، هذا الحفر العميق في الشخصيات ومعاناتها من الخوف والبطش،والرغبات المقتولة، يتناول هذا من خلال سيرة عائلة اكتشفت أن كل أحلامها ماتت وتحولت إلى رماد كما تحولت جثة الأم إلى خردة يجب التخلص منها ليستمر الآخرون في العيش. حازت هذه على «جائزة نجيب محفوظ للأدب» عام 2013، ودخلت في القائمة النهائية «القصيرة» للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2014، المعروفة باسم «جائزة بوكر العربية».
هكذا يمضى خليفة بمشروعه الروائي والذي يلامس التاريخ والمجتمع، فكتب رواية “لم يُصلِّ عليهم أحد” (2019)، عاد من خلالها إلى القرن التاسع عشر، راصدا النظام العثماني، من خلال الطوائف والأديان وتحولات المجتمع والبطل هو مدينة حلب، عبر قصص متشابكة عن الحبّ الملاحق بالموت، والموت المحقّق عبر المجازر والطاعون والزلازل والكوليرا، ومفهوم الهويّة والانتماء وأسئلتهما.وهو ما أكده في حواراته، بأن الرواية “متخيلة وهي لا تقارب الحالة السورية الآن نهائياً سوى في السؤال الدائم المتمثل بفكرة سؤال الهوية”.
وبالتأكيد فإن هذه الرواية، ليست مجرّد رواية عن طفل مسيحي ناجٍ من مجزرة في ماردين، طفل تربى عند عائلة مسلمة في حلب، بل رواية متخيلة و ممسوكة بخيوط الواقع، عن الطوفان والقلق البشري، مصائر صغيرة تقودنا إلى مصير أكبر لمدينة حلب، هذه المدينة التاريخية التي تفوح منها رائحة الغار، والصوت و الغناء والموسيقى، والتي شهدت عبر تاريخها الطويل تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة عميقة، يرصدها خليفة بتقنيّات جديدة، في هذه الرواية من خلال ثنائية الحبّ والموت.
تدور أحداث الرواية، على في حلب و أطرافها، وتاحذ من فيضان النهر عام 1907 ، حدثا لتنامي الشخصيات والمشهد داخل الرواية، فقد جرف النهر عمرًا من الحياة الهانئة على ضفتيه، وابتلع من ماتوا، لكنه أيضًا خلخل حياة من بقوا، عاشق الأحصنة لجمته ضروب الحياة وأخذ يحاول لملمة ما تبقى ومن تبقى له. والعمة أمينة الحنونة أصبحت تحلم بتطبيق الحدّ والشريعة..مصائر تأخذنا إلى حلب، بكل تغيراتها ومآلاتها من خلال ثناية الحرب والسلام، الحب والموت.
خالد خليفة استطاع أن يكون بين أهم أسماء الروائيين في الوطن العربي، وقد تُرجمت أعماله إلى عدد من اللغات، وكان حاضرا في الدراما السورية، واستطاع أن يترك بصمة حقيقية، في عدد من الأعمال، ومنها: قوس قزح، سيرة آل الجلالي، المفتاح، ظل إمراة، العراب، وغيرها من الأعمال..
هكذا يغادرنا وحيدا، وحده ضجيج الغياب ملأ السوشيال ميديا، ويبدو أن الصمت الطويل يحمل صرخات الفجيعة السورية، في عالم أراد أن يحترف الصمم كي لايسمع صوت الحرية