الهجرة بيعة واصطفاء
د. طارق حامد
الهجرة هي الخروج من النفق من طرف كان المجتمع فيه يعج بالشرك والكفر والظلم والظلمات إلى مجتمع يتسم بالايمان وبالقيم والاخلاق والعدالة هذا هو الوصف الصحيح لمفهوم الهجرةحينما نرى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه إلي الايمان بكل مفرداته وتمثل ذلك في قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي الملك الذي لا يظلم عنده أحد قال: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونسيء الجوار ونأكل الميتة ونقطع الأرحام ويأكل القوي منا الضعيف حتى أرسل الله لنا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته فأمرنا بنبذ عبادة الأصنام والإيمان بالله وحده وصلة الأرحام وحسن الجوار وأداء الأمانة فعدى علينا فآذونا حتى نرجع إلى ما كنا عليه.
في هذا القول لخص سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه رسالة الإسلام و كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المجتمع الآسن إلى مجتمع فيه النور وفيه العدل وفيه الحق وإذا تمعنا في هذا المعنى لوجدنا أنه تمثل قبل ذلك في أصحاب الكهف الذين عبروا النفق من مجتمعهم الذي تفشت فيه عبادة الأصنام وكانوا يرفضون كل موحد وكل مؤمن بالله عز وجل وانطلقوا عبر هذا النفق إلى رحاب الله عز وجل في كهف مظلم رغم أنه من صفاته انه كهف منعزل ومظلم إلا أنه فيه رحابة وفيه سعة أودعها الله عز وجل في قلوبهم بإيمانهم بالله عز وجل وهذه هي فلسفة الهجره الإنطلاق عبر النفق المظلم من دار الظلم ودار الشرك إلي دار التوحيد ودار العدل والحق والخير والقيم التي تحمي سياج هذا المجتمع المؤمن وقياسا على ذلك انطلق هؤلاء النفر من أهل الرباط وضربوا أروع الأمثلة والنماذج المشرفة المجاهدة في سبيل الله عز وجل لإعلاء كلمة الله عز وجل ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى والله عزيز حكيم فكانت فيهم الشهادة وكانت فيهم التضحية وكان فيهم الفداء وكانت فيهم الهجرة وكانت فيهم بيعة الشجره وبيعة الرضوان فتحققت فيهم كل هذه المعاني بدءا من الجهاد والرباط في سبيل الله عز وجل ثم الشهادة والهجرة وبيعة الرضوان فنالوا بذلك أعظم الحظ والنصيب من أجر كل هذه المشاهد التي شهدها النبي صلى الله عليه وسلم بدءا من رحلته من مكة إلى المدينة مرورا بهذا الكهف المظلم الذي كان فيه هو وصاحبه رضي الله عنه قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حينما خشي على نفسه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فكانت السكينة التي أنزلها الله عز وجل على صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ،فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم، هذه هي أسمى معاني الهجرة بدءا من بيعة النفس والروح والجسد والعقل والفؤاد والمال لله عز وجل وانطلاقا إلى التمكين لدين الله عز وجل حتى ضج النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء في غزوة بدر الكبرى وهو يقول ويتضرع إلى الله عز وجل اللهم إن تهلك هذه العصابة المؤمنة فلن تعبد في الارض وأشفق عليه سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقال له ارفق بنفسك يا رسول الله فان الله منجزك وعده وهذا هو الصديق رضي الله عنه حينما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذبه الناس ولديه من اليقين لله عز وجل ما تزول به الشم الرواسي وهو الذي ثبت المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ولما ظهرت الفتنة والردة في جزيرة العرب جهز أحد عشر لواء لردع هذه الفتنة وراجعه عمر بن الخطاب في هذا الامر فقال له يا عمر أجبار في الجاهلية خوار في الاسلام والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، فيقول عمر وما أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر لهذا الأمر فعلمت أنه الحق وأن الله عز وجل ناصر جنده، هذه معاني كثيرة من معاني الهجرة في سبيل الله تحققت مع النبي صلى الله عليه وسلم تحققت مع صحابته رضوان الله عليهم الذين باعوا الغالي والنفيس في سبيل الله عز وجل فهذا صهيب الرومي أتاه المشركون وقالوا له جئتنا صعلوكا وأصبحت بيننا سيدا و جئتنا فقيرا معدما وصرت غنيا بين أظهرنا وساوموه على أن يترك ماله ويخلوا بينه وبين الهجرة فقال أرأيتم لو أخبرتكم أين مالي أكنتم تاركي قالوا نعم فأخبرهم بمكان المال وترك الدنيا وهاجر إلى الله عز وجل وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال ربح البيع أبا يحيى ربح البيع يا صهيب ربح البيع أبا يحيى ربح البيع يا صهيب فهذه معاني الهجرة العظيمة تمثلت في الماضي وتتمثل في الحاضر في هذه الفئة المؤمنة التي تنافح عن الدين وتنافح عن العرض وتنافح عن العقيدة ولا شك أنهم نالوا القسط الأعظم من الأجر ؛ من أجر الهجرة ومن أجر الجهاد ومن أجر الشهداء ومن أجر التضحية ومن أجر الفداء فهذا اصطفاء من الله ما بعده اصطفاء وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين