رشيد مصباح (فوزي) | كاتب جزائري
اليوم كغيره من أيّام الله، رأيتُ المشهد ذاته لشخص يجلس “جلوس الملوك والسلاطين والعباقرة، يناور بيده مقود سيارته ورفع بالأخرى قارورة الماء أعلى رأسه، كأنّه فنّان مغنّي فاضت نفسه عنه فأراد أن يخرج ما في وجدانه من مكنونات عبر الميكروفون الذي بيده؛ لستُ أدري إن كان هذا “الفارس المغوار” قد رأى في طريقه بشرا أم مجرّد كائنات من الحشرات الصغيرة التي لا تسترعي الانتباه و لا ترى بالعين؟
مشهد من المشاهد الغريبة العجيبة، من التي اعتدنا على رؤيتها في هذه البلدة القليلة العمران الكبيرة بتاريخها وطموح أهلها؛ لا يحدث هذا سوى في البلدات التي يعاني أهلها من الجهل والتخلّف والحرمان. جعلني هذا المشهد أندم على حياتي، وعمري الذي أمضيته تائها ضائعا في هذه البلاد؛ كان بإمكاني أن أهجر هذه البلاد الغالية كما فعل بعض أقراني؛ من الزّملاء والأصدقاء الذين كانت لي علاقة وطيدة بهم، لكنّني لم أفعل. على الرّغم من أنّني كنتُ قد سبقتهم بزيارة فرنسا في زمن لم يكن من السهل على الجزائريين الخروج فيه من البلاد؛ حتى وإن كان الفضل الأكبر في ذلك يعود لأبي الذي لم أكن أتوقّع منه أن يحملني معه إلى مرسيليا بالذّات، أين أصرّ عليّ أحد المقيمين هناك من أبناء البلدة بالبقاء معه وتعهّد لوالدي بالاعتناء بي كواحد من أبنائه، وكان عاقرا. لكن إصراره الكبير لم يفلح معي ولا مع والدي الذي لم يكن بمقدوره أن يترك ولده البكر والابن الوحيد يعيش بعيدا عنه وعن والدته بمئات الأميال؛ وأنا أتفهّم مثل هذا الشعور حتّى وإن كان فيه شيء من الأنانية.
ندمتُ كثيرا على تضييعي لتلك الفرصة؛ كما ندمتُ الآن على أشياء كثيرة ضاعت منّي ولأسباب عديدة: منها التي لها علاقة بقلّة الخبرة وتجارب الحياة، حيثُ لم أكن ناضجا بما يكفي للتفكير في ما يفيدني سواء في الآجل أو العاجل، واتّخاذ القرار اللاّزم في الوقت المناسب. لكن: كيف لمن كان يعاني يومها من شيء اسمه “الرُّهاب الاجتماعي” وهو لا يعرفُ عنه شيئا ولا كيف أصابه، و لا يدري ماذا يفعل كي يعيش حياة هادئة وطبيعية عادية كغيره من البشر؟
ندمتُ كثيرا على بقائي في هذه البلاد، وعلى كثير من القرارات كالزّواج بغرض الاستقرار؛ فلم أكن أعرف شيئا عن هذه “المغامرة”، ومع ذلك قبلتُ بأن ألعب دور الضحيّة “كبش الفداء” وتحمّلتُ مغبّة العواقب، و مازلت أتحمّل مشقّاته وتبعاته.
ندمتً كثيرا على البقاء في هذه البلاد، وعلى اختياري للإدارة كوظيفة وتخصّص، وعلى المكان الذي اخترته من الوهلة الأولى ليكون محطّتي الأخيرة؛ كنتُ قد زرته من قبل بسنوات؛ قبل حتى أن يتمّ تعييني فيه، وترك انطباعا مميّزا في نفسي، فكان المكان الذي تحطّم فيه مساري المهني ومستقبلي.
ندمتُ قبل هذا على سوء اختياري للأصحاب، فقد كانت علاقاتي كلها تقريبا عشوائية وعابرة، وأثّرت سلبا في شخصيّتي ولم استفد منها شيئا.
ندمتُ على تضييع الأوقات في اللّهو والعبث. ولو أنّي تمسّكتُ بالرّفقة الصّالحة ما كان هذا الشعور البائس بالنّدم الشديد على ما ضاع منّي، يعرف طريقا إلى قلبي.
تكلّمتُ في البداية عن الشخص الذي في الحقيقة هو واحد من عشرات المتعجرفين الذين لا يدركون أنّهم لا يساوون شيئا مقارنة بهذا الكم من المجرّات في هذا الكون الشاسع المترامي الأطراف. وأنّ هذا المتكبّر الذي يقود سيارته ةلا يرى بشرا أمامه، هو في الحقيقة يستمدّ قوّته هذه من عدد هائل من الشُّعيرات والأوعية الدّموية التي لا تُرى بالعين، والتي إن هي تعرّضت لخلل ما ولسبب من الأسباب أفقدته تلك القوّة والعجرفة.
كرّهونا في الحياة في هذا الوطن العزيز بمثل سلوكيّاتهم هذه المتعجرفة، على الرّغم من جمال وطني وطيبة أهله؛ وطني الذي قد لا تختلف كثيرا عن أوطان الغير التي قصدها بعض أقراني واختاروا العيش والاستقرار فيها، بل هو أبهى وأجمل دون شك. لكن الغير أفضل منّا بتواضعهم ورقّة طبعهم.
هذا الوطن الجميل الذي أصبح العيش فيه لا يطاق بسبب بعض السلوكيّات المشينة، والتي لم تعد حكرا على الجهلة والبسطاء، بل صارت ميزة لدى بعض أنصاف المثقّفين المتعلّمين الذين جاءتهم الفرصة وتقلّدوا مناصب ووظائف شبه سامية، فتولّدت لديهم قناعة بأن أخلاق التّواضع مُذلّة، ولا تليق بمكانتهم الاجتماعية ولا بمناصبهم السّامية؛ ويبدو أن جامعاتنا لا تدرّس التواضع ولا تعلّم الأخلاق؛ والتواضع صفة من صفات العلماء؛ ولقد نشر أحدهم في صفحته على الفيسبوك صورة لعالم روسي لا يختلف كثيرا في زيّه ومظهره عن المواطن البسيط فنالت حظّها من التقدير و الإعجاب: “لا يعرف قدر الرّجال إلاّ الرّجال”! يقول المثل. وكيف يعرف الجاهل قدر غيره وهو لا يعرف قدر نفسه.
عن التواضع وأهميته في العلاقات الإنسانية في المجتمع وبين الأفراد أردتُ أن أكتب هذه اللّيلة، وأخرج ما في جعبتي وأتقيّأ. والتواضع الذي أردتّ الحديث عنه هو ذاك الذي يميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات، لأنّه ينمّ عن بساطة ووعي صاحبه وسلوكه الرّاقي؛ وهو الذي من أضداده: العجرفة والكبرياء.. ولا أقصد بالتواضع: التذلّل والخضوع والخنوع كما يراه أصحاب الوظائف السامي، فهذا النّوع من التواضع المتصنّع مذموم:
“متصنّع الود أقبح من صريح العداء”
ــ كما جاء في المثل ــ
