بقلم: هناء عبيد| أمريكا
ساد الصّمت، تعوّدت على ذلك كلما قدّمت له وجبة الطّعام، يعطيني ظهره؛ بينما أقوم بإتمام مهامي في المطبخ. القطة بجانبه، لا تفارقه، أو لا يفارقها، كأنها تعلمت طقوسه، تلتزم الصمت حينما تكون بقربه؛ خاصة في هذا الوقت؛ تأخذ اتجاه جسده؛ أرى أذنيها وذيلها وجسمها المنتفخ من الخلف.
اقتربت منهما، أدرك تمامًا أنه لا يريد وجودي في هذا الوقت بالتحديد، فقد حفظ تعليماتي حد الملل وعن ظهر قلب.
وقفت قبالته، رفع نظره لي بخبث بريء، أيقنت أنه كسر تعليماتي كالعادة حينما رأيت اللبن الرائب وحبات الأرز المنتشرة حول فم القطة، كتمت ضحكتي.
ليش ما بترد عليّ ماما، هادا أكلك إنت، البسة أكلت وشبعت.
بث حلام ماما، يمكن ما ثبعت ثوثو. “بس حرام ماما، يمكن ما شبعت سوسو”.
أحاول أن أكون صارمة، لكن نظرات العطف والبراءة في عينيه؛ تجبرانني على الضحك، ضممته إلى صدري. ربّتُّ على ظهر القطّة التي أصبحت أحد أفراد الأسرة منذ قرابة العام.
كنت بصحبة صغيري لشراء بعض حاجيات البيت، القطة السمراء ذات العيون العسلية سلبت عقله كما فعلت بي، أجزم أنه كان حبًّا من النظرة الأولى، رَكَضَتْ نحوه ثم تعلقت بصدره، حضنها، أصر على أن يأخذها إلى البيت، أظنه كان إصرارًا مشتركًا بيننا.
بالرغم من شعوري بالخوف من أن تكون(سوسو)-اسم الدلع الذي اختاره لها- مصابة ببعض الأمراض؛ إلا أنني وافقت أن تعيش بيننا. شعرت بالغمّة حينما تذكّرت ميزانيتي الماليّة التي لا تحتمل كلفة زيارة عيادة الطبيب البيطري، فهي تحتاج إلى أخذ اللقاحات اللازمة والتأكد من سلامة صحتها. كل شيء في غزة استثناء وله وضعه الخاص؛ تبرع جارنا سعيد؛ الطبيب البيطري، بالكشف عليها وإعطائها اللقاحات المناسبة دون مقابل، أكد لي سلامتها وخلوها من الأمراض، قابلت مجهوده بشكر عميق وطبق غزاوي لذيذ.
جمعت حبات الأرز المتناثرة على الأرض، وضعتها في وعاء الطعام الذي بدا لامعًا بعد أن لعقته القطة، حاولت أن أنظف وجهها بمنديل مبلل، تملصت من بين ذراعيّ.
توجهت إلى المطبخ لأكمل مهامي. أراقب صغيري وصديقته الّتي وجد العوض فيها عن أبيه؛ (الشهيد).
يمارس شقاوته المعتادة، يحمل عصًا، تتدلى منها سمكة بلاستيكية، تلاحقه القطة لاصطيادها لتثبت له جدارتها واستحقاقها لحبه ودلاله، أبتسم، أحاول أن أهدئ من شقاوتهما؛ حتى لا يزعجا جيران الطابق السفلي. كم من المرات قدمت اعتذاري عن الأصوات المزعجة التي يصدرانها لجارتي سميرة، تحلف وتؤكد لي بأنها لا تسمع شيئًا، وأنه لو صادف وأن سمعت؛ فإن وقع ذلك الضجيج يمر كأنغام الموسيقا على أذنيها.
من تحت الركام الذي أطبق على أنفاسنا بعد انفجارات مباغتة، أحلق بعينيّ المغبشتين في الفضاء الضيّق المتاح.
لحظات معدودة، قلبت مجرى الأمور رأسًا على عقب. العمارة التي بنتها أحلامنا انفجرت بمن فيها، لا أرى سوى غبارًا ينتشر في الفضاء، أجسادًا محشورة بين قضبان حديدية وكتل إسمنتيّة، لا أحد يسمع صراخنا سوى آذاننا، أسمع بكاء طفل مخنوق، مواء قطة، صراخًا يأتي من كل صوب، أنتظر المجهول، لأول مرة أدرك أن اللحظة الزمنيّة يمكن أن تمر دهرًا. سمعت دويّ سيارة الإسعاف، رأيت رجالًا وسيدات يلملمون قطعًا من الأجساد، يضعونها في أكياس بلاستيكيّة، لا أدري كم مرّ من الساعات أو السنين حتى وصلنا المشفى!
الدماء تغطي وجه السيدة الممددة على السّرير المجاور، أسمع صراخها، تبكي بغزارة، تصرخ:
وين أولادي؟
تحضنها الممرضة وتهدئ من روعها.
ألتفت حولي، أرى صغيري وبجانبه القطة السمراء، تحيط عينه اليسرى شاشة بيضاء، يلتفت لي، تحدق عينه اليمنى في عينيّ، يشير بيده إلى صديقته سوسو، بينما يده الثانية تلقم الطعام في فمها، يحدثني بصوت فرح:
هادا أتل البثة ماما مث أتلي! “هادا أكل البسة ماما مش أكلي”
أحاول الاقتراب منه ومد يديّ لضمه إلى صدري؛ يدي اليمنى مربوطة بالشاش، أما اليسرى..فقد انفصلت عن جسدي!
