الكاتبة فخر هواش | سوريا
لم أكن أعلم أنِّي حين أغادرني سوف أصل إلى الطرف الأخر مني ولم أكن أعلم قبلاً ما معنى أن أكونَ خارجي إلى أن رأيتُ العالم كلهُ بي٠٠٠
مازلتُ أحاولُ أن أتلمسَ نبضي ٠٠أختبر حواسي ٠٠أشاكسُ ذاكرتي ولكن بشكلٍ مختلف عمَّا كانت عليهِ قبل أن أغادرها و أعودُ إليها ٠٠بل قبل أن (يعيدوني إليها )
هل حقا كانت دقيقة واحدة أم أن الوقت وهنا فقط بطيءٌ بقياس الزمن كي يتناسب مع إدراكنا لكينونته.؟
مازلت في حالةٍ من الذُّهول لا أملك معها التَّصديق ولاحتى المقدرة على استعادة شيءٍ من توازني ..
حين كنت غارقاً في غيبوبةٍ لا أتلمس فيها سوى العتمة وصدىً لأصوات مبهمة تبدو بعيدة عنِّي وبرودة تكاد تنفذ من أطراف أصابعي رغم حرارة الجَّو المرتفعة كنت مسجلاً على قيد الحياة إلى أن بدت لي بقعة ضوء صغيرة راحت تتسع حتى غدت بوابة يتدفق منها عبقٌ لم أعرفه من قبل ونسائم تلامس الروح ونور يجذبني إليه بحنو ويغريني بالإحتواء….شعرت أنِّي أطير بخفة ريشة وأعبر من خلالها ليترائى لي عالم واسع المدى لا حدود فيه للرؤية … لا شمس في سمائه إلا أنه دائم الإشراق ..لا عوالم واضحة إلا أنَّه مكتمل الجَّمال ..لا مشاعر تتلمسها وتحاول تسميتها ..هو الحب والسلام فقط..وهذا العبق الآسر…لم أكن أعلم أن للحب رائحة تطغى على كل شيء وتمهره بصبغتها من قبل… أنوار كثيرة تسبح في هذا الفضاء من حولي في فرح مطلق تتفاوت في توهجها تتقارب وتتباعد ولسبب أجهله تلفَّتُّ إلى الوراء لأرى كل شيء غارق في غمامة داكنة …الصورة الوحيدة التي تراءت لي كانت لعائلتي حيث كان الجَّميع يقفون في بهو المشفى يمارسون طقوس فجائعهم ولكني سارعت وأشحت نظري وعدت أتأمل الأنوار ..
ذلك النور ….لماذا يبدو طاغياً ومختلفاً للدرجة الَّتي بتُّ معها لا أريد أن أرى سواه …؟
ولماذا يجذبني بهذه القوة ….؟
ولماذا أشعر أنه في داخلي وكأنه شوق دفين في ثنايا روحي من قبل أن أكون …؟
مازلت أحاول الإقتراب منه أكثر فأكثر ورغبة تتملكني للذوبان فيه وكأنه المشتهى. والمنتهى…
رغبة لمعرفة من يكون ..
ها أنا أكاد ألامسه أشم عبقه أستشف حقيقته…
بلى …
لقد عرفته …أنه…؟!
وكمن سقط من علوٍ شاهقٍ إلى أرضٍ صلبةٍ ناتئةٍ بفعل ثقلٍ طارئٍ شعرت به مع أول نبضة اخترقت يباس قلبي المتهالك وأعادت إليه الحركة من جديد كأن الدماء عادت تسري في أوردته كما لو أنها مياه ضحلة تتدفق ببطئٍ شديدٍ في أرضٍ قاحلةٍ تصدرُ صوتاً موجعاً وهي تتهادى بين شقوقها الجافة المتصدِّعة لتعيد معها ثقل يجتاح جسدي ببطء شديد …..
في الصباح كان الجَّميع يحتفون بعودتي للحياة ويردِّدون عبارات الشُّكر لله وادعاء المعجزة والكثير من الثَّرثرة التي لم أكن أريد أن أتبينها أو افهمها فأنا مازلت عالقاً بين عالمين ….عالم ناطقٌ بصمت وعالم صامتٌ بنطق…عالم يلفظني منه وعالم يجذبني إليه…
بعد القليل من الوقت والكثير من التَّفكير والمحاولات اليائسة لإستعادة نفسي وبصعوبةٍ بالغةٍ في النطقِ طلبت ورقةً وقلماً ممَّا استرعى انتباه الجَّميع والسُّؤال عن السَّبب
_أريد أن اكتب وصيَّتي
_تقصد أنك تريد أن تعدِّل على وصيَّتك
_بلى
تحلَّق الجَّميع من حولي و عيونهم تفضحُ مافي في قلوبهم من خشيةٍ وقلقٍ أو ربما شيءٌ من الأمل ولكنهم يترقبون بفضولٍ كبير.. فربَّما قد أزيد لهم العطايا بعد هذه التجربة الفريدةِ الَّتي مررتُ بها أو ربما تكون قد أثرت بي إلى الدرجة التي تأخذني عاطفتي معها إلى مكان ٱخر تماما…
بعد الإنتهاء من كتابةِ الوصيَّة بصعوبةٍ بالغةٍ وبأحرف كبيرة غير منقوطة كثيرة الإنحناءات وضعتها في يد الطبيب الَّذي قرأها بصوتٍ عالٍ على مسامع الجَّميع :
في المرة القادمة الَّتي يتوقف فيها قلبي أرجوكم أن لاتصعقوه بضربات الحياة الموجعة كي تعيدوا إليه الكهرباء….