عن مدني صالح، والرصافي، وقوّة الموقف

عبد الرزّاق الربيعي | شاعر ومسرحي وكاتب صحفي

ذات صباح بغداديّ بارد،  جمعني، لقاء على غير موعد بالمفكر الراحل مدني صالح، وكانت تربطني به علاقة طيبة منذ يوم تتلمذت على يديه بمادة الفلسفة بقسم اللغة العربية بجامعة بغداد في الثمانينيات، جرى ذلك اللقاء يوم الجمعة ٣١/١/١٩٩٢ وكنت قد شاهدته يمشي قرب الجسر الحديدي لابسا(الجينز) وحذاء رياضيا، وبلوزا من الصوف، وكنت متوجها لموعد مع صديقي الشاعر عدنان الصائغ في مقر مجلة” أسفار” بمنتدى الأدباء الشباب الكائن في الطالبيّة، فنزلت من السيّارة، متحسّبا أن تكون سيارته قد تعرّضت لعطل في مكان، وتركها، فسلّمت عليه، وسألته عن أمره، فأجاب: لا يوجد شيء سوى إنني أؤلّف، فقلت له: آسف، ظننتك بحاجة إلى مساعدة، فقال: بالعكس، أتيت بوقتك، تعال معي لنؤلّف معا، فانضممتُ إليه، وسألته، وماذا تؤلف؟ أجاب: رواية، تدور أحداثها في لندن”، وصار يحدِّثني عن ذكرياته بجامعة كمبردج، حتى وصلنا الباب المعظّم، ثم الميدان، وشارع الجمهورية، وسوق الشورجة، حتى بلغنا جسر الأحرار ثم عدنا إلى ساحة الرصافي، وهنا قال” لم أجد للرصافي بيتا يلفت نظري”!

 قلت له: كيف؟ لكنه يقول:

يا راجيَ الأمرِ لم يطلبْ له سببًا

كيفَ الرمايةُ عن قوسٍ بلا وترِ

وكذلك :

 ياراحلا وفؤادي في حقيبته

 رهنا لديه ولكن غير مضمون 

تركتني في شجوني للورى مثلا

 يميتني الوجد والأشواق تحييني

قال: له قصائد، وأبيات، ولكني لم أعثر على بيت مهمّ

وحين شعرت باليأس، قلت له: وهذا التمثال!؟

نظر إلى التمثال، ثمّ أجاب: هذا التمثال استحقّه بقوّة الموقف حال أبي نوّاس، الذي تمثال ملأ شارعا، والشارع ملأ بغداد، رغم أنّ في شعره الكثير من البذاءات، ولكن قوّة الموقف جعلت له تمثالا، سألته: أيّ موقف، وشعره كما تقول مليء بالبذاءات؟ 

وقف، وأطرق، ثم أجابني بحدّة : الاستقامة في السوء أفضل من التذبذب في التقوى” ثم تابع سيره، وهو يكرّر ” الرصافي استحقّ تمثالا بقوّة الموقف” 

 ومنذ ذلك اليوم، وأنا أقيس الشاعر، والأديب بقوّة موقفه، فالنتاج الأدبي لا يشفع دائما  له عند القاريء، لابدّ أن يكون مدعوما بقوّة الموقف في الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى