قراءة في كتاب “إغتصاب الذاكرة” للكاتب إيهاب الحضري
د. هبة الغنيمي | القاهرة
تتقاطع أطروحة كتاب “اغتصاب الذاكرة”/ الاستراتيجيات الاسرائيلية لتهويد التاريخ مع كثير من هموم المؤرخين والأثاريين أيضا خاصة في اطار دراسة الصراع الحضاري سواء من الجانب التوثيقي أو التحليلي لأحداث التاريخ القديم أو المعاصر، فإن قارىء التاريخ يلحظ بوضوح صراع حضارة وثقافة مع حضارة وثقافة اخرى، وكثيرا ما كان يلجأ المحتل الى محو الآثار وبالتالي تزوير التاريخ ، وتلك هي أهم وسائل الحروب الاستيطانية ، هي وسيلة للتوغل بالخداع والتدليس والتزييف والطمس لصالح المحتل الدخيل ، وكثيرا ما كانوا يعتمدون على أن أربعين سنة فقط تمر على استيطان ما، كفيلة بأن تمحو ذاكرة الشعوب المحتلة ، بمساعدة وسائل التزييف والابادة .. ، خاصة لكل ما يُثبت من الآثار أحقية شعوب اي منطقة جغرافية في أرضها وحتمية وجود سكان أصليين .
على المستوى التاريخي ، الاشكالية كانت و لازالت في رواية الغرب المحتل المعتدي و الطامع ، رواية لأحداث تاريخ الشرق الادنى القديم في ظل الصراع الحضاري وطمع أقوام في ثروات ومعارف حضارة متفردة كالحضارة المصرية القديمة وغيرها ، ولازالت الاشكالية في رواية الغرب لأحداث الشرق الاوسط في إطار ما نعيشه الان تتكشف معه مجموعة كبيرة و خطيرة من أكاذيب الغرب التى دامت لتلعب على عقلية الشعوب العربية التي و للاسف لا تقرأ التاريخ ، فأصبحنا نشك جميعا في رواياتهم عن الحرب العالمية الثانية و كل المعارك التي انتصروا فيها ، فهل كان هتلر مجرما حقا ؟ و هل كان الهنود الحمر متخلفين كما يزعمون ؟ و هل كانت شعوب أستراليا الاصليين متوحشين كما يدعون؟
انهم يزورون الحاضر الان أمام أعيننا .. نحن شهود عيان على ميكانزم التزييف للحاضر و الماضي القريب والذي لازال في نطاق ذاكرتنا …… يحرفون المشهد ونحن نراه بأعيننا ، يغيرون الوقائع و هي أمامنا على التلفاز و في وسائل التواصل الاجتماعي !!
فبأي منطق يمكننا تصديقهم فيما قالوا في التاريخ الذي لم نعيشه ، لقد تم ويتم العبث بالوثائق التي يمكن أن تثبت الحقيقة، الأقوى يعبث بتراث و تاريخ الأضعف، والرواية يتلوها المنتصر و يروج لها أحيانا و بغباء شديد المنهزم، تلك الرواية التي تمجد الأقوى وتسيء للأضعف طالما القلم بيد المنتصر سارق الارض والثقافة والتراث وما لا يستطيع تدميره خوفا من انكشاف الحقيقة يزوره ويزيفه ويعيد صياغته بما يتناسب مع أطماعه وتطلعاته الاستعمارية طالما القلم بيده والحبر حبره والدفتر دفتره . التاريخ يصنعه من قبض على القلم .
بل أنه في الحضارة المصرية القديمة التي يزيد عمرها كثيرا .. عن 7 الاف عام كما هومشاع ، يمكن تتبع تاريخ الاحتلال الاستيطاني سواء من الفرس او الرومان او الهكسوس وغيرهم، وأبسط مثال لتزييف التاريخ وطمس الاحقيات في الحضارة المصرية القديمة هوعندما كان يمحوالمحتل اوالمستوطن الغازي أو أحد أطراف الصراع اسماء الملوك لمحو ذكراهم من الوجود اوسرقة انجازاتهم وانسابها لأنفسهم ، لم يكن محو اسم ووضع اسم بديل هوعمل ذو بعد ميثولوجي فقط كما يفسر ذلك بعض علماء الآثار بأن محوالاسم المَعني سوف يحرم صاحبه من نعيم الآخرة بل كان عملا عدوانيا ذو بعد آخر في اطار الصراع و الحروب .
وما هوحادث اليوم من تزوير للتاريخ وطمس لكثير من المعالم الحضارية في قطاع غزة خاصة وفلسطبن عامة بالقضاء عليها تماما .. أو بزرع الاثارالمزيفة للتضليل ، كما حدث في الماضي ولا زال يحدث من جرائم الكيان الصهيوني ضد التراث الفلسطيني لا تتوقف عند حدود فلسطين، بل يمتدْ ( كما نوه استاذ ايهاب الحضري ) إلى كل المناطق التي ارتبطت بقصص التوراة، كمصر والعراق وسوريا ولبنان .
إن عملية محوالذاكرة التى يخلدها النقش على الحجر أوالاواني الفخارية اوالتوابيت أو حتى طمس مدن بأكملها ، هوعمل مقصود بالطبع ومن استراتيجيات هزيمة العدو ، وجزء مهم من الحرب على حضارة عاشت امجادها قبل ان تطأ اقدام العدو جغرافيتها ، ومن الثابت اثريا إعدام كثير من البرديات الهامة بالحرق أوالتعرض لها بالتحريف ( تحريف ترجمتها و الاقتباس منها بغير وجه حق او التكتم عليها ان كانت تحتوى علوما هامة تؤدي الى تطورهم ) أوبالسرقة التى امتدت لقطع اجزاء من جدران مقبرة او معبد و نقلها لمتاحفهم للتكتم على ما تحتويه من معلومات هامة
كلوحة البروج الفلكية في سقف معبد دندرة وهو الزودياك الدائري – و زودياك هي كلمة يونانية تعني مجموعة الحيوانات التي عرفها المصري القديم و استخدمها كرموز قبل ان يعرفها اليونانيون – الذي يسكن الان متحف اللوفر الذي من المفترض انه يعود الى الفترة البطلمية – القرن الاول ق. م – الا ان هناك أدلة كثيرة تشير الى ان الملك ببي الاول من الاسرة السادسة – 2284 ق.م. – قد استخدم هذا الموقع و منطقيا و بلا أدنى تفكير الأقدم هو الاهم و هو من يمتلك المعرفة منذ البدء .
و تعد قصة سرقة الزودياك قصة استيلاء على تاريخ الغير دون وازع من ضمير ، قام بها سباستيان لويس سولينيه و هو أحد أبناء عضو مجلس النواب الفرسي آنذاك ووكيله ” جين باتيست ” فقد قاما بنزع دائرة الأبراج السماوية من سقف المعبد و نقلها الى باريس و ادعوا أن اللوحة اكتشفها الجنرال ” ديزيه ” اثناء الحملة الفرنسية .
في مواقع اثرية اخرة ليس من الثابت لدى علماء الاثار في كثير من الاحيان متى ومن قام بالمحواوالطمس اوالهدم لمنشأة حضارية هامة مثلا ولماذا .. ، ويعود ذلك لامتداد فترات الاحتلال اوالاستيطان عبر تاريخ المنطقة الطويل خاصة في مصر وما جاورها من حضارات الشرق الادنى القديم .
ذُكر في كتاب أستاذ ايهاب الحضري نوع من التزييف نعانيه الان و هو غاية في الخطورة الا و هو الخلط بين ما هو ديني و تاريخي الذي يعد مقدمة لعملية تزييف كبرى ، خاصة اذا كان هناك شك في كون اليهود الحاليين هم امتدادا حقيقيا لبني اسرائيل القدامى .
ما فعله الصهاينة من تدليس بربط السياقين الديني و التاريخي بحيث يسهم هذا الربط بخلق تاريخ يبرر الجغرافيا هو جريمة في حق التاريخ . ربما تعود أقدم العمليات الى الاقتباس من نصوص للحكيم ” أمينموبي ” الذي عاش في القرن العاشر ق. م. ووَضعها في كتاب العهد القديم ، تلك التعاليم التي كتبت من قبل الحكيم المصري قبل ان يُكتب شيء عن التوراه ، بكل تأكيد ترجمت و اخذوا منها دون ذكر المصدر الحقيقي و هو إرث أخلاقي أقدم بكثير و يخص المصريون القدماء .
كما يزعم اليهود أنهم بناة الأهرام وأن الحضارة المصرية القديمة قامت علي أكتافهم ، و هنا أقتبس من رد دكتور عبد الحليم نور الدين رئيس هيئة الاثار الاسبق رحمه الله عندما قال :
” من لا يملك تاريخًا يسعي لكي يكتب لنفسه تاريخًا، بل ويسعي لأن يسرق تاريخًا، وسمة من سمات الفكر الإسرائيلي وفي كل كتبهم هم دائمًا يقولون إنهم أصحاب سمات متفردة وأن كل من هو غير يهودي فهو غبي وهذا جزء من ثقافتهم.. أما عن الهرم الأكبر فلم يكن لهم أي وجود علي الإطلاق وقت بنائه وإن كان قد وجد ذكر لمجموعات يهودية فهذا الأمر بدأ مع وجود الهكسوس كانوا جماعات قليلة ولكن ليس اليهود هم الهكسوس، وقد ورد في التاريخ المصري أسماء مثل يخمان أو بني حمان وهي أسماء سامية لمجموعات هندية أو هندوأوروبية وسامية عاشت في مصر في تلك الفترة وشاركوا في بناء معابد مصرية تحت قيادة مصريين، لكن في عصر بناء الهرم وفترة الملك خوفو ومِن حول الهرم مقابر زوجاته وأسرته وكبار رجال الدولة ثم مقابر العمال بناة الأهرام وليس هناك ذكر لهم.
ومن ثم إذا كانوا يدعون أنهم جاءوا وبنوا لنا الهرم إذن أين الحضارة التي بنوها في بلادهم وأين أهراماتهم التي بنوها في بلادهم؟ من يبني حضارة يجب أن يكون متحضرًا من يريد أن يحضر الآخرين يجب أن يكون متحضرًا … فمملكة العبرانيين التي يفخر بها بنو إسرائيل عاشت حوالي ثمانين عامًا فقط أين حضارتهم التي أقاموها في أرضهم كي يتوجهوا لبلاد الآخرين فيبنوا لهم حضارتهم؟
” إن حضارتنا مستهدفة وهناك من يحاول تشويه صورتها ” ، بوجه عام من أصحاب الحقد الحضاري، فالحضارة المصرية حضارة راقية جدًا. أما الحاقدون فأجدادهم لم يتمكنوا من إقامة حضارة بنفس المستوي، والحقد لا يكون علي صاحب سلطة أو صاحب مال بقدر ما يكون علي صاحب حضارة.
هناك دول لها قوة ضخمة جدًا لكنهم لا يملكون البعد الحضاري ولا يملكون القوة الحضارية ، فالحقد الحضاري موجود بالذات عند اليهود الذين يحاولون إثبات أن تاريخ العالم كان يتمحور حولهم وأنهم كانوا أصل هذا التاريخ وأن كل ما هو عظيم في هذا التاريخ هم الذين بنوه، وأنهم لهم الفضل في بناء الأهرامات ومعابد الكرنك والأقصر ويريدون أيضًا أن يقولوا إن الهكسوس هم اليهود وأنهم أصحاب فضل علي الحضارة المصرية حكموا سكانها وبنوا فيها حضارة.
وبالطبع هناك أدلة ملموسة وغير ملموسة لهذا التزييف الحضاري والتآمر علي الحضارة المصرية من قبل اليهود آفة كل عصر / إنهم يتصورون أن رمسيس الثاني هو فرعون الخروج الذي طرد بني إسرائيل من مصر، وهم لا يملكون دليلًا علي ذلك فلو نحن كمصريين نملك دليلًا سنعلن، نحن لا يخجلنا شيء في تاريخنا، لكننا لا نملك لا دليلًا في الحضارة والآثار المصرية رغم الاجتهادات المتعددة من الباحثين الاثريين ولا دليلًا في النصوص التوراتية ولا حتي في القرآن الكريم.
أما فيما يخص الاراضي الفلسطينية فكما ذكر أستاذ ايهاب الحضري فالجدار يتقدّ م ومن بين أهدافه الرئيسية التهام تراث المنطقة على عدة مستويات، لذلك فإن:” آثاره كارثية على التراث والمشاهد الطبيعية في فلسطين ، مرحلته الأولى وحدها شهدتْ تدمير عشرة مواقع بصورة
مباشرة، إضافة إلى دخول سبعين موقعاً آخر في حيز منطقة عازلة، تفصل بين الجدار والخط الأخضر، الذي يشكل حدود الضفة الغربية لعام 1967 :” بما يُخرج هذه المواقع عملياً من دائرة السيطرة الفلسطينية” . الرقم السابق قد يبدو مرتفعاً ، لكن ما يُتَوقع حدوثه في حال اكتمال الجدار يحمل مواصفات الكارثة، حيث يُنتظر أن يتم إخراج خمسة آلاف موقع أثري وتراثي فلسطيني من دائرة السيطرة الفلسطينية! ، مما يوفر منطقة مفتوحة تضم شرق القدس التي تعتبر الحزام الواقي لمشروع القدس الكبرى، فيما يعتبر محاولة جديدة لترسيخ ما يطلق عليه الإسرائيليون اسم ” الجغرافيا المقدسة ” ، ورغم أن ما سبق وحده يُعتبر كارثياً إلا أن استعراض التفصيلات يُوضح جوانب أخرى للمأساة.
والجدير بالذكر أن الحفر في مناطق عدة من الاراضي الفلسطينية يتم على عمق 12 م تحت سطح الارض مما يهدد مواقع تعود لعصور ما قبل التاريخ مثل ” تل السكان ” ، ” تل السلطان ” و مناطق أخرى أثرية تعود لفترات مختلفة مهددة بالطمس او التشويه مثل موقع ” تل ستيلو” و يعود للعصر البرونزي المتوسط (3400 – 2900 ق.م. ) ، و مواقع أخرى هامة مثل : “تل الردغة” ، “تل دوثان” ، “كوردانة” ، “تل التل” ، “خربة اليرموك” ، “تل الشيخ أحمد العريني” و التى كانت ذات مميزات اقتصادية و اجتماعية و سياسية بالنسبة لحضارات ذلك العصر .
هوما أدى كما طرح أستاذ ايهاب الحضري ما أسماه ” باغتصاب الذاكرة ” ، تلك العملية التى كثيرا ما تتم بشكل ممنهج ومقصود ومدروس خاصة اذا كان الهدف هوالاستيطان . وهوما يتمنى العدو في عصرنا الحالي أن يمتلك ناصيته .. لإحكام السيطرة بالكامل على دولنا العربية ، مما يستدعي مزيدا من الوعي والمسئولية تجاه أمر كهذا من المتخصصين والمهتمين بالتاريخ والثقافة والتراث.
لهذا السبب أعتبر مناقشة كتاب استاذ ايهاب الحضري ( اغتصاب الذاكرة ) اليوم من أهم الخطوات نحو وعي حضاري اتمنى أن يستمر ويُدًعم بالامكانيات والابحاث والنشر على نطاق واسع من الان كعمل توعوي هام في ظل تلك الحرب القائمة على أشدها ، وبكل تأكيد تستهدف التاريخ والأثر كما تستهدف البشر .