بقلم: عقيل هاشم | العراق
(الاهداء: إلى الذين قذفتهم الأمواج في حضن الحصارات المتشابهة وأرهقتهم حقائب سفر اللقاء المحمولة على اكف المسافات)
الأديب الفلسطيني محمد حسين عرفته الساحة الثقافية ساردا بارعا ,والمتتبع له يجد ذلك المثقف الملتزم والناقد المؤثر في طرحه ومشاكساته التي تؤثث روح الحكي.
ربما يكون السرد قد شكّل الجزء الأوفر من تجربته، لذا فهو لا يكتفي بكتابة القصص او كتابة الرواية وقول الشعر, هذا الشغب في الكتابة إنما هو الهاجس الذي يسكنه وجعله يعزّي روحه أكثر، ويطلق العنان لنفسه في الإسهاب لتفسير ذاته. إنها محاولة جادة للكتابة وتعبير عمّا يدور بخاطره ربما يكتفي بالبوح لنفسه عندما يضيق صدره , و يمكن أن يكون تعبيرا عن حالة شعورية تلح عليه فتجبره على قصها على الورق هي صور المشاهد الحياة اليومية والتي أسهمت في ولادة قصصه المستعرة ,
ظني هذا القلق الدائم والذي ما يزال يلازمه ككاتب مشغول بهموم الوطن-المرأة/الانسان /الوجود/ الحرية ,ولا يمكن لها أن تنتهي ابدا وستظل مستعرة بعد الإنتهاء من الكتابة وأدرك أيضا أن كل ما يسعى إليه قد يستحصل عليه لاحقا من الذاكرة ,هذا هو سحر الكتابة.
وإذا كان نمط الكتابة “التجريب” أصر الكاتب أن يتمثله , والذي يحبل بصنوف شتّى من الإبداع والإبتكار، هو لأجل خلق ذائقة جديدة تكافح المرجعيات التقليدية والمحافظة والمرتعدة من التغيير والعبور إلى عالم المغايرة والحداثة .
لا باعتبارها رؤية جماليّة فحسب ، وإنّما كمفهومٍ فكريّ يُوجّه فعل الكتابة من الداخل ويجعلها تفتح لنفسها آفاقًا تخييلية جديدة، ولا تقف عند المُتعارف عليه من أنماط الحكي وتقنيات السرد وفتنة الشكل، بقدر ما تُكسّر فتنة الشكل السردي وتفرض مُعاينة جديدة في تشريح الواقع وفق شخصياتٍ يائسةٍ تعيش على حافّة البؤس والتّرحال.
إذْ يستلهم الكاتب في نصّوصه تقنيات أجناسٍ فنّية وتوظيفها داخل القص، سيما حرصه الشديد على مفهوم التصوير والعمل على بلورته داخل نصّ أدبي عن السر الكامن في سرد قصصه وعوالمها الفكريّة وأساليبها الجماليّة،
الكاتب محمد حسين إبن المخيمات قد امتطى صهوة الكتابة , وكان هذا الكشف واضحا من خلال أعمال إبداعية مقتفيا أثر الحكي بمعاول أكثر عمقا استلهمها من اطلاعه الواسع على أدب الواقع –أدب اليوميات .
يطل علينا بعمل جديد مجموعة قصصية بعنوان (مدارات امرأة ) والصادرة من دار دلمون الجديدة 2023 بالتعاون مع أكاديمية دار الثقافة في بيروت – التقديم للكاتبة اسراء عبوش جاءت فيها (يحتاج الإنسان للاتزان للدوران في مدارات امرأة ,يدور الكاتب بالقارئ حول الحياة , المرأة قد تكون الحياة نفسها وقد تكون شريكة الأمل , وقد تكون رفيقة الطريق , يقدم الكاتب المرأة بشفافية ,تجدها في نهاية بعض القصص تهمس برفق , تربت على الكتف الموجوع وتستمر بالبوح)
أقول الكاتب هنا كان راصداً ومسائلاً هذه المرة عن حيوات ومآسي يعجز اللسان عن وصفها، مقتحما ممرات غائرة ، وجروح لم تندمل بعد . قصص تنتمي للكتابة الصادمة، يعيش القارئ بين ثنايا سطورها، بين انسيابية كلماتها وجرأتها.
إن مبدع هذا العمل بحق كاتب مهموم، متحرِّق، توشك أن تسمع أناته وخفقان قلبه في كل فكرة ينقدها وفي كل جملة قصيرة يسطرها، إنه عمل يستحق منا أكبر من وقفة.
اشتغل الكاتب على محكي متداول (المصائر) ، وتخييل مستمد من واقع المخيمات يتعرض المواطن خلالها لأبشع أنواع الاستلاب إنه النموذج الذي يخضع لسلطة القهر؟,
القصص مشحونة بدلالات مهمة، أراد من ورائها الكاتب تمرير رسائل مشفرة، وتسجيل أدق التفاصيل عنها،
( اما الاديبة بديعة النعيمي فقد كتبت ورقة نقدية للمجموعة القصصية جاءت فيها : مدرات امرأة اتصفت بطابع الحزن لكن محمد حسين سمح لخيط من الفرح والسعادة انطبع بطابع القلق الوجودي والنفسي الذي سيطر على الابطال بسبب واقعهم بالتسرب إلى دواخلهم وكمال قال :سعيد لياسمين :لايزال في الدرب أبواب مقفلة تخفي خلفها وهج الشمس مجبولة بالأمل )
مجموعة قصصية للكاتب محمد حسين ، تتكون من (61) قصة قصيرة تنوع فيها السرد والدهشة، وكانت عنواناتها (طرابيش/الوجه الاخر/ورقة تنتظر العبور/علبة الكبريت /زمن خاطئ/ رسالة حلم /رحلة لم تكتمل / ابواب حديدية / ذكريات مؤجلة …..الخ)
( تقدمة أخرى للكاتبة تغريد عبد العال جاءت فيها : مدارات امرأة مجموعة قصصية تحاول أن تشتبك أسئلتها مع اسئلة الواقع , أن تضيء بجملها الشعرية زوايا معتمة منه وأن تجمل من تلك اللحظات الهاربة فيه محطات للتأمل في معانيه . إنه يحرض بطريقته تلك المرأة على الكتابة على صدر الليل.)
قصص موجعة نسجها كاتبها من حكايات اليوميات للمخيمات في هذه المجموعة يقدم الكاتب قيم إنسانية وأخلاقية في قالب سردي قصصي منسوج بسلاسة وفلسفة عقلانية. تجعلنا نقف فاغري الفاه حيارى نتساءل عن ماهية تلك العلاقة التي تربط الأنا بالمكان بالأشياء، وكل ذلك هو جزء من ذاتنا .
تقدم لنا (مدارات امرأة ) رحلات متنوعة من حيوات-امكنة جمعت فيها أفكارا نعيشها بنمط قد يكون موازيا بشكل أو بآخر، لكنها تدهشنا
مشاهد صادمة حملتها سطور القصص بسخرية سوداء عرّت واقعا كان متدثرا بأوراق التوت، مشاهد مأساوية عاشتها الشخصيات ، يدرك القارئ مدى توترها النفسي من خلال الجمل القصيرة ورغبة الكاتب في إظهار آلامهم، لا وقت لديهم للفرح أو للأمل. تم سردها برؤية نقدية حداثية ، ارتكزت على تعرية ممارسات لا انسانية . فالكاتب هنا هو من يقود أبطاله، ممسكا بخيوط اللعبة كلّها، ،انغمس بذاته في اختراق تشعباتها ومتاهاتها في تقمص مدهش .
(صباح يصافح النافذة بيد الضباب يخنق صوت العصافير المهاجرة من رحلة الصيف المشرئب.
.سلام الجالسة فوق كرسيها القديم ترتب أوراقها التي بعثرتها الرياح المتسللة من شقوق نافذتها .تحتسي قهوتها الصباحية منتظرة قدوم العصافير المتوجه بزقزقات عذبة تتناغم وصوت فيروز)
فالجمل مشحونة بدلالات قوية رقم قصرها، عليها طابع الوصف التخييلي .إنه وعي جديد بسؤال الكتابة ورؤية إبداعية جديدة للعلاقة بين الذات والمجتمع ، أشكال سردية تمارس لعبتها في تشكيل العالم السردي، من خلال تشظية السرد وأنسنه الاشياء واستثمار التذكر وتهجين اللغة .
وقد صوّرها كاتبها كأنها شاخصة أمامنا، فمن عاش تلك الفترة، طغى خلالها صوت القمع حيث بسط مخالبه على كل مناحي الحياة، البناء العام متماسك، حيث تتشابك الأحداث المتأزمة بسرعة لأن الواقع أكبر بكثير ممّا يتصوّره أي نص مهما كانت جرأتها.
وقد أكد الكاتبان تحضـر المرأة ببهائها، اقول لا وجـود لكتابـة رائعـة بدون المرأة، لكن حضورهـا لا يأتـي من أجل الزينـة، وإنمـا يولد من أعماق التفكيـر في كنـه الحياة والتعبيـر عنهـا.
تتعاقـب هذه القصص وتتوارد بشكـل غريب، وكأنها في شموليتها تؤدي وظيفـة تعبيـرية تقربنـا من الحالـة النفسية التي يعيشها ساردها- افرادها معا , إن هذا الرصـد الدلالـي لحمولات النصوص، تجعـل المتلقـي يلحظ ذلك التناقـض الذي تزخـر بـه شخصيـة الكاتب- الافراد ، أو ربمـا الأصح أن نقول يلحظ تلك القـوة والرغبـة في تجـاوز كل الموانـع والمصادفات التـي تعجـل بحلول كل مقومـات الأسى والدمار. ولعـل المراد من إيراد هذه الدلالات هو رغبـة في إثبات فكـرة مهمـة يسعى كل كاتب حداثـي إلى ترسيخهـا، مفادها أن المعاناة النفسيـة كلهـا سبل تقودنـا نحـو بدايـة جديدة تبعث فيها أرواحنا المدفونـة تحـت أنقاض النهايـات الوهميـة التي نصنعها لأنفسنـا…
(متعب جدا من غسيل الذكريات .أحبال الزمن تئن من تساقط حبات الفرح الهاربة من شدة الغسل .غسالة الزمن القديم صاحبة الفم الباسم تقضم الغسيل تحيله الى كومة من البكاء .غسالة الزمن الحديث جالسة في زاوية ,اطبق الوقت ذراعيه عليها .لاتستطيع الإقلاع لأن نصف أصابعها بترت عندما دخلت في طاحونة الحسابات .ماذا سأفعل ياهدى في ثنائية الزمنين؟ زمن يقضم أضلاع المشتهى وزمن توقف في محطة فقدت وقودها في زحمة البحث عن الماء )
وقد صـورت لنا هـذه المقاطـع قدرة الكاتب شعريا على التلاعـب بالألفاظ والدلالات معـا، حيث يدخلنـا في جو من البؤس بألفاظـه المأساويـة المميـتة، ثـم سرعـان ما يبهرنـا بتلاشـي هذا البؤس معلنـا بعثـه واحتفاءه بالحيـاة وحديثه عن انسنة الأشياء .
ليـس غريبـا أن يأخذنا الكاتب إلـى عالم التأويـل ، بسبب عتباتـه الغامضـة التي يفتتـح بها قصصه، وإن ساقها على هيئة “مدارات امراة ” يجعل أشرعـة السؤال تتسلـل إلى ذهـن القارئ ليحاول تفسـير تلك العلاقـة الباطنيـة والخفيـة التي تربـط بينها- الجزء مع الكل / بتر الاصابع =الجسد..
إن هذه القصص والتـي تحمل بين ثناياها مجموعـة من الأفكـار المشيدة تحظى بأهميـة الإبداع بشكل عام في بعـث الحيـاة في زمـن لا يسوده إلا المـوت…
وهي بالتالي تكاد تلخص لنا كل هذه الشعرية في الكتابة التي تتميز بالأفق الإنساني الواسع وبالانفتاح على الآخر ، ومن ثمة فهي تتميز بسردية الإختلاف، لأنها تبني أفقاً نثرياً خاصاً بها، وبفنية التجاوز،
(الصباح يترامى فوق فراشات الحقول .يطبع قبلاته الندية فوق جبين النساء المرهقات من وجع الحياة يناغي ضحكات الأطفال الهاربة من طوق الأبواب .يعبث بتسريحة شعر الصبايا .يحتل عطرهن برشفات من رائحة الياسمين .يسلتقي تحت إطلالة الشمس البازغة من رحم الغيوم )
ما يعتمل داخل هذه القصص زخم وافر للشجن وللفقد المستمر ,دونها كاتبها هي مزيج من رؤى وأفكار ومشاعر ذاتية وعامة ترتبط بالمحيط الإنساني,
أقول إن ما تحمله تلك القصص من دلالات إنسانية وجمالية يصوغ طقوسها كاتبها وما يدخل عليها من عناصر عاطفية تمثله وتظهر بشكل مباشر كمشاعر حزن أو ألم أو أمل. وتتجلى كذلك حين يخترق بها وبانتظام أحلام اليقظة، هكذا تُشكل اللغةُ الشعرية هاجسًا للكاتب وتحديًا حقيقا أثناء عملية الإبداع، فتصبح جزءًا أصيلاً من هذا الإبداع، والكاتب يستلهم رموزا متداولة من الألم والقهر …الخ ويعبر عنها بلغة شعرية مبتكرة ومفاجئة. وقد حضر البعد الإنساني والتداخل الثقافي عبر صور أخاذة، وتعبير ملهم في صيغ جمالية.
وقارئ هذه القصص سوف يلاحظ أنها تحمل حمولات ذاتية . ارتبطت بمستجدات الحياة والتعبير عن الهموم الذاتية ، إضافة إلى ثنائية : الموت والحياة، الفرح والحزن، سمة تكاد تطغى على القصص عموما.
(الحياة جرعات ثقيلة تتسرب في أوردة أجساد حجرية .تعصر عيونهم لكأس تناثرت شفاهه فوق مقصلة الولادة ,تحولهم إلى هياكل عظمية تشبه الخشب الناطق .تصفق لهم أمام مطحنة الأحلام .تدعوهم للنظر إلى مساحات الموت المؤجل أو التحول إلى نادي الطرابيش للأناقة والعناية بالبشرة )
فضاءات المخيمات حاضرة دائما في القصص هي الشخصية الرئيسية، هي “الذات” . وسواء كانت واقعية أو “مخترعة” تسدر في زمن متعيّن هي مسرح للحدث أو خلفية للإنسان، بل بطل حقيقي وخالق للحدث بل وللذات الإنسانية نفسها. ربما من هنا جاءت تصديرا للأمكنة .
ولعل من أهم ما يجعل القصص مؤثرة فينا ؛ كونها تعالج الجرح العميق في أعماق الإنسانية، فمستحيل أن يقرأه قارئ دون أن يجد نفسه فيها مادام الجرح واحداً والإنسانية جسداً واحداً. وهذه عبارة عن قراءة بسيطة في التيمات المهيمنة
تفاصيل من لحظات مؤثرة تعبر عن الحصار والحرب والأسر وما تحمله هذه العناصر من معاني المرارة والألم والخوف والجزع.
تجمعها قصص تصرح بالجرح النازف واصفة الموت الذي يصر على التهام الأجساد المحاصرة. كل هذا يحصل في زمن سيطرة أدوات الظلم عليه، ويظل موقف الكاتب هو ذاته في تجربته الغنية من حيث ارتباطها بالعديد من القضايا الإنسانية وخاصة منها السياسية التي كرس لها إبداعاته وكتاباته منذ وقت مبكر من حياته ، دون إغفال للجانب الفني , حاول إستعادة المواجهة بين ما هو سياسي وفكري من جهة وجمالي من جهة أخرى،
(قرب شرفة الطابق الثالث أطلت هناء على فجر المدينة .كانت شوارعها فارغة لم تر شيئاً .ساورها الشك أن نظارتها التي صنعتها وفق أحدث المقاييس العالمية قد أصابها الصدع ,نزعتها لترى عامل نظافة وطفل ورجل سبعيني يفترشون وصيف زاوية من الشارع صاحب الشفاه العريضة النائم على مداميك الأزمان المختلفة)
حكايات تنبض بالحياة وكل ما يخطر على البال مما راح مع بقايا إنسان محاصر، سجين، مغترب، لاجئ ومهمش.
وبالرغم من حقيقة الإنسان المنكسر الذي خابت آماله فلم يلقى غير البؤس قرينا له وهو يتربص في دياجر الغربة والاغتراب وهو في حضن الوطن.