نمر سعدي.. حلف مجازي مع المرأة الوطن
دارين حوماني|شاعرة وناقدة من لبنان
“أنتِ لا تُكتبينَ ولا تُرسمينَ ولا تُشربينَ على عجلٍ..”- هكذا يختصر نمر سعدي (فلسطين) مجموعته الشعرية “نساء يرتّبن فوضى النهار” (وزارة الثقافة الفلسطينية، 2021) التي تتعايش مع عنوانها بشكل تام، فقد كتبها كاملة عن المرأة في فعل شعري حيّ وثنائي بمفردات الشغف والحزن على خط أفقي واحد، ومكتنز بأسباب الحياة في القصيدة. وهي المجموعة الخامسة عشرة للشاعر يغرينا فيها بقراءة منمنماته العشبية والمائية في جردة حساب تتّسع لكل من سبقوه في كتابة المرأة مستهلًا ديوانه بأبي تمام “فكأنَّني مُذ غبتَ عنَّي غائبُ”، وابن الرومي “أُعانقها والنفسُ بعدُ مشوقةٌ”، مستحضرًا صديقة ليل امرئ القيس، وحزن جلجامش الأبديّ، والمرأة السمينة التي يبحث عنها محمد الماغوط، وحصان تو فو الذي يبحث عنه سركون بولص، وصوت آنا أخماتوفا الناري، ومدام بوفاري غوستاف فلوبير، ونساء لوركا، وغزليات ريلكه. يريد سعدي أن يكمل عنهم كتابة المرأة عن كثب، قصائد تعتني بها وبرسمها بهدوء، فلا توضع في قالب مجازي متسرّع وتقليدي قد يشتغل على تذويب الشغف العميق الذي يكنّه الشاعر للمرأة بدل أن يحييه.
يبدأ نمر سعدي بتعريف نفسه بـ “الشجر” في قصيدة مطوّلة ومصفّاة مكتوبة وفق تخطيطات تفعيلية متفرّقة أو متواصلة: “شجرٌ أنا، شجرٌ قديمٌ طاعنٌ في الحبِّ أو في اليأسِ، أبحثُ في الحياةِ عن القصيدة.. أقولُ للمعنى: أنا شجر..”. وفي هذا التشبيه يشير إلى الطبيعة الأنثى المتجدّدة رغم تصويره لها بالطاعنة في السنّ مثل عمارات محمّلة بذاكرة بلاده المتعبة، وبحبّه اللامتناهي، وبالحياة التي تصبّ من ناحية اليأس كيفما حاول الشاعر اجتذاب الفرح: “أقولُ لبائعِ الأحلامِ: خذ حبقَ الظهيرةِ وانصرفْ عنيِّ/ ولامرأةٍ يرفرفُ وجهها الشتويُّ في وجهي وأطرافِ الأصابعِ:/ جنَّتي كوني، لأهبطَ مثلَ آدمَ من سمائي.. واحتويني/ من توقُّفِ رغبتي في المنتصفْ/ لا تُطلقي نارًا على فرحي فلستُ أنا الهدفْ”. وفي مكان آخر يقول “أُفكِّرُ مثلَ الحديقةِ، يا ليتني شجرٌ عاشقٌ/ ليتني شجرٌ مثلَ بعضِ النساءِ”، وبالمعنى نفسه يسير سعدي بين “أنا شجر” و”أفكر مثل الحديقة، يا ليتني شجر”، وهو معنى البقاء والاستمرارية، وبين تماهيه مع الشجر وتماهي الأنثى مع الشجر يفرد لنا خيطًا جامعًا بينه وبين المرأة التي تجسّد خلاصة العناصر الكونية الأزلية.
يعرّف سعدي لنا حياته بقصيدة كاملة عن الأنثى “حياتي قصيدةٌ عن امرأةٍ تهوي في ثقبٍ أسود/ أو في هاويةِ روايةٍ منسيَّةٍ لهمنغواي”، وفي مكان آخر يقول: “حياتي ليستْ قفصًا من الذهبِ المصفَّى/ علَّمتني ألَّا أقيسَ المسافاتِ بمكعبَّاتِ القهوةِ ولفافاتِ التبغِ المستورد”، “حياتي مضغوطة في كتابٍ على الرَّفِ/ منسية بين هاويتينِ/ ومحشورة في ظلالِ الغبارْ”، هنا لا يخاطر سعدي ولا يصدم؛ إنه يكشف لنا بانسيابية بالغة القشرة الباطنية لحياته بمنظور فني مجازي يؤدي معنى الخسارة والخيبة مرتقيًا بالذاتي ومزاوجًا بين حياته والأنثى في قصائد بصرية تمامًا.
أما القصيدة التي يبحث عنها نمر سعدي فيمنحها أيضًا الشكل الأساسي للأنثى في أكثر من مكان “والقصيدةُ ظلٌّ على الأرضِ/ وامرأةٌ كلَّما رقصتْ مونيكا بلوتشي غارتْ/ من الوهجِ الأُرجوانيِّ في خصرها/ كيفَ لي أن أُعلِّمها أن تحبَّ بدونِ مقابل/ أو تقرأَ الآخرينَ بلا لغةٍ”. وفي قصيدة أخرى يقول: “القصيدةُ أُنثى تلوِّحُ من شرفةِ الصيفِ/ للغرباءِ الحيارى وللشعراءِ السكارى”، و”ظلُّ القصيدةِ في تفاصيلِ الحياةِ دخانُ عنقاءٍ”، ثم يدلّنا على تراجع القصيدة وانحدارها العذب كأصابع امرأة “القصيدةُ التي أحلمُ بها في كلِّ ليلةٍ/ تنسحبُ كأصابعِ امرأةٍ/ من قلبي ومن حدائقِ المجازِ/ وأنساها بكاملِ جمالها وحزني”، فتظهر لنا القصائد كلوحات حية عن الأنثى، مع نفحات غنائية كئيبة تذكّرنا بمقدمة كلود روي عن أحزان بودلير الباريسية: “ستجدون في هذا الكتاب رجلًا مغرمًا بامرأة مثالية بلا حدود، إنها غير قادرة على ارتكاب خطأ في العاطفة أو في الحسابات”. إن نمر سعدي يبحث في حياته عن القصيدة التي ليست سوى امرأة، يعطيها شكلًا مثاليًا، يحبها بهدوء عاشق حزين، يعترف بذلك ليتحرّر ربما من يأسه وصمته ووحدته، وهو يعيدنا هنا إلى عنوان مجموعته الشعرية “يوتوبيا أنثى” التي يصطبغ فيها البحث عن الأنثى بالبحث عن عالم سديمي مجرّد من أحزان الأرض.
ويتّجه صاحب “وصايا العاشق” إلى الثنائية التي عكف عليها شعراؤنا العرب في عدد من قصائدهم، يقول سعدي: “في البيتِ يسكنني اثنانِ: شخصٌ يؤوِّلُ معنىً غريبًا برائحةِ امرأةٍ كانَ ضيَّعها في سرابِ القرى أو دخانِ المدينةِ/ وآخرُ يحلمُ كيفَ سيجعلُ من هذهِ الأرضِ يوتوبيا”، ويقول أيضًا: “قالتِ امرأتانِ: الفراشاتُ رزقُ الفقيرِ/ نصيبُ المُحبِّ الذي ليسَ يرضى”، وفي مكان آخر :”لوحةٌ ينسلُّ منها عاشقانِ ملوَّعانِ/ ويذهبانِ إلى حدودِ العطرِ بالليمونِ أو أقصى الشغف”، ويُكمل إثنيته في قصيدة أخرى “وكلَّما حدَّقتُ في وجهِ البحيرةِ تخرجُ امرأتانِ منها”، و”في القلبِ شبَّاكانِ منسيَّانْ/ يتفتَّحانِ على حدائقِ بابلٍ وضرورةِ العبثيِّ في المعنى/ أو المنسيِّ في الأحلامِ/ والتقبيلِ في نيسان”. وقد استعار سعدي هذه الثنائية من الخطاب العربي بالمثنى، وهو “خطاب جمالي محض، ويعوّل فيه على سحر البيان والأثر الموسيقي للصوت في النفس البشرية”، كما يعرّفه محمد علي شمس الدين في كتابه “الكشف والبرهان ونقيضه”. إن هذه الثنائية التي نجدها لدى امرى القيس: “قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل/ بسقط اللوى بين الدخول وحومل”، وابن الرومي: “يا خليليّ تيمتني وحيد/ ففؤادي بها معنّى عميد”، والمتنبي: “يا ساقييّ أخمرٌ في كؤوسكما/ أم في كؤوسكما همّ وتسهيد” إلى قصائد تخاطب المثنى من مالك بن الريب والمعري وغيرهما، يستقي منها نمر سعدي سحر الثنائية وجماليتها ويجدّدها في شكل شعري معاصر فلا يبدو شاعرنا فقط شاهدًا على تراثنا العربي، الذي يتوجّب على كل شعرائنا أن يرثوه قبل البدء بالكتابة، إلا أنه يضع هيروغليفية محدّثة لهذه الثنائية ويستخدمها بأشكال شعرية متنوعة.
وباء كورونا
لا تنأى تجربة نمر سعدي الأخيرة عن وباء كورونا الذي توغّل في مفردات الشاعر في أكثر من قصيدة. وفي قصيدة مطوّلة يصعب تفكيكها، ينتقل سعدي من صورة إلى أخرى ومن ومض إلى آخر، لا يخترع فيها لغة جديدة ولا يتمرّد عليها؛ إنه فقط يرتّب معجمه اللغوي الذي ينتمي الحزن إليه دون خطأ في الترتيب، فلا تهدأ الكلمات قبل أن تهتزّ أغصاننا الداخلية وتهدِّدنا باللا-عودة إلى حياتنا قبل هذه الجائحة، والتي تحوّلت كائناتها إلى أحجار تحت جلد كمامة تفصلنا عن الزمن، “في الشارعِ العشبيِّ كورونا/ على غبشِ النوافذِ/ في الأزقَّةِ/ في هواءِ البحرِ كورونا/ وكورونا على وردِ الأسرَّةِ/ في الحدائقِ أو على طلعِ الزنابق/ في البيوتِ.. وراءَ روضِ الشايِ.. في عطرِ الأُنوثةِ/ وفي الرواياتِ الجديدةِ / في دواوينِ الغبارِ/ يقولُ شخصٌ في الطريقِ لآخرٍ: لا تقتربْ منِّي.. فإنِّي السامريُّ/ تقولُ سيِّدةٌ لأُخرى في العيادةِ: كم تعبتُ من الحياةِ.. وكم ندمتُ على الذي قد فاتَ/ تقودُ كورونا الأرضَ في هذا الربيعِ إلى متاهتها/ فهل تُجدي القصائدُ في مديحِ جمالِ سيِّدةِ السنابلِ أيَّ نفعٍ أيُّها الشعراءُ؟”.
ويصل نمر سعدي إلى طفولته فيأخذنا معه إلى أقصى بهجاته الهاربة، وتتكشّف لنا الصور المجازية التي يقدّمها الشاعر عن علاقته الحميمية بأمكنة الطفولة البريئة والمتشرّدة التي توقّع شاعرنا لمستقبلها أن لا تعرف السعادة، “أبحثُ عن صورتي في الطفولةِ/ عينانِ حالمتانِ بسربِ أيائلَ/ لا تعرفانِ طريقَ السعادة”، “نداء ما خفيَّ الجرحِ يذهبُ للطفولةِ/ ساكنًا في أجملِ الأشجارِ أو ورقِ الهواءِ”، “أستبدلُ تفَّاحةَ حواءَ بأثرِ قُبلةٍ على حجرٍ/ قصائدَ الغزلِ الحسيِّ/ بطفولةِ الشاعرِ المتشردَّة”. وتجمع حقول الشاعر الدلالية بين الطفولة والحزن وبين الطفولة والطبيعة، فيبتبدّى لنا انشغال الشاعر بهروبه إلى أكثر الأمكنة ابتعادًا عن غبار هذا العالم.
“أُريدُ أن أحضنَ صوتكِ/ صوتكِ فقط/ أن أتخاصرَ معهُ في الشارعِ/ أن أُمسِّدهُ كما أفعلُ عادةً مع العصافيرِ الخريفيَّةِ وأنتِ تقولينَ لي: ماذا أفعلُ بقصائدِ حبِّكَ/ في هذا الشتاءِ؟/ هل أتدفَّأُ عليها؟/ أم أُسدِّدُ بها فاتورةَ البيتِ والكهرباءِ؟”.. “توسَّديني كأني الأرضُ أو حبقُ الغاوينَ في كلِّ واد/ وسدِّي جسدي/ كلُّ النهودِ وسادٌ حينَ تُتَّسدُ/ كلُّ النساءِ بلادٌ.. أينَ لي بلدُ؟”. إن صورة المرأة في قصائد نمر سعدي هي مرآة لنوازعه الداخلية والعاطفية الصافية، حنان متدفق لا يختبئ، بل يصير كيانًا متوهّجًا قائمًا بذاته لا يحيلنا إلى امرأة واحدة من لحم ودم، بل تصبح المرأة بلادًا ترتّب فوضى الشاعر كما سمّى عنوان مجموعته، ويتمسّك بها ليصير له وطن ينتمي إليه.
يوغل نمر سعدي في عذوبة الكلمات والمجازات إلى الحدّ الأقصى للتفوّق على مرارة الحياة، تتوارى قصائده حيث يبدأ الوجود، في ظل امرأة حضورها ثابت في كل قصائد الديوان، ويتجسّد اندفاعه نحوها في البحث عن الدفء في مدن تمارس عنفها على نفسها، وفي عالم يخلق مفارقاته المأساوية وصدماته المعاكسة لأحلامنا التي لا نستطيع نفضها عنا لأننا بها فقط نبقى ونستمر.