د. منير توما والثّراء اللّغويّ والمعرفيّ
صباح بشير| ناقدة وروائية فلسطينية
مسيرة فكريّة مضيئة
يواصل الدكتور منير توما مسيرته الفكريّة، منذ أن شرع فيها بسخاء وعمق، لتمتّدّ مضيئة تنير العقول والنّفوس، وتؤثّر في المشهد الثّقافيّ المحلّيّ.
تتميّز هذه المسيرة بحيويتها وتجدّدِها وانفتاحها على المزيد من الأسئلة والإنتاجات الخصبة، فإلى جانب انشغالاته الفكريّة، يمارس شغفه بالكتابة والتّأمّل وطرح الأسئلة، سواء عبر ما ينشره من الكتب أو من خلال مقالاته المتنوّعة، في الفكر والفلسفة والشّعر والنّقد الأدبيّ.
في الوقت ذاته يهتمّ بتحليل ما أنتجه الكثير من المبدعين والمفكّرين والفلاسفة والحكماء من الرّعيل الفكريّ الأول، ومن الأجيال المتعاقبة، مخلّدا ذكراهم ومحتفيا بهم، راصدا بدراية وتمكّن مسارهم في الفكر والكتابة، متناولا مصنّفاتهم واجتهاداتهم، مركّبا لأسئلتها ونتائجها.
هو عاشق للّغة العربيّة، يحيك خيوطها ببراعة ويجيد تطويعها باقتدار، وبكتابات تطغى عليها التّعابير اللّيّنة الرّقيقة، يتألّق في استخدامها كأداة فنيّة، يبني بها جسرا من الجمال اللّفظي، ليربط بين أفكاره وقلوب القرّاء.
هذا القلم الفكريّ النّقديّ، التّنويريّ الإنسانيّ، يكتب ما يؤمن به دون حرج، يصنّف الغثّ من السّمين، ويميّز بين الكتابة المثقّفة الواعيّة والكتابة المنتفخة. يمزج بين حبّ المعرفة وحبّ الكلمة؛ لينتصر للإبداع والجمالِ والمحبّة، وإِنسانيَّةِ الإِنسان.
نعم، فهو الأديب والنّاقد والشّاعر، يمتاز بتعدّد مواهبه وغزارة إنتاجه، هو صاحب الكلمة والفكرة النّاصعة الجليّة. وحين وصلني كتاب “رؤى فكريّة وأدبيّة”، فرحت به واستمتعت بقراءته، فما من عمل مبهج للنّفس والعقل أكثر من القراءة، أسكن إليها فأجد فيها نفسي، ولا أخرج من وهجها أو عوالمها البيضاء.
هذا الكتاب “رؤى فكريّة وأدبيّة”
صدر هذا الكتاب عن دار سهيل عيساوي للطّباعة والنّشر، وهو يقع في (113) صفحة، يضمّ مجموعة من الدّراسات والمقالات الوازنة، التي تبحر في ثيّمات وانشغالات مختلفة، فنّيّة وثقافيّة. يتوجّه به الكاتب إلى القارئ بموضوعات قريبة من القلب، وبلغة سلسة واضحة، وأسلوب رشيق أنيق.
أمّا عن مقالات الكتاب فهي مقالات ذات اتجاهات مستقلّة، وأبعاد متعدّدة بالمعنى الفكريّ والفلسفيّ، بعضها قد نشرت في الصحف والمواقع الإلكترونية، ونالت إعجاب القرّاء.
هذه المقالات تبحث في أمور مختلفة، تتفاعل بين الصفحات، تتحاور وتتجاور، وتستند إلى مبادئ الانسجام والائتلاف والاتصال، وهي ليست جزءا من بنيّة واحدة، ولا ترتبط ببعضها البعض بِعَلاقة تكامليّة.
تُحفِّزُ على التّفكير والنّقاش البنّاء، وتُظهِر بوضوح أنّ القلم الفصيح يتألّق دائما بحبّ الثّقافة والعلم والأدب، ويعكس ذوق الكاتب في التّعبير والتّفكير والبحث، وما يتمتّع به من ثقافة وذوق فنّيّ وأدبيّ، وحرص على تقديم الأفضل. وبفضل هذا التنوّع والتعدّديّة في المقالات، يستمتع القارئ برحلة فكريّة مثيرة وممّتعة، تنقله بين مفاهيم التّحليل والتّأمّل، وتجعل من قراءته تجربة غنيّة ومثمرة.
كما تُعَدّ هذه المقالات مساحة للحوار، فقد شيّد الكاتب من خلالِها تواصله بين أدباء وفلاسفة وحكماء، ليسوا بالضّرورة معاصرين لبعضهم البعض، ولا بحاضرين جميعهم في المكان والزّمان ذاته، أعاد قراءة أعمالهم الأدبيّة والفنّيّة والفكريّة، برؤى جديدة، وفي سياق يسترفد ممكنات القراءة، حاور إبداعاتهم؛ وعمل على سبر أغوارها ومكنوناتها؛ للتّوصل إلى ما يشكّل تميّزها عن سواها من الإبداعات؛ وسرّ خلودها وتفرّدها الماثل في أعطافها. وعليه، فالعمليّة النّقديّة عنده ليست مجرّد تفسير أو نقل للفكرة والمعنى، بل هي عمليّة تفاعليّة إيجابيّة فعّالة، يتدخّل فيها بمعارفه وذخيرته المكتسبة وثقافته الخاصّة.
يتميز هذا الكتاب بالثّراء المعرفيّ، يعمل على تنمّية القدرات التّحليليّة للقارئ، يمنحه فرصة للاطّلاع على أفكار جديدة من زوايا مختلفة، ويدفعه إلى التّفكير في أمور لم يكن يفكّر فيها من قبل، كما يساعده على توسيع مداركه وتطوير رؤيته للأدب والفنّ العالميّين، ويشجّعه على الاستزادة المعرفيّة. من هنا تبرز أهميّة هذا الكتاب، الذي يجمع بين القيمة العلميّة والأدبيّة، يقدّم رؤى جديدة للقضايا الفكريّة والثّقافيّة من خلال تحليلات الكاتب التي امتازت بالأناقة والإيجاز، والابتعاد عن التّعقيد والمواربة.
في ميدان الإبداع
يفتتح د. توما كتابه بإهدائه إلى كلّ المستنيرين من عشّاق الأدب والفكر النيّر والفنّ الجميل. يتناول مواضيع الفنّ والفنّانين، الأدب والأدباء، الحكمة والحكماء.
يبدأ بالمقالة المعنونة: “أثر الشّاعر الإنجليزي وليام بليك في قصة جبران خليل جبران الأجنحة المتكسّرة” (ص6)، يخوض دراسة ومقارنة بين قصيدة بليك ورواية جبران، فيكتب: “إنّ المهجرين في أمريكا الشماليّة وعلى رأسهم جبران، قد عالجوا حقيقة الحياة وعالم الرّوح، أثّرت فيهم رومنطيقيّة الشاعر الإنجليزي وليام بليك. تأثّر جبران به تأثّرا لافتا، فأطلق استياءً عاطفيّا وصرخة هادئة في ثورة انفعاليّة في روايته الأجنحة المتكسّرة، وهو يحاول إيقاظ المجتمع من غفلته”.
في هذا السّياق تناول الكاتب أثر بليك من خلال قصيدته “رؤى بنات ألبيون” على ما كتبه جبران في روايته. بليك في قصيدته يقدّم شخصية “بوتون” وهي الشخصيّة المجازيّة للنّساء البريطانيات المستعبدات في المجتمع آنذاك، ورواية جبران هي نسخة معدّلة لمفهوم الشّاعر عن البراءة والتّجرِبة. جبران وسلمى يُجبران على مجابِهة الواقع المرير، وبسبب المعايير والقواعد الاجتماعيّة الظّالمة، يحرمان من تحقيق حبّهما، تموت سلمى ويَترُك جبران بلاده دون رجعة.
يقول د. توما: في العملين هجوم على المعايير التقليديّة وإنكار لشرعيتها، ودعوة لتحرير الأنثى المستعبدة، وتدمير للمبرّرات الدّينيّة الزّائفة، وجبران يعبّر عن موقفه تجاه السّلطة الدّينيّة. داعيا إلى نظام اجتماعيّ يتأسّس على الأخلاقيّة والفضيلة المتحرّرة من قيود العقيدة، ويستنتج أنّ كلّ الأديان تؤدّي إلى الطّريق نفسه، الذي ينتهي إلى الله، إذن فجميع الأديان واحدة، ولا فرق بين دين وآخر. وخلاصة القول إنّ جبران قد قرأ الشّاعر الإنجليزي بليك، واكتشف الميل والرّؤى المتبادلة بينهما.
في المقالة الثانيّة (ص12) يتحدّث الكاتب بإسهاب عن أغنية “يا من يحنّ إليكِ فؤادي”، يستعرض ما فيها من المعاني السّاميّة والجماليات الفلكلوريّة، ومظاهر الحبّ والوفاء، ورقة الشّعور ونبل العاطفة.
في المقالة الثّالثة: “ألبير كامو ومعتقده بعدم وجود معنى للحياة” (ص17) يفتتح الحديث بمّا كتبه “ألبير كامو” في كتابه “أسطورة سيزيف” عن الشّعور بالعبثيّة، فيكتب توما سؤالا فلسفيا: هل تستحق الحياة أن تُعاش؟ إنّ قبول العبثيّة هو بداية الطريق إلى فلسفة أعلى، إذ يعتقد البعض أنّ الحياة لا معنى لها، وأنّ كلّ شيء يحدث فقط بالمصادفة. ولكن يمكنّنا إيجاد معنى الحياة إذا تقبّلنا الحقيقة، وإذا استطعنا التّغلّب على خيبة الأمل واليأس، وتجنّب الأوهام والأحلام الزّائفة واليقين المفرط، حينها فقط سنجد الوضوح والقوة.
في المقالة الرّابعة (ص21) يحلّل ويعلّق على سونيت شكسبير رقم (115) فيقول: إنها تحمل تشابها لقصيدتين من تأليف الشّاعر الإنجليزي “جون دَن”، وهما نمو الحبّ، ولا نهائية المحبّ.
يعرّج على الحبّ والجمال في قصيدتين من القصائد المغنّاة: “يا ليل الصَّبُّ متى غده” لأبي الحسن القيروانيّ و”مضناك جفاه مرقده” لأحمد شوقي (ص25) فيقول: تشترك القصيدتان في الانتماء إلى مدرسة الرّقة العاطفيّة، فكلا الشّاعرين هنا، رغم البعد الزّمنيّ بينهما، يعبّران عن شعر رومانسيّ غنائيّ حالم، يُفصح عن محبّ عاشق، متفتّح لروحانيّة الحياة وجمالياتها في بحار من الرّؤى والأطياف، تتمرّكز في عبادة وتقديس الجمال، من خلال صور جديدة مبتكرة في قاموس العاطفة والوجدان، وقد تميّزت القصيدتان بقوّة العاطفة وحرارتها، مّا منحهما الصّدق الفنّيّ.
ولا ينسى أديبنا أن يتحدّث عن الفنّان والالتزام بالذّات الفنّيّة (ص32) فيقول: إنّ على الفنّان واجبا أصيلا، ألا وهو التزامه بما يوحي به ضميره. إنّ كلّ الفنون بأنواعها تنطلق من حاجة باطنيّة ذاتيّة. ينزع الفنّان إلى التّعبير عن رغبات يصبو إلى تحقيقها، فيقترب إلى وحدة تفاعليّة مع الكون؛ كإنسان يتفرّد بكينونته النّفسيّة، يسعى إلى تحقيق ذاته بطرق منوّعة، وخطوط متداخلة، ومساحات محدودة أو واسعة. ومن خلال عمله الفنّيّ يعلن موقفه الخاص من الحياة والمجتمع، يرسم مجازا للحقيقة، لذا يتوجب عليه أن يكون مؤمنا بنفسه وأعماله مهما تنوّعت. أمّا الحرية فهي ضرورية للفنّان لإبراز الحقيقة من خلال عمله، وهذا ما يتطلّب الفهم الواعي والحقيقيّ لها، فالحريّة نسبيّة ومشروطة بالالتزام.
ينتقل الكاتب ببراعة للحديث عن اللّيبراليّة ونظرتها التّفاؤليّة للطّبيعة البشريّة، فيستطرد قائلا (ص37): إنّ اللّيبراليّة في تجسّداتها الكلاسيكيّة والحديثة، هي مذهب فكريّ، يتمركز على فكرة الحريّة الفكريّة ووجوب احترام الفرد. أمّا وظيفة الدّولة الأساسيّة فهي حماية حريّة المواطن الشخصيّة وحقوقه الإنسانيّة، وضمان حرية التّعبير والتّفكير والملكيّة الخاصّة، لهذا فإنّ الليبراليّة تسعى إلى تقليل دور السّلطة وتوسيع نطاق الحرّيّة المدنيّة.
يتحوّل د. توما في حديثه عن “بليز باسكال” بين العلم والدّين والإيمان (ص43)، يقتبس منه بعض الأقوال ويكتب: “إنّ القلب هو الذي يختبر الله، وليس العقل، وهذا هو الإيمان، إذ يتمّ الشعور بالله بواسطة القلب، وليس بواسطة العقل”. ثمّ يطرح السؤال: هل للعقل دور في الإيمان؟ ناقش “باسكال” مجادلا أنّ العقل وحدة ليس كافيّا لأيّ جانب في الحياة، لأنّ أشياء كثيرة ممكنة منطقيّا، وهي ليست في الواقع حقيقيّة. فكيف إذن نقرّر بينها؟ “نحن نعرف الحقيقة، ليس فقط بواسطة العقل، وإنّما بواسطة القلب أيضا”(ص44). لنتعرّف على الحقيقة، يجب الشّعور بها أولا، وقد قال “باسكال”: “إنّ القلب لديه أسبابه، وإنّ العقل لا يعرف شيئا”.
ثمّ يكتب عن المفكِّر المصري القبطي سلامة موسى، رائد الدّعوة إلى الاشتراكيّة العربيّة (ص47)، يتطرّق إلى حياته ومسيرته وأفكاره، يقول (ص50): إنّ موسى قد قال في أحد كتبه: لقد وجدت نفسي إشتراكيا لقوّة الجذب التي كانت عند الإشتراكيين في العلم والأدب، وقد أدركتني الإشتراكيّة عن طريق الأدب أكثر مما أدركتني عن طريق السّياسة.
ويعود إلى الفنّ والشّعر مرّة أخرى فيتحدّث عن قصيدة “ياجارة الوادي” واستعادة أمير الشّعراء لذكرياته في مدينة زحلة. يعاود الحديث الفكريّ والفلسفيّ مجدّدا فيتطرق إلى تقديس فولتير لحريّة العقل، وحريّة العقيدة والضمير (ص58)، ثمّ ينتقل إلى قصيدة رثاء، كتبها في رحيل الفنّان صباح فخري (ص62)، ويتناول بعد ذلك مقالة لطيفة عن “أصل وجذور كلمات ومقولات شائعة” (ص67)، يناقش فيها أصول بعض الكلمات والعبارات المستخدمة في مجالات حياتية مختلفة. ثمّ يعرّج على أمثال قيلت في الحفاظ على صحّة الجسم (ص74). وفي مقارنة فكريّة يدرس القواسم المشتركة بين “تولستوي” و”المهاتما” غاندي (ص80) فيقول: إنّ “تولستوي” كان طيلة حياته ضمير أوروبا في فترة النّصف الثّاني للقرن التّاسع عشر، كما كان “المهاتما غاندي” ضمير الهند والعالم، إنَّ تولستوي قد أوحى لغاندي بثورة اللاعنف التي قادها وتزعّمها غاندي في الهند ضد المستعمرين الانجليز، وذلك بمقاطعتهم بثورة اكتسبت لون الوداعة التي تمتّع بها غاندي، الذي كان يسعى إلى الأخلاق والإصلاح مثل تولستوي نفسه. كلاهما كان يطلب إصلاح الفرد، وذلك من منظورهما يؤدّي إلى إصلاح المجتمع.
تنتهي صفحات الكتاب وموضوعاته، بمختارات من حكمة الرّوائي الرّوسي “ليو تولستوي” (ص86)، ومختارات أخرى من حكمة “المهاتما غاندي” (ص98)، وقد ترجمهما د. توما عن الإنجليزيّة.
وبعد.. لقد وضع المؤلّف بين أيدينا كتابا مفتوحا ومقالات فكريّة متعدّدة، وظّف الأسلوب التّحليلي في طرحه، عرض أفكاره بموثوقيّة وموضوعيّة؛ الأمر الذي يعزّز من قيمة هذا العمل، ويثري تجربة القراءة. فهو يجمع بين الأفكار والرّؤى العميقة في مجالات مختلفة، ما يعكس وعي الكاتب النّقديّ بالقضايا الثّقافيّة، وسعة اطّلاعه الأدبيّ والفنّيّ، الفلسفيّ والفكريّ. وخلاصة القول هو كتاب كلّما وصلنا إلى نهايته كلّما استأنفنا قراءته من جديد؛ فلنواصل القراءة إذن.