بقلم: طارق حنفي| مصر
يبدو كما هو رغم مرورِ السنين، كأنَّ الزمنَ قد توقفَ أمامَه طويلًا؛ يتأمَّل في وجهِه الطفولِيّ الجميلِ، وابتسامته الصافية، وحركاته التي يغلبُ عليها النشاطُ والهِمَّة، ما زلْتُ أذكرُ مدَى سعادتِه حينَ يركلُ الكُرة وتصيب هدفها، فيقفز عاليًا في حماسة جَمَّة..
لم أستطعْ منعَ ابتسامتي عندما فقدَ توازنَه، وسقط على الأرض، بعدَ أنْ ركلَ الهَواءَ بدلًا من الكرة، قامَ مُسرعًا يجذبُ سروَالَهُ القصير إلى أعلى، والمخاط الذي يسيل من أنفه يجعل التقاطَهُ أنفاسَهُ مهمةً صعبة..
ثم انحني يثبت الكرة في مكانها مرة أخرى، خطا بضع خطوات إلى الخلف قبل أن يعود إليها مسرعًا، وقد اكتسب من تسارعه بعض العزم الذي يساعده على ركلها بقوة أكبرَ؛ فلا أستطيعَ التصدي لها، لكنها بدت لي ضعيفة على غير العادة!.
مهلًا، إنه يرتدي نفس الثياب! لكن كيف؟ لقد مرَّت أعوام منذ
آخر مرة لعبنا فيها معًا، هنا، في نفس المكان من الحارة المُكتظَّة بمنازلَ قديمة مبنية من الحجارة الكبيرة، تصطف في شموخ وتحيط بساحة ملعبنا الصغير، يكاد عبقها يعطر أنفي، قديمة قدم مدينة القدس نفسها..
فجأة انهالت القذائف تضرب كل شيء من حولنا؛ أطلق صرخة فزع عالية، هَجَّرت الابتسامة من وجهه، وَسَكَّنت في قلبه الخوف، بدأت الحارة تنهار والمنازل تتهدم، ثم توقفت الانفجارات، ورويدًا أخذ الغبار ينقشع من أمام عيني، كما انزاح ضباب الذكريات من عقلي، ورأيته مرة أخرى، ما زال يقف هناك..
ها هو “وليد” يقف ممسكًا بالكرة في حماسة، والبراءة تملأ وجهه الطفولي، يرتدي قميصًا وسروالًا قصيرًا، نفس الثياب التي كان يرتديها منذ نحو عشرين عامًا، حين أطلق العدو قذائفه، وانهار فوقه جزءٌ من أحد المباني وقتله.
هاجرت مع أسرتي بعدها، وأكملت تعليمي في الخارج، وبعد مرور السنين عدت، اتجهت مع أول شعاع للشمس إلى المكان الذي يموج بالذكريات؛ لعلي أجد طيفه، وأخبره كم تمنيت لو كنت أنا من يقف في الجانب الآخر من ساحة ملعبنا الصغير، تطلعت إليه وقد استطاع صوتي أخيرًا أن يتجاوز غصة حلقي: “سامحني، أيها الصديق”، اتجهت إليه وجثوت أمامه على ركبتي كمن يجلس للتشهد الأخير..
ذاب وجهي خجلًا عندما حاولت أن أخبره بأن دمه لن يذهب سُدى، وسيأتي الوقت الذي نقتص فيه من قتلته، تطلعت إليه لحظات انسابت فيها من عيني الدموع، ثم انحدرت الكلمات من فمي: “وليد، يا صديقي، لقد طُفْت بمعظم عواصم العالم، ومع كل زيارة كانت تزداد دهشتي، وأضرب كفا بكف؛ كيف لا يرى العالم الصهاينة على حقيقتهم؟ ألم تظهرْ أفعالُهم وأقوالُهم مدى قبح نفوسهم، وتشوه أرواحهم، وظلمة قلوبهم، وشذوذ أفكارهم؟! إنهم في محاولاتهم إفساد العالم والسيطرة عليه، مثل الابن العاصي الذي يريد أن يُفْسِد باقي إخوته؛ لا لشيء إلَّا لِيُثْبِت لأبيه أنه ليس هو فقط من يعصي بل جميع أبنائه يفعلون، وفي صبر يتحيَّن الوقت المناسب؛ ليقتل إخوته ويستحوذ وحده على حب الأب واهتمامه..
يحاولون أن يُدوِّروا الأحداث، ويعيدوا إنتاج الماضي؛ ليتسنى لهم فعل ما لم يستطيعوا فعله سابقًا؛ ليبرهنوا لله أنهم شعبه المختار؛ والذي يجب عليه أن يعطيهم مفاتيح عالمي الملك والملكوت.
كمن انتهى من التشهد الأخير وقبل التسليم دعوت الله وناجيته: “يا الله، أين العدل؟ وقد سيطر على العالم قومٌ خلطوا بين فلسفة عبادة الأصنام وبين توحيدك وعبادتك، والانصياع لإرادتك وأوامرك..
يا الله، لقد أرسلت العبد الصالح يخرق سفينة المساكين رحمة بهم، فرحمتك بنا، والصهاينة قد قتلوا المساكين وأحرقوا السفينة.. ثم أرسلته ليقتل الغلام رحمة بأبويه الصالحَين، فرحمتك بنا، وهم قد قتلوا الغلام وأبويه، أقام الجدار حتى يكبر اليتيمان ويأخذا كنزهما، فرحمتك بنا، وهم قد هدموا الجدار وسرقوا الكنز وسجنوا اليتامى؟”.
كمن يراني طيفه نظر إلي وليد وابتسم، وكمن انتهى من صلاته سلمت عن يميني، فرأيت نورًا عظيما يملأ الأفق، ثم عن يساري ورأيت نفس الشيء..
ظهر النور من أمامي وخلفي، تَلَفَّت حولي أتطلع إليه في انبهار، ثم دوت فرقعة في السماء؛ نظرت إلى أعلى فوجدتها مُلِئَتْ أبوابًا، بدأ يتسلل منها النور رويدًا، ما لبث أن عَظُم، ثم غطى كل شيء..
لقد فُتِّحَتْ أبوابٌ من نور.
من المجموعة القصصية (كشفنا عنك غطاءك) الطبعة الأولى ١٢/ ٢٠٢١