أدب

مكتبة.. قصة قصيرة

هناء عبيد| أمريكا

سأزور صديقتي اليوم؛ بداية عليّ التأكد أن لديها الوقت الكافي لاستقبالي؛ أحترم طقوسها الخاصة التي لا تحيد عنها.
كلما أردتّ أن أغوص في عمق المدن، وأستحضر فلسفة الأذهان، أطرق بابها بعد أن تعطيني الضّوء الأخضر لزيارتها، إذا قدّمت اعتذارها عن استقبالي، أدرك أن هناك كتابًا استحوذ على وقتها فأخذها مني، أشعر بالغيرة أحيانًا، إذ لا أحب أن ينافسني الكتاب في رفقتها.
لم تكن تلميذة عاديّة في المدرسة، كلّ عام، اسمها يعتلي لوحات الشّرف، المرتبة الأولى في المدرسة دومًا من نصيبها، معظم النّقاشات الّتي تدخلها مع المدرّسات تنتهي بفوزها.
أباغت رفوف مكتبتها بين الحين والآخر؛ لأتحدّى زعمها بأنّ العناكب لم تزر أيّة زاوية منها، أصبحت تدرك معنى تحديقي في زوايا رفوف كتبها، فتقول لي كلّ مرة: لن تجدي تلك الحشرات الفضوليّة، أليس هذا ما تتمنيه يا صديقتي؟! ثمّ تضحك وتقول: العناكب تخشى الاقتراب، تعلم أنّ الأماكن المسلّحة بالعلم لا تُترك وحيدة هنا، تدرك أنّ هناك من يقف لها بالمرصاد، كيف تعتقدين ولو لوهلة واحدة أنّه من الممكن لي أن أتنفس دون أوكسجين؟! أنت تعلمين أكثر مني أنني أغرق إن ابتعدت عن رئتيّ. أنظر إليها بعينين تكشفان خبثي البريء.
حينما نتحدّث بشأن كتاب، تتملّص من الزّمن ساعات دون أن ندرك ذلك، قد نتحدّث عن كاتب؛ تلصّصنا على خصّوصياته من خلال كلماته، نتساءل بمزاحنا المعهود، ما الّذي يجعله يعشق فلانة دون الأخرى؟! ثمّ نبحث عن تلك الحبيبة، نلج في عالمها بفضوليّة بريئة، نحاول أن نتعرّف على عالم المرأة الّذي يدّعون بأنه مجهول، ألم يدركوا بعد؛ أنّ صفحات الرّوايات تفضحه بوضوح؟! كلّ تجربة غاصتها أيّة سيّدة من أيّ موقع في بقاع الأرض، دلقتها الرّوائيات حبرًا على الورق، بل تعدّى الأمر إلى أنّ بعض الكتّاب أيضًا لم يكتموا لها سرًّا؛ فنقرأ اقتحامهم لعالمها المكشوف الّذي يصرون على أنّه مغرق بالألغاز.
لم تسلم كتب الأغذية أيضًا من فضولنا، نغوص في عالمها، نتحدّث طويلًا عن أهميتها وما تحتويه من فوائد صحيّة جمة، نحلم باقتنائها؛ (رغم عدم توفرها في معظم الأوقات) لقد أصبح شراؤها أمنية بسبب غلاء أسعارها الّتي لا يحتملها دخلنا المحدود.
حينما أزورها، علي أن ألتحق بالحافلة الّتي تسير بي مسافة قصيرة قبل أن تقذفني في الحارة الّتي تصطفّ فيها السّيارات، لأركب إحداها حتى أصل إلى بيتها، المسافة بيننا ليست طويلة؛ لكن من الصّعوبة قطعها مشيًا على الأقدام. لقائي بها أسبوعيّ، وإن لم نلتق وجهًا لوجه، يجمعنا الفضاء الأزرق، نفرغ شحنات أحزاننا، نحكي حكاياتنا، نتشارك فيما اختزنه ذهننا من معلومات وثقافة
متجددة.
تمنّيت لو أنّ لديّ مكتبة كمكتبتها، ظروف عائلتي المادية لم تسمح بذلك، اعتمدت على المكتبة العامة، وشبكة الإنترنت الّتي توفر الكتب المجانية؛ أما المواضيع المميزة فقد كانت مكتبة صديقتي هي المصدر الأفضل لها.
هاتفتها، لم تجبني، علمت من الأخبار بأن الشّبكة العنكبوتية تعطلت في الحيّ الّذي تقطنه بعد إلقاء موجة من القنابل المدمرة عليه. قررت الذّهاب إلى بيتها لأطمئن عليها، لم يكن الأمر سهلًا؛ فقد فرض الحصار علينا البقاء في المنازل.
انتابتني مشاعر قلق، تضاربت السيناريوهات الّتي اختلقها ذهني، هل ما تزال على قيد الحياة؟! هل اغتالتها القنابل المتوحشة؟!
بعد انتظار طال أمده، عادت الشّبكة للعمل؛ فتحت صفحتها في الفيس بوك، على غير العادة لم أجد لها موضوعًا جديدًا، كتبت رسالة أسألها فيها عن أحوالها، شارة المسنجر لم تظهر وصولها.
قررت الذهاب إليها مشيًا على الأقدام، فكرة مجنونة أقلقت والدتي، المسافة قصيرة، لكن تحفها المخاطر، عليّ تقبّل احتماليّة سقوط موجات ماطرة من القنابل والانفجارات على رأسي.
الصعوبات فاقت توقعاتي؛ اختفت السّيارات من الطّرق، استُبْدِلَت بالبغال المسنّة الّتي ما زالت في قمة عطائها -ربما لأنها ولدت في غزة- شقاؤها فرضه الاحتلال؛ بغال بتلك الأعمار يفترض أن تكون خارج الخدمة منذ أزل؛ الاحتلال البغيض أجبرها على النهوض من راحتها، الرّحمة الّتي وضعها الله في قلوب أهل غزة، وهبتها طاقة مضاعفة استطاعت من خلالها مواصلة عطائها وأداء خدمتها في مثل هذه الأوقات العصيبة.
خرجت من المنزل، ملامحي الشاردة ترافق ضربات قلبي المتسارعة، سَمِعْت صوت والدتي يخترق جدار البيت، نادتني بأعلى صوتها:
أتمنى أن تطمئني على صديقتك، لكن ما تفعلينه جنون!
لم أبتعد كثيرًا، الحرائق انتشرت كالهشيم بعد سقوط أحد الصواريخ على حيّنا، أخَذَتْ معها كلّ ما صادفها من أرواح وبقايا سيارات مركونة على الأرصفة المهجورة. عدت أدراجي، محمّلة ببؤسي، كيف لي أن أقع أسيرة العجز والاستسلام، أودّ أن أعرف مصير صديقتي، هل التهمتها النيران؟! هل قضت نحبها تحت أنقاض الكتل الإسمنتية؟ هل ابتلع صوتها سكوت البشرية؟!
لم يكن هناك لي خيار سوى الانتظار، تحترق روحي آلاف المرات، أستمع إلى حدسي، أو أحلامي؛ أراها حيّة ترزق، تُناولني الكتاب الّذي اتفقنا على مناقشته هذا الأسبوع.
أتجمد في زاوية الغرفة، أحاول أن أغلق أذنيّ؛ كي لا أسمع أصوات الضجيج. تهدئ من روعي والدتي، تطبطب على كتفي رغم حاجتها إلى يد الرّحمة أكثر مني.
مرّ الليل طويلًا، أقلبّ فيه صفحات الفضاء الأزرق بحثًا عنها، أخيرًا وجدت صورتها تتوج صفحة إحدى صديقاتي، أراها تقف بالقرب من خيمة، جدرانها مصنوعة من القماش، نوافذها؛ فتحات مغطاة بقطع شفافة بلاستيكيّة.
لم أر كتبًا، إنما لافتة خطتها يدها بحبر من دم؛ تقول فيها: ” الإنسانية انتحرت”.
عبارةٌ رافقت صورة صديقتي:
فقدنا زهرة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى